أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - شخصية المسيح
السنة 2004
المسيح في المجمع والهيكل

لم يعلِّم الرب في البيوت فقط (أماكن خاصة) أو على الجبل، أو بالقرب من الماء (أماكن عامة)، لكن أيضًا في المجامع اليهودية وفي الهيكل (أماكن دينية)؛ حيث قابل مواجهات عنيفة.  كانت هذه المجامع في الأناجيل صورة للمكان الذي يلجأ إليه المساكين والبؤساء، وكان رجال الدين لا يكترثون باحتياجاتهم، بينما كان الرب يتحنن عليهم، ويقرِّب إليه التعساء، ويشفي المرضى منهم.

1- في المجمع

منذ بداية خدمة الرب «كان يسوع يطوف كل الجليل يعلّم في مجامعهم» (مت4: 23).  لم يكن يكتفي بمكان واحد أو مكانين، بل في كل الجليل يكرز ببشارة الملكوت.  وكان لدى كل فرد الفرصة ليسمعه.  ماذا وجد الرب في هذه الأماكن؟  الشرعية، الأصول، المظهر الخارجي، وقبل كل شيء الشقاء الإنساني.  في البداية كان المسيح ”ممجَّدًا من الجميع“ (لو4: 5)، لكن سرعان ما ظهر التناقض.

بالرغم من العداوة والجفاوة التي قابلها الرب كثيرًا، كان لا يكل ولا يمل من دخول المجامع والتعليم فيها.  وقال ذلك في نهاية حياته على الأرض: «أنا علّمت كل حين في المجمع» (يو18: 20).  كانت أعماله تؤيد تعاليمه (مت9: 35).  وبالرغم من وجود أمور معيبة - في نظر الله - في هذه المجامع، إلا أنه دخلها لإظهار نعمته، ولأن وجوده دائمًا سبب بركة للجميع.

وفي كفرناحوم، يوم السبت، دخل الرب المجمع وكان يعلم كمن له سلطان وليس كالكتبة.  وكان هناك رجل به روح نجس، صرخ قائلاً: ”آه“، ليعبِّر عن استيائه من وجود صاحب كل سلطان على الشياطين ”أتيت لتهلكنا؟“. وانتهره يسوع وخرج الروح النجس من الرجل محيرًا الجميع (مر1: 21-28).

«ثم دخل أيضًا إلى المجمع» (مر3: 1)، ووجد رجلاً يده يابسة «فصاروا يراقبونه هل يشفيه في السبت، لكي يشتكوا عليه».  لم يشفق أحد على الرجل المسكين، ولكن توترت الأعصاب لانتهاز الفرصة ليشتكوا على الرب الذي كان سيجعل من يد غير نافعة أداةً فعالة.  وقام الرجل في الوسط كما أمره الرب وسأل يسوع بكل صراحة: «هل يحل في السبت فعل الخير أو فعل الشر؟  تخليص نفس أو قتل؟  فسكتوا».  وعبّر مرقس، في كلمات قليلة، عن حزن الرب إزاء هذه القساوة «فنظر حوله إليهم بغضب، حزينًا على غلاظة قلوبهم».  أثارت قساوة هؤلاء الخبثاء، الغضب الإلهي الذي سيسمى في يوم الدينونة ”غضب الخروف“ (رؤ6: 16).  ومَدّ الرجل يده وبرأت، وتشاور الفريسيون مع الهيرودسيين ليهلكوه إذ كانوا يريدون البقاء على مبدإ الناموس، رافضين كل الرفض مبدأ النعمة.

