أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - شخصية المسيح
السنة 2004
المسيح في البستان

1ـ بستان الليل

«وجاء يوم الفطير الذي كان ينبغي أن يُذبح فيه الفصح» (لو22: 7).  بعد كل أعياد الفصح، التي تشير إلى مرور السنين منذ خروج شعب إسرائيل من مصر، جاء فصحٌ أخير، وكان سيقدم حسب الأوامر الإلهية.  حملان بلا عدد قُدِّمت، وكلها ترمز إلى حمل الله الذي كان سيقدِّم نفسه في ذلك اليوم: «نحن مقدَّسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة» (عب10: 10).

كان الفصح عيد مسائي «هناك تذبح الفصح مساءً، نحو غروب الشمس... وتطبخ وتأكل...  ثم تنصرف في الغد وتذهب إلى خيامك» (تث16: 6-7). كانت الفرحة هي سمة عيد الأسابيع وعيد المظال ”وتفرح في عيدك“.  لكن الفصح لا يعرف الفرح، فقد كان يعلن الليلة التي أسلم فيها سيدنا، واليوم الذي يليه بساعاته المظلمة.

عندما أعلن المسيح ـ في عشائه الأخير مع تلاميذه ـ عن الخائن، خرج هذا الأخير للوقت «وكان ليلاً» (يو13: 30).  ليل للخائن، وليل أيضًا للمخلِّص.  وعمل الرب العشاء الرباني الذي سيُذَكِّر قلوب أحبائه به على مَرّ العصور.  لكن كيف استطاع أن يشكر على الخبز والكأس؟  «كأس البركة التي نباركها» (1كو10: 16).  هذا أمر مفهوم، لكن بالنسبة له فإنها تعني آلام الصليب الرهيبة، وترك الله له، والحياة المبذولة، والدم المسكوب.  قبل عمل العشاء الرباني رفض الرب كأس خمر الفرح، لأن ساعة استلام كأس الآلام من يد الآب كانت قد حانت. ولكنه كان يعرف أنه سيشرب، يومًا ما، كأس الفرح مع أحبائه «من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب، مستهينًا بالخزي» (عب12: 2)، بل استطاع أن يسبِّح مع تلاميذه قبل الذهاب لجبل الزيتون.  لقد شاهدناه في الأناجيل يصلّي، يبكي، يشجِّع، وهنا لأول مرة نسمعه يسبِّح، في الوقت الذي كان سيبدأ فيه السير في طريق آلامه، وسمح له الآب باستقدام - لوقت قصير - اليوم الذي فيه سيعود «بالترنم حاملاً حزمه» (مز126: 6؛ إش53: 11).  ألا نرى في هذا لفتة صغيرة من اهتمام الآب لبعض خطوات ابنه؟

قد جاءت الساعة ـ بالنسبة له ـ للانتقال من هذا العالم إلى الآب، وطالب بأن يخصِّص هذا الوقت له وحده.  في إنجيل يوحنا من أصحاح 13 إلى 17 يكشف عن أفكار الله السرّية، ويتركها لتلاميذه، فكلّمهم عن الآب وبيته، وعن المُعزّي وعن أشياء أخرى كثيرة.  في نهاية إصحاح 16 بعدما قال كل شيء، شهد التلاميذ مشهدًا رائعًا: الشخص الذي اتضع لدرجة غسل أقدامهم، رفع عينيه إلى السماء كما لو كان يريد أن يقيم علاقة بين أحبائه والآب، فسمعوه في هذه الصلاة الرائعة المذكورة في أصحاح 17 يتكلم عن المجد الذي كان له ”قبل كون العالم“، وعن المحبة التي توجد بين الآب والابن ”قبل إنشاء العالم“، وسمعوا الابن يطلب من الآب بشأن المحيطين به - الذين أعطاهم له الآب - لكي يتمكنوا يومًا من مشاهدة هذا المجد ومعرفة هذه المحبة.

