أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - شخصية المسيح
السنة 2004
ذوقًا صالحًا علّمني

هناك أغراض كثيرة لتجسد ابن الإنسان، وما من شك أن أحد هذه الأغراض هو أن يرسم لنا الرب صورة رائعة بديعة لما يجب أن تكون عليه سلوكيات الإنسان الكامل، سواء من جهة منهاج تفكيره وتوجهه، أو ردود أفعاله مع الأحداث التي تدور من حوله، أو أسلوب تعاملاته مع الناس مع اختلاف حالاتهم وتباين وبيئاتهم.

وكم هو رائع وعظيم أنه بين أيدينا أربعة أناجيل، تُقدّم لنا تلك الحياة الفريدة من جوانب مختلفة، لتكوِّن معًا صورة مجيدة نستطيع من خلالها أن نتعرف ولو على القليل من تلك الحياة السامية والراقية.

وأن كان هذا ما نجده بصفة عامة في الأناجيل الأربعة، إلا أن إنجيل لوقا يُبرز لنا إنسانية الرب بصورة أكثر لمعانًا وتركيزًا، إذ أنه مشغول بأن يُصوِّر لنا الرب كالإنسان الكامل، صاحب العواطف الرقيقة تُجاه أعواز واحتياجات الإنسان.  إنه يُكلمنا عن الرب كالكاهن، والذي أحد صفاته أن يكون مجرَّبًا في كل شيء، ليقدر أن يُعين المجرَّبين (عب2: 18).

ولست بصدد أن أتكلم عن الإنسانية المتفردة التي للرب بصفة عامة، إذ أن هذا أعظم كثيرًا من إمكانياتي الضعيفة، إنما سأجتهد أن أُظهر روعة هذا القدوس المجيد في تعاملاته، ليس مع الجموع الغفيرة، ولا مع الأفراد القلائل، إنما  مع "البيت"، أو الأسرة!

ونحن نلاحظ تقدير الرب واهتمامه بالبيت، الأمر الذي غرسه منذ القديم في قلوب قديسيه، حتى أننا نستمع إلى قول الرب عن إبراهيم «لأني عرفته لكي يوصي بنيه وبيته من بعده، أن يحفظوا طريق الرب» (تك18: 19).  ولقد أدرك يشوع ذلك فقال مقولته الشهيرة: «أما أنا وبيتي فنعبد الرب» (يش24: 15).

ولذلك فلا عجب أن ينفرد لوقا بذكر سبعة بيوت دخلها الرب، ولا شك أن الرب دخل بيوتًا أكثر من ذلك، غير أنه اكتفى بهذه البيوت السبعة، والتي يُمكننا من خلال تأملنا لما فعله الرب فيها أن نُكوِّن فكرة جميلة للذوقيات السامية والراقية التي تصرف بها الرب في كل بيت على حدة بما يتناسب مع حالة ووضع هذا البيت.

 وهذه البيوت كما دونها البشير لوقا هي:

1- بيت بطرس (4: 28)     2- بيت لاوي (5: 29)

3- بيت فريسي (7: 36)     4- بيت مريم ومرثا (10: 38)

5- بيت فريسي (14: 1)     6- بيت زكا (19: 5)

7- بيت تلميذي عمواس (24: 29)

 وفي هذه البيوت السبعة نجد تنوعًا وتباينًا. فنجد:

بيت تلاميذ له، وهو بيت بطرس وبيت تلميذي عمواس.   

بيت عشَّارين (جباة ضرائب)، وهما بيت  لاوي وبيت زكا.

 بيت اثنين من الفريسيين، وهما المذكوران في ص7: 36 وفي ص14: 1.

بيت عائلة صديقة، ارتبطت به بالمحبة، وهي عائلة مريم ومرثا.

