أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - شخصية المسيح
السنة 2004
غضب المسيح

لماذا غضب؟... وكيف غضب؟

«لا تَجْعَلُوا قَرْعَةً بين أَعيُنكُم لأجل مَيْتٍ» (تث14: 1)

«اغضبوا ولا تُخطئُوا» (أف4: 26)

«كُونوا رِجَالاً» (1كو16: 13)

«هُوَذَا الرَّجُلُ! (هُوَذَا الإنْسَانُ!Behold the man!)» (يو19: 5)

يتصف الكنعانيون بوجود الشعر مُتصلاً في منطقة ما بين الحاجبين، مما يُضفي عليهم مظهر العبوسة والتجهم وقوة الشكيمة، لا سيما في حالة الغضب.  وكان من عاداتهم ان يَخمشُوا أجسامهم، ويحلقوا ما بين الحاجبين ويجعلوا قَرْعَةً بين العينين لأجل الأموات، أي لإظهار العواطف الإنسانية ومشاعر الحزن نحو أحبائهم المائتين، وكأن لسان حالهم يقول: ”إن الحزن على موتانا قد جعلنا أقل قوة وصرامة ورجولة“.

أما شعب الله فكان في مستوى سام ومقدس، مستوى القرب إلى الله.  وهذا القرب كان يجب أن يؤثِّر على عاداتهم وأخلاقهم.  فجميع خصالهم وعاداتهم، أعمالهم وتصرفاتهم، طعامهم ولباسهم، الكل يجب أن ينبع من هذا الحق العظيم والامتياز السامي: «أنتم أولادٌ للرب إلهكم... لأنك شعب مُقَدَّسٌ للرب إلهك» (تث14: 1،2)، ولذلك جاءت الوصية الإلهية أن لا يتشبهوا بشعوب الأرض وأن «لا تَجْعَلُوا قَرْعَةً بين أَعيُنكُم لاجل مَيْتٍ» (تث14: 1)؟

والمدلول الحرفي لهذه الوصية الإلهية هو عدم الحزن المفرط والمبالغة في إظهار العواطف البشرية إلى درجة تشويه المظهر الرجولي في حالة وقوع ضربة الموت، باعتبار الموت دخل كقضاء عام نتيجة الخطية (رو6: 23).

ويقابل هذا، أدبيًا وروحيًا وكنسيًا، عدم المساومة في أمور الله، ومحاولة تخفيف الأمور بغية التقاء وجهات النظر المشتركة، وخاصة في وجود شر أدبي أو ضلال تعليمي يستوجب القضاء الإلهي!  فلا يجوز أن يكون عندنا أقل تردد عندما نجد حقوق الله غير مُصانة وخاصة في بيته.  ويجب أن تقترن صلواتنا من أجل هذه الأمور بإيجابية التصرف والعلاج.  ولا يجوز لنا بأي حال أن نُظهر السلبية وعدم الاهتمام، ونتراخى في الأمر، ونقف على الحياد وكأن الأمر لا يعنينا في شيء، أو كأننا لسنا مسئولين أو حراسًا لمقادس الرب في وسطنا. 

وتبقى مسئوليتنا قائمة إلى أن نأخذ مواقف جادة في صالح الله وقداسة بيته، ونحكم على الشر، وننفذ المكتوب بالنسبة للشر الأدبي أو التعليم الخطأ بكل حزم وصرامة وشجاعة أدبية ورجولة روحية.  بل إنه توجد ظروف لا يصلح فيها إلا الغضب المقدس المتقد كالنار.  ولا نغالي إذا قلنا إنه في بعض الحالات يكون عدم الغضب شرًا لا يليق بالمؤمن الذي يحب الرب ويغار على مجده.

ويجب أن يتأكد كل منا أن التراخي والإهمال فيما له علاقة ببيت الله، مكروه جدًا في نظر الله.  ولهذا نحن مطالبون بأن نرفض بكل شدة المحاولات التي يريد بها المعلمون الكذبة إفساد أمور الله، فهذا معناه الخيانة العظمى في نظر المحكمة العليا السماوية.