«قال يسوع هذا وخرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون، حيث كان بستان... لأن يسوع اجتمع هناك كثيرًا مع تلاميذه» (يو18: 1-2).  جلس ثمانية منهم عند المدخل: «اجلسوا ههنا حتى أمضي وأصلّي هناك» (مت26: 36)، وانتظروا في الليل، عند باب البستان، عودة سيدهم.  أما يسوع فدخل البستان مع بطرس ويعقوب ويوحنا، حيث «ابتدأ يحزن ويكتئب»، وباح لهم بآلامه التي لم يتحدث إلى آخرين عنها «نفسي حزينة جدًا حتى الموت. امكثوا هنا واسهروا» (مر14: 34)، وابتعد عنهم ”نحو رمية حجر“ و”خر على وجهه“.

بعد التجارب التي جُرِّب بها يسوع في بداية خدمته «فارقه إبليس إلى حين» (لو4: 13)، وها هو الآن يتقدم في الظل «لأن رئيس هذا العالم يأتي» (يو14: 30)، ويبذل آخر مجهود عنيف لإيقاف المخلص، فيضع أمامه آلام الصليب وخزيه وعاره، وتخلي الله عنه أثناء ساعات الظلمة التي صار فيها خطية لأجلنا، كما وضع أمامه الموت أجرة هذه الخطية.  هذا هو الصراع الذي دار في جثسيماني في بستان الليل.

وتوجه يسوع لا إلى الشيطان بل إلى الآب، لأنه يريد أن يأخذ الكأس منه وحده.  وتتجسم أمامه كل خطايا الإنسان وامتداداتها، بأفعال الأمس واليوم وإلى الأبد، مع تمردنا اليومي وحقارتنا وخسّتنا.  كل البشرية حاضرة بخطيتها من كل مكان وزمان.  أما هو فكان محصورًا بين فعل إرادتين كل منهما مقدّسة وكاملة: من ناحية، الابتعاد عن الخطية ونجاستها، ومن ناحية أخرى تتميم إرادة الآب المقدسة الذي يريد إحضار ”أبناء كثيرين إلى المجد“، لكنه رغم ذلك لا يمكنه تجاهل الإهانة الموجهة إلى قداسته من خطية الإنسان.

توجه المسيح للآب بثلاث صلوات. في الصلاة الأولى طلب ”لكي تعبر عني الساعة إن أمكن“ (مر14: 35)، ويقصد بها ساعة الدينونة وتخلي الله عنه. وكان هذا فكرًا غير مقبول لديه بالمرة، بأن يحرم ثلاث ساعات كاملة من الشركة مع الله «وقال يا أبا الآب كل شيء مستطاع لك. فأجز عني هذه الكأس. ولكن ليكن لا ما أريد بل ما تريد أنت» (مر14: 36).  كانت الكأس مملوة بكل نجاسة الخطية.  ومن غير المسيح كان يعلم كيف سيعامله الله عندما يصير خطية لأجلنا؟  صحيح أننا لدينا الوصف الخارجي لهذا الصراع: الصلاة بحرارة التي نسمعه فيها يقول لأول مرة للآب ”أبا“، عرقه المتساقط على الأرض كقطرات دم؛ لكننا لا نستطيع معرفة عمق جرحه النفسي من إزاء سيف رب الجنود (زك13: 7) في الوقت الذي أسلمه فيه للموت، فقد كان كل هذا يمر أمامه ”أجز عني هذه الكأس“.

في الصلاة الثانية لم يعد يقول: «كل شيء مستطاع لك»، ولكنه يقول في خضوع «يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس، إلا أن أشربها، فلتكن مشيئتك» (مت26: 42).

يزداد الألم الناتج عن هذا الجهاد، ويكرر كلام الصلاة الثانية في الصلاة الثالثة.  لكن في الوقت الذي يتهاوى فيه كل شيء يخصّ الإنسان، ويخر فادينا على الأرض، يرسل له الله - الذي يسمعه من سمائه - ملاكًا «وظهر له ملاك من السماء يقوّيه» (لو22: 43).  مخلوق ينزل ليقوّي الخالق!

ماذا رأى هذا الملاك؟  آلامًا رهيبة وعرقًا يتصبب على الأرض كقطرات دم.  ولكن لم يكن هذا الدم النازل دم الذبيحة الكفارية التي تمحو الخطية «عاملاً الصلح بدم صليبه» (كو1: 20).