 لقد دخل الرب كل هذه البيوت بعد أن تلقى دعوة بذلك، وهذا يتناسب مع سمو الرب الأدبي، الذي مع كونه مُرَحَّبًا به من الجميع، إلا أنه لا يفرض نفسه على أحدٍ، باستثناء حالة واحدة، هي بيت زكا، إذ إنه دعا نفسه إليه.  وقد يكون السبب في ذلك هو إن زكا كان يشعر أنه منبوذ ومبغض من الكل، ولم يكن يطمح سوى في رؤية الرب ولو من بعيد.  ولم يكن يظن أن الرب يرتضي أن يتقابل معه، لا أن يتنازل ويدخل إلى بيته.  لذلك بادر الرب ودعا نفسه إلى بيت زكا، وكأنه يقول له إنك لن تحظى فقط برؤيتي من بعيد، بل إنني سأدخل بيتك لتحظى بالقرب مني والحديث معي. 

  تعامل الرب في كل بيت بما يتفق مع حالة مضيفه، فنجده:

1- الكاهن العطوف الذي يرثي، وهذا في بيت بطرس، حينما لبى سؤالهم من أجل حماته (ع38)، باعتباره الكاهن الذي يمد يد العون لمن يسأله.  كما أظهر إشفاقه وعطفه عندما «وقف فوقها» (ع39)، بمعنى أنه وقف يتأمل حالتها، وما آلت إليه من تعب نتيجة الحمى. 

2- الطبيب الذي يشفي، وهذا في بيت لاوي، حينما أعلن نفسه لمن تذمروا عليه، أنه الطبيب الذي أتى كي يشفي كل من شعر بمرضه، وهذا ما حدث مع لاوي نفسه.  والمقصود هنا أنه أتى كي يُقدم غفرانًا لكل من أتعبته خطاياه، وابتغى الخلاص منها.

3- الله الذي يغفر، وهذا في بيت  الفريسي الأول (7: 36)، حينما صرَّح للمرأة التي كانت خاطئة بالقول: «مغفورة لك خطاياك».  ومعروف أنه لا يستطيع إنسان أن يغفر الخطايا، إنما هذا هو سلطان الله وحده (مر2: 7،10).

4- المعلم الذي يشرح الشريعة، وهذا في بيت  الفريسي الثاني (ص14)، حينما شرح لهم فكر الله من جهة يوم السبت، فإنه لم يُعط ليُزيد من عناء البشرية، بل ليكون راحة لهم، فغرض الله من إعطاء السبت هو أن يُعلن عن فكره الرائع، أنه - له كل المجد - يتطلع إلى الراحة التي تجمعه مع شعبه، راحة ليس فيها شر أو خطية.

5- صديق العائلة الذي ينصح ويقوِّم، وهذا في بيت مريم ومرثا، حينما نراه يُقبَل في هذا البيت بكل ترحاب وحفاوة، حيث تربطه معهم علاقة خاصةٍ ومُمَيَّزةً، ولكنه في الوقت نفسه لا يتردد عن توبيخ مرثا عندما تجاوزت حدودها، وتكلمت بكلمات غير مناسبة.  فتدخل الرب سريعًا  ليُصحح أفكارها، ويوضح لها خطئها.

6- ابن الإنسان الذي يُخلِّص، وهذا في بيت زكا، حينما أعلن الرب له عن خلاصه وخلاص بيته (ص19: 9)، وهذا باعتباره ابن الإنسان صاحب السلطان على كل نفس. 

7- الراعي الذي يفتقد خرافه، وهذا في بيت تلميذي عمواس، حينما تنازل في نعمته ورافقهما، بينما كانا منطلقين من أورشليم حيث يوجد إخوتهم، وذاهبين إلى بيتهما في عمواس.  فكانا كخروفين قد ضلا مكانهما، وها هو الرب الراعي الأمين يبحث عنهما ليرد نفسيهما ويصحح أفكارهما، ليعيدهما مرة أخرى إلى مكانهما الصحيح.

وسوف أُلقي مزيدًا من الضوء على بيتٍ واحدٍ فقط من هذه البيوت السبعة، وهو بيت الفريسي الأول، والمذكور في أصحاح7:
إننا لا نعرف الدوافع التي جعلت الفريسي يدعو الرب إلى بيته:

هل طمعًا في الشهرة؟

أم محاولة تصيد خطأ في تحركات الرب وكلماته عن كثب؟

أم التظاهر بأنه الرجل النشيط والمفكر، والذي يعنى بكل ما هو جديد، وهو يريد أن يستعلم بأكثر عناية ما أتى به الرب من تعاليم جديدة؟

أم كل هذه الدوافع، مع دوافع أخرى لا نعرفها؟

غير أننا نرى روعة الرب وقدرته الفائقة في تحكمه الدقيق على مجريات الأحداث، إنه - له كل المجد - الذي يعرف وحده أن يحل أُحجية شمشون: «من الآكل خرج أكل، ومن الجافي خرجت حلاوة» (قض14: 14).