والرب يسوع المسيح هو مثالنا الكامل في هذا الأمر.  إنه الشخص المبارك الذي عظَّم الناموس وأكرمه، وثبت الناموس وأكمله لمجد الله وخير شعبه الأبدي.  لقد كانت له الغيرة المقدسة على بيت الله، وهذه الغيرة جعلته يُطهِّر الهيكل مرتين في أيام جسده على الأرض.  المرة الأولى في مستهل خدمته الجهارية (يو2: 14-17)، والمرة الثانية على مشارف نهاية خدمته (مت21: 12،13؛ مر11: 15-18؛ لو19: 45-47).  لقد أكرم الله أباه قائلاً: «غيرة بيتك أكلتني» (يو2: 17؛ مز69: 9).  وبلغة تثنية 14: 1 فإنه كالرجل الكامل، لم يحلق ما بين حاجبيه، ولم يجعل قَرْعَةً بين عينيه في مشهد الموت الأدبي والروحي الذي رآه في الهيكل «فصنع سَوْطًا من حِبَالٍ وطرد الجميع من الهيكل» (يو2: 15).

وإننا نتعلم منه – تبارك اسمه – لماذا وكيف يكون الغضب المقدس في حياة الرجل القوي، البطيء الغضب والذي له سلطان على روحه (أم25: 28؛ 16: 32).

أولاً: لماذا غضب المسيح؟
إنه من المهم جدًا أن ننتبه إلى الحافز أو الدافع إلى الغضب، لأن كثيرًا ما كان غضبنا نحن مرجعه حب الذات والأنانية، لأن شخصًا ما أساء إلينا. ولكن ربنا المبارك لم يغضب قط بسبب إساءة لحقت بشخصه.

إنه – تبارك اسمه – في ناسوته الكامل، كان له ملء الشعور والإحساس المرهف عندما وقف أحباؤه وتلاميذه بعيدًا عنه، وعندما كان أعداؤه يطلبون حياته، ويلتمسون له الشر، وعندما كانوا ينصبون له الشراك، ويتكلمون بالكذب ضده اليوم كله.  لكنه كان يقول: «أما أنا فَكَأصَمَّ لا أسمع. وكَأبْكَمَ لا يفتحُ فاهُ.  وأكون مثل إنسان لا يَسمعُ، وليس في فَمِهِ حُجَّةُ» (مز38: 13،14)،  وهو «الذي إذ شُتِمَ لم يكن يَشْتِمُ عوضًا، وإذ تألمَّ لم يكن يُهدِّدُ بل كان يُسَلِّم لمن يَقْضي بعدلٍ» (1بط2: 22).  لقد «ظُلِمَ أما هو فَتَذَلَّلَ ولم يفتح فاهُ. كشاةٍ تُساق إلى الذَّبح، وكنعجةٍ صامتةٍ أمام جازِّيها فلم يفتح فاهُ» (إش53: 7)

وتأملوه – أيها الأحباء – أمام رئيس الكهنة، وأمام بيلاطس، وأمام هيرودس، انظروا إليه مُكلَّلاً بالشوك، ومضروبًا على الوجه، ومجلودًا ومُحتقرًا، وهو في كل ذلك لا يفقد هيبته وجلاله، ولا يتخلى عن هدوئه وصمته.  لقد بقي ساكتًا في كل مشاهد الإهانة.  ونقرأ عن سكوته في الأناجيل سبع مرات (مت26: 63؛ 27: 12،14؛ مر14: 61؛ لو23: 9؛ يو19: 9).

ولكننا نراه يغضب لأن الهيكل، الذي يقترب فيه الإنسان من الله، انتشر فيه الفساد، وخرب روحيًا وأدبيًا، وأصبح مجالاًً لإشباع طمع وجشع القادة الدينيين، واستغلالهم لشعب الله.

ونراه يغضب لأن الباعة والتجار والصيارف يدنسون كرامة بيت الله، وبيت الصلاة أصبح بيت تجارة (إش56: 7؛ يو2: 16)، ومجالاً للربح القبيح، بل ومغارة لصوص (إر7: 11؛ مت21: 13).

لقد كان لربنا يسوع الغيرة المقدسة على بيت الله «لأن غيرة بيتك أكلتني».  لقد كانت غضبته موجَّهة ضد الإهانة التي لحقت ببيت أبيه. وغيرته جعلته، ليس فقط يطهِّر بيت الله، بل أن يمضي أيضًا إلى الصليب لكي يموت عليه، إذ قال بعد ذلك مباشرة: «انقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيام أُقيمهُ... وأما هو فكان يقول عن هيكل جسده» (يو2: 19-21).