إذا كان وصف الأناجيل لهذه اللحظات وصفًا مختصرًا، فإننا نجد في سفر المزامير ما يتيح لنا أن نغوص أكثر في هذه الآلام المضنية، مثل صرخة مزمور102: 24 «أقول يا إلهي لا تقبضني في نصف أيامي».  وماذا كان الرد الإلهي؟ «إلى دهر الدهور سنوك... الأرض والسماوات... هي تبيد وأنت تبقى... وأنت هو وسنوك لن تنتهي».

وجد الرب نفسه وحيدًا في هذا الجهاد الرهيب.  ويشبه نفسه في ذات المزمور102 بقوق البرية وبومة الخرب، وهي طيور نجسة (لا11: 17)، لا تتواجد إلا في الأماكن المتهدمة الخربة. 

نام التلاميذ، ولكنه سهر وحده «كعصفور منفرد على السطح».  إن أسطح المنازل في الشرق هي الأماكن التي يتمتع فيه الفرد بصحبة ذويه ليلاً، ولكنه هو كان وحيدًا في ضيقته.

”يا سمعان أنت نائم؟“ (مر14: 37). أ لم يفتخر سمعان هذا سابقًا باتباع سيده حتى إلى الموت؟  لكنه لم يقدر أن يسهر معه ساعة واحدة، ونام من الحزن كالباقين.  لم ير ولم يسمع شيئًا من هذا الجهاد أو من ضيقة سيده.  وقد انتهى القدر القليل الذي كان لدى التلاميذ من التعاطف مع الرب بمرور الوقت، بدون القدرة على اقتحام آلامه أو فهمها فهمًا صحيحًا.

ينهض الرب أخيرًا من صلاته، ويذهب للتلاميذ.  انتهى الجهاد ”يكفي“ (مر14: 41)، فقد أخذ كأس الألم من يدي الآب، ومن الآن فصاعدًا لن يكون هناك ضيق.  لكن كم سيكون هناك من آلام!

يتقدم الخائن، ليلاً، مصحوبًا بجموع مسلّحة، ويقترب من المسيح ليقبّله، فيجيبه السيد: «يا صاحب لماذا جئت؟»  لماذا؟  نعم لماذا؟  أ لأجل ثلاثين من الفضة؟
في الأناجيل الثلاثة الأولى أمسكوا يسوع وقادوه إلى قيافا، أما في إنجيل يوحنا فإن يسوع قدم نفسه قائلاً: «من تطلبون؟  يسوع الناصري... أنا هو... فإن كنتم تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون».  هنا نحن نرى الراعي يبذل حياته نيابة عن الخراف.

2ـ بستان الفجر

وصار سكوت عظيم في الليلة التي صُلب فيها المسيح.  وبعد أن مرت كل طبقات الشعب أمام الصليب، وسخرت من المصلوب وسبَّته، وبعد أن أسلم الرب يسوع الروح، أتى في المساء رجلان: نيقوديموس ويوسف الذي من الرامة عند قدمي الصليب ليعتنيا بجسد الذبيحة المقدسة، ولدفنه.  ولقد تنبأ الأنبياء منذ زمن بعيد عن واحد منهما، وهو الغني.  أما الآخر فكان لا يزال غير فاهم  للكلام الذي قاله له السيد ليلاً: «ليس أحد صعد إلى السماء، إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان» (يو3: 13).  ولكنه استنار فجأة عندما تواجد أمام المسيح وهو على الصليب.

«وكان في الموضع الذي صلب فيه بستان، وفي البستان قبر».  وتم تكفين جسد الرب بمزيج مر وعود نحو مئة منًا أحضرها نيقوديموس، ولفاه بالأكفان التي أحضرها يوسف، ووضعاه في قبر جديد.  أ كان هناك إعلان للإيمان، في سكون تلك الليلة، أكثر صراحة من سلوك هذين الشخصين اللذين حملا بقايا جسد يسوع، الإناء الذي سُرَّت الذات الإلهية أن تسكن فيه؟ لم يكن أي أثر للخطية في ذلك المكان، فقد حملها الفادي في ساعات الظلمة الثلاث، وأصبحت أدناسها ملقاة للأبد بعيدًا عن أنظار الله.
دحرج يوسف الرامي حجرًا كبيرًا على باب القبر، ورحل الرجلان «وكانت هناك مريم المجدلية ومريم الأخرى جالستين تجاه القبر».

