أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - شخصية المسيح
السنة 2004
شفتاه سوسن

إن الإنسان الكامل، ربنا المعبود يسوع، أظهر توافقًا كاملاً مع مشيئة السماء.  قَطّ لم يستقلّ عن الله، ولم يعمل شيئًا بخلاف رغبة الآب، تميّز بكمال أدبي رائع، ومن ضمن الكمال الأدبي الذي تميّز به ”صمته العجيب“.

وإحدى مميزات الرجل الكامل والعاقل هو ضبط الشفتين «وأما الضابط شفتيه فعاقل» (أم10: 19) وإن كان أحدٌ لا يعثر في الكلام فذاك رجل كامل قادر أن يلجم كل الجسد أيضًا» (يع3: 2).

لقد تعجَّبت الجموع من كلام الرب يسوع، وآخرون تعجبوا من صمته الرزين الشامخ.  صمته كان أحد كمالاته الأدبية، وخلع عليه جمالاً فاق فيه على الجميع.  وبعجالة سريعة نتأمل معًا في بعض مواقف الصمت والسكوت في حياة سيدنا المعبود، متعلمين منه عمليًا ما قاله الكتاب: «للسكوت وقت وللتكلم وقت» (جا3: 7).  مع علمنا أننا بالطبيعة ميالون للتكلم وقليلو الخبرة في براعة ومهارة الصمت والسكوت.  فإن كان الرب يسوع أظهر كمالاً منقطع النظير، فلنتعلم منه حتى نتغير مِن مُسرعين في الكلام إلى مسرعين في الاستماع مبطئين في التكلم (يع1: 19).

متعلم في مدرسة الله

«أعطاني السيد الرب لسان المتعلمين لأعرف أن أغيث المعييَ بكلمة» (إش50: 4).  قضى ربنا سني حياته متكلاً على الله، وفى شركة دائمة معه. وظهرت نتائج الشركة عليه منذ صباه، إذ قيل عنه: «وأما يسوع فكان يتقدّم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس» (لو2: 52). لقد كان طابعه الأول الحكمة والنمو فيها.  الحكمة التي ذخرها كرصيد ثمين مستخدمًا من ذلك الرصيد ما هو مناسب في كل موقف بحسب مشيئة أبيه. لقد عرف أهمية الحكمة، وأن تجارتها خير من تجارة الفضة، وربحها خير من الذهب الخالص (أم3: 14). إن الحكمة الإلهية تعطي المقدرة والبراعة، المهارة والتمييز لاتخاذ قرارات متفقة مع مشيئة السماء.  الحكمة تعطي للحكيم معرفة وتدبيرًا «الحكيم يعرف الوقت» (جا8: 5) والحكماء يفتدون الوقت (أف5: 15،16)، ومن جهة الكلام «ذو المعرفة يبقي كلامه وذو الفهم وقور الروح» (أم17: 27).

لسان الصديق فضة مختارة

لقد اتخذ ربنا المعبود دور المتعلم، وأعطاه الآب لسان المتعلمين.  ومن يأخذ لسان المتعلم لا بد أن يمتلك المقدرة ليستخدم ذات اللسان ليعرف كيف يقدم للمعييَ كلمة.  ”كلمة مناسبة في الوقت المناسب“.  ليس كلامًا أو مجرد عبارات، بل قولاً مناسبًا خاليًا من كثرة كلام.  وكلام الرب كان فضة مختارة.  لم يلزمه مثلنا تحريض حكيم الدهور عندما قال: «لا تستعجل فمك ولا يسرع قلبك إلى نطق كلام قدام الله... لذلك فلتكن كلماتك قليلة» (جا5: 2)، أو كما قالت حنة أم صموئيل «لا تكثروا الكلام العالي المستعلي، ولتبرح وقاحة من أفواهكم، لأن الرب إله عليم وبه توزن الأعمال» (1صم2: 3).

«لسان الصديق فضة مختارة» (أم11: 20) عرف ما يختاره من كلام وعرف متى يتكلم ومتى يصمت، فكان يعرف المُرضي للآب، وتم فيه قول الكتاب «شفتا الصديق تعرفان المُرضي» (أم10: 32).

بعض من مواقف صمته العجيب

كإنسان مثلنا، خضع للمحدوديات البشرية التي نخضع نحن لها، عدا أنه القدوس الخالي من الخطية.  لقد كانت له مشاعر رقيقة وتميّز بإحساس مرهف.  وعاش في أرضنا التي كان كل شيء فيها معاكسًا له، واجه كل أنواع العداء وتعرّض يوميًا للضغوط والاضطهاد، رأى الناظرين المستهزئين ومؤامرات الحاقدين، رُفض من جهلاء، وعانى كثيرًا من عدم فهم الأقرباء، ففي إحدى المرات نزل أقرباؤه من الناصرة إلى كفرناحوم لكي يوبخوه لكثرة انشغاله في الخدمة ونسيان طعامه، حتى قالوا عنه إنه مختل (مر3: 21) لكنه لم يُجبهم بكلمة. صمت أمام هذه الإهانات. وفى مناسبة أخرى رفع اليهود حجارة ليرجموه، أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل مجتازًا في وسطهم ومضى هكذا في صمت (يو8: 59).  عرف كيف يسحب نفسه صامتًا ويذهب لكيما يسكب نفسه أمام الآب.  «الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضًا، وإذ تألم لم يكن يهدد، بل كان يسلِّم لمن يقضي بعدل» (1بط2: 23).