فبينما لم يستفد الفريسي شيئًا من الرب رغم ما تكلفه من نفقات ضيافته، فإن المرأة التي كانت خاطئة، والتي بالطبع لم تكن مدعوة، إذ كانت مرفوضة ومنبوذة من الكل، هي وحدها دون جميع المتكئين حظيت بقول الرب لها: «إيمانكِ قد خلصكِ. اذهبي بسلام»!!

وفي هذا الصدد يصف لنا البشير لوقا سبعة أمور عن هذه المرأة:

كانت خاطئة: إنها ليست مستمرة في خطئها وشرها، بل كرهت ماضيها بكل ما فيه من شر وفساد.  لقد قال المولود أعمى في يومه «كنت أعمى والآن أبصر» (يو9: 25).

علمت أنه متكئ: لقد أظهرت اهتمامًا كبيرًا بالرب، أين يمكث وماذا يقول، وهي في ذلك تذكرنا بامرأة أخرى اشتركت معها في ذات الماضي المُذري، وهي راحاب، والتي كانت تتَّبع أخبار إله إسرائيل وهو يقود شعبه بكل عناية (يش2: 9-11).  إنها أحد صفات خراف الرب: تتبُّع صوت الراعي «خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني» (يو10:  27).

جاءت: وهنا نرى جَرأة الإيمان، فكيف بها وهي المرأة المنبوذة، والمرفوضة من الجميع تتجاسر وتدخل ليس بيتًا عاديًا، بل بيت رجل فريسي؟!  فإن كانت السامرية لم تستطع أن تملأ جرتها سوى في حر النهار حتى تتفادى نظرات الاشمئزاز والازدراء من العيون، فكيف بالمرأة هنا تتغاضى عن كل هذا، عازمة في قلبها أن تحظى بمقابلة أقدس من على الأرض؛ الرب يسوع له كل المجد!!  لقد قدمت في إيمانها ”فضيلة“ أي الشجاعة الأدبية.

جاءت بقارورة طيب: إنها لم تأتِِ فارغة، بل أتت ومعها شيء ثمين.  إنها بذلك أرادت أن تُظهر تقديرها للرب، ورغبتها الشديدة في إكرامه.  لقد شعرت أنه هو وحده الذي يستحق منها كل إكرام وتقدير.

وقفت عند قدميه: إنها علمت أنها ليست أمام مجرد رجل عظيم أو حتى نبي لله، بل أمام الرب، الذي له وحده يليق السجود. وهذا ما أدركه أيضًا بطرس من قبلها (لو5: 8)، ومريم من بعدها (لو10: 39).

من ورائه: وإن نراها ساجدة عند قدميه، إلا أنها أمام قداسته لم تستطع أن تواجهه، وتأتي من أمامه، بل أتت من الخلف.  لقد شعرت بهيبة قداسته، وأنها لا تستطيع أن تواجه عينيه الطاهرتين النقيتين. وكأنها تُردِّد مع موسى قائلة: «من مثلك بين الآلهة يا رب. من مثلك معتزًا في القداسة. مخوفًا بالتسابيح» (خر15: 11).

باكية: لقد سكبت قلبها أمامه، فدموعها سبقت كلماتها.  إنها لم تجد ما تُعبِّر عنه في الكلمات، فعبَّرت بالدموع، وهي بذلك استجابت لقول المرنم «يا قوم اسكبوا قدامه قلوبكم» (مز62: 8).

وما أروع ذلك الإنسان الكامل، وهو يُعلن عما فعلته هذه المرأة، لكن ليس كما فعلت هي فحسب، بل كما رأت عيناه المملوءتان نعمة، وكما وزن هو أفعالها، وكأن عيناه ميكروسكوب، تُكبِّر الأمور الصغيرة وتُعظِّمها جدًا!!