وعاد يسوع للناصرة حيث كان قد تربى «ودخل المجمع حسب عادته يوم السبت وقام ليقرأ» (لو4: 16).  في البداية تعجَّب الجميع «من كلمات النعمة الخارجة من فمه»، وبعد ذلك (إلا إذا كان لوقا قد جمع في مكان واحد بين موقفين مختلفين) عندما تكلم الرب عن ذات النعمة التي امتدت في الماضي لتشمل أناسًا من الأمم «امتلأ غضبًا جميع الذين في المجمع حين سمعوا هذا»، وحاولوا دفعه من الجبل الذي كانت مدينتهم مبنية عليه «أما هو فجاز في وسطهم ومضى».  كان من الممكن أن يترك نفسه ليُلقى من فوق الجبل دون الخوف من أدنى خطر يلحق به (مز91: 12)، لكنه مضى بكل هدوء، حاجبًا مجده الإلهي.  ولم يستطع أن يصنع هناك معجزة واحدة ”لعدم إيمانهم“.  ومع ذلك وفي نعمته الغنية «وضع يديه على كل واحد منهم (من السقماء بأمراض مختلفة) وشفاهم».

وفي مجمع كفرناحوم ألقى يسوع عظة كبيرة عن خبز الحياة (يو6)، فهو نفسه هذا الخبز الحي النازل من السماء الواهب والضامن الحياة، الخبز الذي هو جسده ودمه اللذان يبذلهما لأجل حياة العالم.  فماذا كان رد الفعل؟  «من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه». سأل الرب بحزن الاثني عشر: «أ لعلكم أنتم أيضًا تريدون أن تمضوا؟  فأجابه سمعان بطرس: يا رب إلى من نذهب؟  كلام الحياة الأبدية عندك. ونحن قد آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي».  كانت إجابة بطرس فيما يبدو تحمل شعاعًا من الرضا بالذات.  لذا أجابه يسوع: «أ ليس إني أنا اخترتكم»، وكان في خلفية هذا الاختيار تتراءى صورة يهوذا الإسخريوطي، الذي كان مزمعًا أن يسلمه.

«وكان يعلّم في أحد المجامع في السبت. وإذا امرأة كان بها روح ضعف ثماني عشر سنة وكانت منحنية ولم تقدر أن تنتصب البتة» (لو13: 10- 11).  لم تطلب المرأة شيئًا، ولم تبكِ أمامه، بل يُحتمل جدًا أنها لم ترَه من كثرة انحنائها.  «فلما رآها يسوع، دعاها، ووضع عليه يديه، ففي الحال استقامت ومجّدت الله».  أبصر قلب الرب هذه المرأة من بين جمع كثير غير مكترث البتة بها، بل ومليء بكل عداوة، حتى إن رئيس المجمع «اغتاظ لأن يسوع أبرأ في السبت»، وكشف الرب رياءه أمام الجمع: «هذه هي ابنة إبراهيم قد ربطها الشيطان ثماني عشر سنة. أما كان ينبغي أن تحل من هذا الرباط في يوم السبت؟».  كم يوجد من مؤمنين اليوم مقيدين بقيود العادات والتقاليد وبروح الناموس، غير متمتعين بالحرية التي في المسيح، ولكن الرب ما زال قادرًا إلى اليوم على فك قيودهم وتحريرهم.  «أخجل جميع الذين كانوا يعاندونه، وفرح كل الجمع».  أما هو «اجتاز... يسافر نحو أورشليم» (ع 22).

2- في الهيكل:

كانت المجامع قديمًا أماكن للصلاة وقراءة الشريعة وأقيمت في عصور تشتت اليهود، وتواجدت في كل مكان يعيشون فيه.  وكان هناك عدد كبير منها في فلسطين.  أما الهيكل فكان واحدًا فقط، فهو مركز العبادة والاجتماع، رمز وحدة إسرائيل. وكان رب الهيكل مزمعًا على زيارته فكيف يكون استقباله؟!  في الماضي غطت السحابة خيمة الاجتماع، ثم هيكل سليمان، ولكنها تركته في عهد حزقيال، ولم تعد إليه أبدًا.  ولكن من كانت السحابة إعلانًا عن حضوره كان سيدخل بشخصه الهيكل الذي يسميه ”بيت أبيه“. فماذا وجد؟

وفي طفولته المبكرة ِأُحضر الصبي يسوع إلى الهيكل حسب الناموس (لو2: 22-38) لكي يقدِّم أبواه ذبيحة، عن الأم لا عن الطفل، حسب لاويين 12.  إلا أن فقر أبوي يسوع لم يسمح لهما إلا بتقديم فرخي حمام.  فمن مسكن الناصرة المتواضع «افتقر وهو غني، لكي تستغنوا أنتم بفقره» (2كو8: 9).