وبعد السبت باكرًا جدًا في أول الأسبوع (مت28: 1)، رجعت المرأتان إلى البستان عينه ”لتنظرا القبر“.  كان كل شيء كما هو، وكل الأمور هادئة. وفي الفجر نزل ملاك الرب من السماء، ودحرج الحجر المختوم عن القبر الفارغ، وجلس عليه، إشارة للغلبة.  لم يتلوث أي شيء داخل القبر بالفساد (مز16: 1)، وكان القبر جديدًا، والأكفان نظيفة ومرتبة، والمنديل ملفوفًا في موضع وحده، والحجر مدحرَجًا بعيدًا.

و”الظلام باق“ جاءت مريم المجدلية للبستان، وشاهدت الحجر مدحرجًا عن القبر، فجَرَت لتخبر سمعان بطرس والتلميذ الآخر، فجاءا إلى القبر، وشاهدا الأكفان موضوعة، ولم يكونا بعد يعرفان الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من الأموات.  فمضيا ”إلى موضعهما“.  ثم أتت النساء بالحنوط ”إذ طلعت الشمس“ (مر16: 2)، باكرًا جدًا في أول الأسبوع الذي لا نهاية له.  لكنهن سمعن القول: «لماذا تطلبن الحي بين الأموات؟» (لو24: 5)، وذهبن ليخبرن الأحد عشر والآخرين.

أما مريم المجدلية فلم يكن لها ”موضع“ لتذهب إليه مثل بطرس ويوحنا، فقد ظلت واقفة في البستان ”عند القبر“ تبكي (يو20: 11)، كما كانت ”عند الصليب“ (يو19: 25).  فقد تبعت الرب في حياته لأنه محرّرها، ورأته على الصليب كفاديها، وفهمت أنه بذل حياته لأجلها.  والآن واقفة وحيدة في البستان تبحث لتشاهد وتفهم أكثر.  صحيح أنها أحضرت حنوطًا، ولكن في أعماق ذاتها نمى لديها إحساس بأنه هناك ما يمكن عمله أكثر من تكفين جسد المسيح المختفي.  ومن هذا المنطلق فإنها إذا وجدته ستجد كل ما تبحث عنه، وعندما ترى المسيح ستنال أكثر مما تفتكر.

عندما سألها الرب: «يا امرأة لماذا تبكين؟» لم تتعرف على وجهه، معتقدة أنه البستاني.  ولكن عندما ناداها باسمها ”يا مريم“ تعرفت في الحال على صوته الذي طرد به السبعة شياطين.  لقاء لا يُنسى مكون من كلمتين: ”يا مريم... ربوني“.  أول لقاء مع المُقام من الأموات «ظهر أولا لمريم المجدلية» (مر16: 9).  بامرأة دخلت الخطية سابقًا إلى البستان الأول ”جنة عدن“، وبامرأة تم استقبال الرب المُقام من الأموات والغالب في بستان الفجر!

وظهر الرب لأشخاص آخرين: تلميذي عمواس اللذين عادا لإخوتهما الذين كانوا يحكون عن ظهورات السيد.  وجاء الرب في وسطهم «ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب».  لم يظهر كسيد ظافر منتصر يحكي عن روائعه وبطولاته، لكن ظهر كمن يمرّ بأصدقاء تربطهم به علاقة وثيقة، جالبًا السلام لهم، وأراهم يديه وجنبه «انظروا.. إني أنا هو».  كما أعطى أكثر من برهان على قيامته (أع1: 3؛ لو24: 39-43؛ يو20: 27).

نستطيع اليوم أن نختبر تلك الشركة التي تمتع بها مريم ويوحنا وبطرس والتلاميذ «الذي وإن لم تروه تحبونه. ذلك وإن كنتم لا ترونه الآن، لكن تؤمنون به، فتبتهجون بفرح لا ينطق به ومجيد» (1بط1: 8).

وفى كل أقوال الرب بعدما قام من الأموات لا شيء يفوق الرسالة التي ائتمن مريم المجدلية عليها «اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم».  لكن بالرغم من ذلك الإعلان العجيب كان لدى مريم شيء آخر لتقوله أولاً للتلاميذ :«أنها رأت الرب» (يو20: 18)!