ثم نراه يغضب لأن نفرًا من متعصبي اليهود، ذوي العقول الضيقة، يفرضون قواعد عقيمة لحفظ السبت تحول دون فعل الخير وشفاء شخص مريض متألم يده يابسة «فنظر حوله إليهم بغضب، حزينًا على غلاظة قلوبهم، وقال للرجل: مُدَّ يدك. فَمدَّها. فعادت يَدُهُ صحيحة كالأخرى» (مر3: 1-6). لقد كان غضبه مقدسًا ومقبولاً، والسبب واضح، لقد حزن على غلاظة قلوبهم، وغضب لأنهم في ناموسيتهم لم يكن لديهم الرحمة والشفقة على الفقراء والمتألمين.  ومع عجزهم التام لأن يسددوا تلك الحاجة، قاوموا بمرارة ذلك الشخص الوحيد الذي عنده القدرة والمحبة لأن يبارك ولأن يسدد كل احتياج.

إن هذا النوع من الغضب المقدس الغير أناني؛ الغضب الذي هو صورة من صور الغيرة على مجد الله وخير الآخرين، هو الذي يحرضنا عليه الرسول بولس قائلاً: «اغضبوا ولا تخطئوا» (أف4: 26).  ويا له من درس خطير لنا نحن المؤمنين أن نهتم بمجد الله وكرامة بيته، وبصالح قطيعه، وبخير النفوس الغالية التي مات المسيح من أجلها.

ثانيًا: نوع غضب المسيح

إننا نعلم من الرب يسوع المسيح كيف يجب أن يكون الغضب في حياة الرجل القوي المالك روحه، لأن الكثير من غضبنا هو الضعف بعينه لا القوة.  هو الصياح والصراخ وحدة الطبع وسوء الخلق وجموح العاطفة التي نعجز عن السيطرة عليها. وكثير من غضبنا قاسٍ لا يلين ولا يرحم، ومُرّ لا أثر فيه للرقة والعذوبة، وحاقد لا يغفر ولا ينسى.

ولكن ماذا عمل الرب يسوع المسيح عندما غضب؟ إنه «لا يَصيحُ ولا يَرفَعُ ولا يُسمعُ في الشارع صوتهُ. قصبةً مرضوضةً لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يُطفئُ. إلى الأمان يُخرج الحقَّ» (إش42: 2،3).  نعم، لقد غضب «سَيًِدي» في مناسبات مختلفة، ولكنه – تبارك اسمه – لم يُخطئ قط في غضبه. فيا للكمال!!... ويا للجمال!!

ولقد كان غضب الرب دائمًا مقترنًا بالحزن.  إن حزنه على الخطاة كان يمضي جنبًا إلى جنب مع غضبه على خطيتهم.  والغضب الذي شعر به إزاء الخطية كان دائمًا مقترنًا بالإشفاق والعطف نحو الخطاة الذين ارتكبوها، ولم يكن في دخيلة نفسه أية كراهية شخصية.  ففي مرقس 3: 5 نقرأ «فنظر حوله إليهم بغضب، حزينًا على غلاظة قلوبهم».  لقد نظر إليهم بغضب مقدس، ولكن خلف هذا الغضب كان هناك حزن شديد في قلبه لقساوة قلوبهم التي ظهرت في عدم المبالاة لحاجة الإنسان المسكين ذي اليد اليابسة.

ولقد نطق الرب بثمانية ويلات خطيرة على أولئك القادة الدينيين الذين أضلوا شعبه وقادوهم إلى رفضه، وأعلن أن الدينونة تنتظرهم، هم وأتباعهم (مت23: 13-36)، ثم صرَّح بالحكم النهائي على أورشليم المدينة المحبوبة (مت23: 37-39) ولكن كم كان قلبه مفعمًا بالحزن المقدس، فقد بكى عليها عند إقباله إليها (لو19: 41-44).  وما زالت هذه هي مشاعره نحو الخطاة الذين يموتون في خطاياهم.