من الواضح أن أحدًا لم يلاحظ الطفل في الهيكل، ولم يعره أحد انتباهه، وهو ”ابن العلي“ والذي ”سيخلص شعبه من خطاياهم“ (لو1: 32؛ مت1: 21).  لم يتقدم أحد إليه إلا شيخ، أتى بالروح، وأخذ الصبي على ذراعيه، وبارك الله وقال: «الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عيني قد أبصرتا خلاصك».  بارك سمعان الأبوين لا الطفل، لأنه كيف وهو الإنسان الفاني يبارك من سيكون «نور إعلان للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل»؟ وجاءت حنة النبية في ذلك الوقت تسبّح الرب، وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في أورشليم (قارن مع ملا3: 16).

«ولما كانت له اثنتا عشر سنة» أخذه أبواه إلى أورشليم في عيد الفصح. وعند رجوعهما لم يعلما أن الصبي يسوع ليس معهما، إذ ظناه بين الرفقة أو بين الأقرباء.  أما يسوع فكان في الهيكل جالسًا في وسط المعلّمين يسمعهم ويسألهم، وهو واعٍ تمامًا لألوهيته (ع49).  لم يخرج قَط عن المرحلة التي تناسب سنه، فهو لم يكن يعلّمهم، وفي الوقت نفسه لم يكن في احتياج إلى التعلم منهم، فهو العالم بكل شيء دون أن يتباهى بذلك.  كان كاملاً في كل مراحل نموه، فلم يتصرف كرجل وهو ما زال طفلاً.

وكم من مرات عديدة دخل المسيح الهيكل أثناء خدمته؟  في يوحنا 5 قابل هناك المفلوج الذي شفاه في بيت حسدا.  لم يصرخ هذا الرجل مناديًا لكي يرحمه ويخلّصه.  لم يكن يقدر على عمل شيء إلا أن يشهد عن عجزه «ليس لي إنسان»، ودام ذلك الأمر 38 سنة.  كان يجهل أيضًا من قام بإبرائه، لذا لزم الأمر أن «يجده يسوع في الهيكل، وقال له: «فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك أشر» (مما يدل على أن مرضه كان - بلا شك - عقابًا على خطإ فادح). وبعد أن شفاه الرب، ذهب لليهود ووشي بيسوع الذي أبرأه.  وهكذا في أحيان كثيرة لا يجد المخلِّص - رغم غنى نعمته - التقدير اللائق به، من قِبَل من استفاد من قدرته.

وفي عيد المظال «لما كان العيد قد انتصف، صعد يسوع إلى الهيكل وكان يعلّم».  وكان انشقاق في الجمع بسببه.  ووسط كل هذا: «نادى يسوع وهو يعلم في الهيكل»، شارحًا إنسانيته وألوهيته الكاملة (يو7: 28-29). «وفي اليوم الأخير العظيم من العيد وقف يسوع ونادى قائلاً: إن عطش أحد فليقبل إليَّ ويشرب» (يو7: 37).  كانت الفرحة هي سمة عيد المظال «وتفرحون أمام الرب إلهكم»، وفي اليوم الثامن محفل مقدس، آخر مواسم الرب السبعة كما نفهم من لاويين 23.  لماذا تحدث المسيح عن العطش في هذا اليوم بالذات؟  لم يقدر الناموس أن يكمل شيئًَا، ولم يقدر على منح حياة.  أصبح يطلق على أعياد الرب ”أعياد اليهود“، وتمارس فيها طقوس وشعائر لا حياة فيها، لكن كان الرب موجودًا هناك، من يؤمن به يستطيع أن يأتي إليه، فيحصل على الروح القدس فيما بعد.  لم يجرؤ الخدّام المكلَّفين بالإيقاع به أن يمسكوا عليه شيئًا: «لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان».  ورغم تحذيرات نيقوديموس اشتدت معارضة الكهنة والفريسيين أكثر وأكثر «لم يقم نبي من الجليل».  ثم «مضى كل واحد إلى بيته»، دون أن يفتح أحد بيته لاستقبال المخلِّص الذي «مضى إلى جبل الزيتون».