فمكتوب أنها «ابتدأت تبل قدميه بالدموع»، أما الرب عندما أشار إلى ذلك قال: «غسلت رجليَّ بالدموع».  إنها بدموعها بلَّلت فقط قدميه، إلا أن الرب رأى أنها غسلت، ليس فقط قدميه، بل كل رجليه.

مكتوب أنها كانت «تُقبِّل قدميه». أما الرب فقال: «منذ دخلت لم تكف عن تقبيل رجليَّ».
فالعبارة الأولى توحي أنها كانت من حين إلى آخر تفعل ذلك، أما تعبير الرب فهو يوحي بالاستمرارية وعدم التوقف.  كما أنه رآها لا تُقبِّل «قدميه» فحسب، بل ”كل رجليه“.

مع ملاحظة قول الرب العجيب، «منذ دَخَلْتُ لم تكف عن تقبيل رجليَّ»، فهو لا يقول ”منذ دَخَلَت“ المرأة. بل منذ دَخَلْتُ أنا.  وهو بذلك يعتبر المدة التي قضاها في بيت الفريسي قبل دخول المرأة لا قيمة لها، بل ولا تُحسب من الأساس؟!

مكتوب أنها «تُقبِّل قدميه، وتدهنهما بالطيب».  أما الرب فلم يرَ الطيب فقط على قدميه، بل على كل رجليه.

 فما أروع الرب الذي يُكافئ حتى من يُقدم كأس ماء بارد باسمه (مر9: 41)!!

بقيت بعض الملاحظات السريعة عن تباين معاملات الرب السامية والراقية في هذا البيت:

 سمو الرب عن المجاملات الطبيعية:

فمن ناحية قَبِل دعوة الفريسي، رغم علمه بحقيقة مشاعره، فهو لا يصدُّ سائلٌ، ومن ناحية أخرى لم يتحرَّج في أن يكشف تقصيره المُتعمَّد في حقوق الضيافة الواجب أن يُقدمها له باعتباره ضيفٌ عليه.

 ظهور ألوهيته وإنسانيته معًا في تناغم وانسجام بديع:

فبينما نراه إنسانًا مهيبًا، يُمكن لامرأة مسكينة أن تدنو وتقترب منه، ساكبة قلبها أمامه، نراه في الوقت ذاته الله الذي يعرف خبايا القلوب، ويكشف سرائر الناس، حتى أنه جاوب على ما فكَّر فيه الفريسي في نفسه، دون أن يُجاهر به.

وبينما نراه إنسانًا يتكئ، ويُمكن لامرأة أن تغسل رجليه، وتدهنهما بالطيب، وتمسحهما بشعر رأسها، نراه أيضًا الله الذي له وحده أن يغفر الخطايا، فيُعلن عن سلطانه هذا للمرأة أمام الجمع، بكل ثبات ويقين قائلاً لها: «مغفورة لك خطاياكِ».

 تحجيمه الصريح لمن يشعر بالتباهي والتفاخر، وتشجيعه الرائع لمن يشعر في ذاته بالرفض وصغر النفس:

فلقد عبَّر بقصة بسيطة وبليغة في الوقت ذاته عن موقفي كل من الفريسي والمرأة منه في مثل المديونين، فبينما أظهر سبب فتور مشاعر الفريسي من نحوه، إذ كان ممتلئًا بالبر الذاتي الزائف، فلم يُدرك فداحة مديونيته، وفضْل من رفع عنه هذا الدين الثقيل، أوضح البواعث التي من أجلها تأججت مشاعر المرأة من نحوه، وكيف أن محبتها وتقديرها له كانا متصاعدين، بعد أن أنعم عليها ورفع عن كاهلها الضعيف هذا الحمل الثقيل.

ألا يستحق هذا السيد الكريم منا كل تقدير وتمجيد، أو ليس حريٌ بنا أن نتخذه على الدوام مثالاً ونموذجًا رائعًا، نتأمله ونُعجب به، ونشتاق من كل قلوبنا أن نقتفي آثار خطواته، فيتحقق فينا رغبة الرسول بولس لمؤمني غلاطية، ”يتصوَّر المسيح فينا“ (غل4: 19)؟!

عاطف إبراهيم