وإن غضب الرب لا يتعارض مع محبته واستعداده الدائم للصفح والغفران.  بل إن غضب المسيح هو الوجه الآخر لمحبته.  فإن المحبة الصحيحة هي التي تغار للحق ولا تتساهل مع الشر.  إنها «لا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق» (1كو13: 6).  ولا يليق أن تكون المحبة على حساب حق الله وكرامة بيته، فإن المحبة في هذه الحالة لا تكون محبة صادقة، بل رياء. بل إن المحبة القوية كالموت هي التي تنتج الغيرة القاسية كالهاوية (نش8: 6).

أفلا نرى في محبة الرب يسوع المسيح لهيب نار متقدة وغيرة لا يمكنها أن تتحمل أية إهانة تلحق مجد أبيه وبيته.  وهذا ما حدث عند زيارة الرب يسوع للهيكل في يوحنا 2. لقد كان غضب الرب موجَّهًا ضد الإهانة التي لحقت ببيت أبيه، ولكنه لم يخطئ في غضبه. 

والمرء عادة عندما يغضب لا يكون متمالكًا لنفسه، ولربما يندفع إلى قول أو فعل خاطئ.  لقد غضب موسى عند ماء مريبة لما رآه في الشعب، ولكنه لم يتصرف حسنًا وأخطأ إذ فرط بشفتيه (عد20: 9-13؛ مز106: 32،33).  لكن «رَبِّي وإلهي» لم يكن كذلك، فلا ترى منه أبدًا تهورًا أو اندفاعًا.  حاشا!  لقد لاحظ التلاميذ غيرته، فعندما رأى الشر لم يسكت، لكنه أيضًا لم يفقد حكمته واتزانه. ولاحظ كيف تعامل «سيَّدي» مع المشكلة:

لقد صنع سوطًا من حبالٍ، لكنه لم يضرب به أحدًا، بل طرد به الجميع – بدون استثناء – من الهيكل.

وبالنسبة للغنم والبقر، طردها، ولا خطورة من ذلك.

ودراهم الصيارف كبَّها.  وهذه يمكن جمعها بسهولة.

أما بالنسبة للحمام، فإنه قال للباعة: «ارفعوا هذه من ههنا!».  ولو فعل أكثر من ذلك لكان ممكن للحمام أن ينزعج ويطير بعيدًا ويستحيل جمعه ثانية ويضيع على أصحابه.

يا للروعة!! ويا للجمال!! ويا للكمال!!
هذا هو الرب يسوع الوديع الحكيم حينما يغضب!
ما أروعك يا سيِّدي!
     ما أروعك في وداعتك وتواضعك!
          وما أروعك في غضبك وغيرتك!
               وما أروعك في حكمتك واتزانك!

أيها الأحباء... إن الطمع الذي أفسد هيكل الله في أورشليم، قد دخل أيضًا إلى هيكل الله الروحي في المسيحية، بنتائجه المدمِّرة. وها المُعَلِّمُونَ الكَذَبَةٌ – وما أكثرهم في هذه الأيام - « يَدُسُّونَ بِدَعَ هَلاَكٍ... وهم في الطمع يَتَّجِرُونَ بكم بأقوالٍ مُصنَّعةٍ» (2بط2: 1-3)، وهم « يَظُنُّونَ أَنَّ التَّقْوَى تِجَارَةٌ» (1تي6: 5).  وإني إذا كنت أرى أو أسمع كلمات التجديف المهينة لشخص ربنا يسوع المسيح ولمجده، ومحاولات التشكيك في صحة الوحي الكامل واللفظي للكتاب المقدس، إن كنت أرى أو أسمع هذه الأمور وأبقى جامدًا ولا تحتد روحي فيَّ، فإني لا أكون في الحالة التي يجب أن تميز المسيحي الذي يحب الرب يسوع ويعتز بمجده وكرامته. إن عدم الغضب في هذه الحالة هو عدم تقدير لمجد وكرامة سيَّدنا المعبود المبارك.

نعم، إنه يليق بنا أن نغضب، وكلما تمكنت فينا محبة المسيح وصفات النبل والكرامة المسيحية الحقيقية، كثرت حالات غضبنا، وخاصة في هذه الأيام الأخيرة الصعبة.  إنما ليكن هذا الغضب على مثال غضب المسيح.
فاغضب ما شئت يا عزيزي المؤمن، بشرط أن تكون مثله في غضبك.