يقدم لنا إنجيل يوحنا أربعة أعياد لليهود مرتبطة بالهيكل.  العيد المذكور في أصحاح 5 حيث تقابل فيه الرب مع المفلوج في الهيكل.  وعيد المظال حيث نادى يسوع في الهيكل، وعيد التجديد «حيث كان يتمشى في الهيكل» (يو10: 23)، راعي الخراف العظيم، وأخيرًا عيد الفصح الذي صُلب فيه «انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه» (يو2: 19).

عند وصوله إلى أورشليم، وبعد أن هتفت الجموع ”أوصنا في الأعالي“، «دخل يسوع الهيكل ولما نظر حوله إلى كل شيء، إذ كان الوقت قد أمسى، خرج إلى بيت عنيا» (مر11: 11).  هل نعلم أن الرب يجول ببصره في كل مكان إلى كل شيء؟  أ كان في هذا الهيكل قلب مكرس له أو وضع ما يناسب بيت الله؟  وبحث الرب لعله يجد شيئًا مثل هذا، لكن دون جدوى.  عندما دخل الهيكل أول مرة وجد سمعان الرجل البار وحنة النبية، لكن في ذلك اليوم لم يجد أحدًا.  ”وكان الوقت قد أمسى“ بالنسبة لإسرائيل، فخرج يسوع ومضى.

 ومع ذلك كان الرب يدخل الهيكل كل يوم في آخر أسبوع من حياته على الأرض، أولاً لطرد الباعة مذكِّرًا إياهم «بيتي بيت صلاة يدعى لجميع الأمم، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص». وجاء إليه رجال الدين بمختلف طبقاتهم - رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ - ولكنه كشف رياءهم وعدم إيمانهم.

مرة واحدة فقط تعزى فيها قلب الرب «وجلس يسوع تجاه الخزانة، ونظر كيف يلقي الجمع نحاسًا في الخزانة... فجاءت أرملة فقيرة وألقت فلسين» (مر12: 41-42).  يدوّن لنا إنجيل مرقس أكثر من مرة أن هذه النظرة تركزت على عدة أشخاص، وها هو الآن ينظر للطريقة التي يعطي بها كل فرد في الخزانة.  لا يعني هذا أنه ينظر للكمية المعطاة، ولكن للنسبة التي نحتفظ بها لأنفسنا.  وجاءت الأرملة وألقت كل ما تمتلكه.  أعطت كل شيء لديها، كما هو أعطى كل شيء، وكان في طريقه إلى أن يبذل حياته.

كان آخر أسبوع على وشك الانتهاء «ثم خرج يسوع ومضى من الهيكل» (مت24: 1).  لا شيء باقٍ غير الدينونة.

ومع ذلك يذكر الهيكل هنا مرة أخرى.  فبعد أن مرّت الذبيحة المقدسة بجثسيماني، وجازت آلام الصليب الرهيبة، «صرخ يسوع أيضًا بصوت عظيم وأسلم الروح.  وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين، من فوق إلى أسفل» (مت27: 50،51).

ماذا وجد رؤساء الكهنة وراء الحجاب عندما دخلوا الهيكل ذلك المساء؟  لا شيء البتة «هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا» (مت23: 38).  لكن بالنسبة للمؤمن فإن الحجاب المشقوق يكشف عن سماوات مفتوحة بفضل عمل الرب يسوع على الصليب.  في بداية خدمته أيضًا انفتحت السماوات على شخصه الكريم.  أما المؤمن المفدي فله أن يدخل إلى الأقداس «بدم يسوع طريقًا كرسه لنا حديثًا حيًا بالحجاب، أي جسده» (عب10: 19).  إن الدخول إلى المحضر الإلهي هو دائمًا من خلال حجاب مشقوق، لا حجاب منزوع.  ينبغي علينا أن نتذكر دائمًا الثمن الذي دفع ليضمن لنا هذا الدخول، وهو جسد يسوع الممزق!