فهل نتعلم أن نصمت عندما نُشتَم؟  وهل نسحب أنفسنا لنسلِّم الأمر لذاك الذي يقضي بعدل؟

بطرس ونكرانه

«فقال بطرس: يا إنسان لست أعرف ما تقول، وفي الحال بينما هو يتكلم صاح الديك، فالتفت الرب ونظر إلى بطرس» (لو22: 60).

أنكر بطرس سيده مُعلنًا أنه لا يعرفه لأنه خجل به.  ورغم صعوبة ومرارة هذا النكران على قلب الرب إلا أنه أظهر ردًّا هادئًا، صمتَ ولم ينطق بكلمة واحدة لأنه لم يحِن وقت العتاب، بل في لفتة حنان نظر لبطرس، وانتظر الوقت المناسب ليقدم كلامًا مناسبًا لبطرس، وهو ما فعله عند بحر طبرية بعد القيامة (يو21: 15-17).  إن الطبيب الحكيم الخبير قدّم في الوقت المناسب، والمكان المناسب، كلامًا مناسبًا لبطرس، معاتبًا إياه وهما وحدهما، فنفع الدواء وشفى الداء.

كم من المرات عاتبنا إخوتنا في وقت غير موافق، وجرحنا مشاعرهم بكلام قاسٍ، وعاتبناهم في مكان غير ملائم.  فلنتعلم من السيد أن نصمت إلى حين أن يكون الوقت للمعاتبة مناسبًا، فنربح أخانا.

يهوذا وخيانته:

في الليلة الأخيرة التي أُسلم فيها الرب أعلن للتلاميذ قائلاً: «واحد منكم سيسلمني» (يو13: 21).  قالها وهو مضطرب بالروح، وبذات الوقت كان مالكًا لروحه، ولم يعلن عن شخص الخائن «البطئ الغضب خيرُ من الجبار، ومالك روحه خيرُ ممن يأخذ مدينة» (أم16: 32).

ففي تلك العشية التي كان يهوذا فيها يتآمر على بيع سيده، كان السيد يدبِّر سترًا لينجيه من مخاصمة التلاميذ.  وفي الوقت الذي كان يهوذا يستعد ليفشي مكان سيده ليسلمه للقاتلين، كان السيد صامتًا ولم يعلن من هو الخائن، بل أظهره في وكالة الصندوق بأنه عامل وأمين (يو13: 29).

صمت الرب، وبسكوت تجرع ألمًا من ظالم، بينما يهوذا يسرع ليبيع سيده لأجل فضة ودراهم.

كم نحتاج أن نتعلم منك سيدنا أن نضبط أرواحنا ونتحكم بما يخرج من شفاهنا، كما كنت أنت: الأمين الروح تكتم الأمر (أم11: 13).

كنعجة صامتة

«ظُلم أما هو فتذلل، ولم يفتح فاه.  كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها، فلم يفتح فاه» (إش53: 7).

لقد وصلوا بالسيد مقيَّدًا إلى دار القضاء، وقبل الوقوف أمام مشيخة الشعب استهزأوا به وجلدوه وغطّوا وجهه سائلينه من ضربك، بصقوا في وجهه ونتفوا شعر وجهه.  وبعدما وقف أمام الحكام الذين تعينوا ليحكموا بالعدل والإنصاف؛ إذ بمكان العدل هناك الجور، وفى هذا المكان أحضروا شهود زور.  كان الحُكم قد صدر قبل المحاكمة، وقد اتقن القرار ضد هذا البار. وإذ برئيس الكهنة يستجوب الرب قائلاً: «أما تجيب بشيء، ماذا يشهد به هذان عليك. وأما يسوع فكان ساكتًا» (مت26: 62،63).  الكل يطالبه أن يتكلم، أما السماء فطالبته بالصمت، فكان جميلاًً في صمته العجيب.

ثم أخذوه إلى بيلاطس الذي قال له: «أما تسمع كم يشهدون عليك؟ فلم يجبه ولا عن كلمة واحدة حتى تعجب الوالي جدًا» (مت27: 13).  لقد تكاثرت الافتراءات وازدادت الاتهامات حتى صار له كم كبير من الملفات، طالبه بيلاطس أن يدافع ويبرهن بطلان تلك الشكايات، لكنه ظل صامتًا رغم كل هذه التحديات، فكان صمته هادئًا، يعلن الكمال في أحرج المواقف.  عبّر في صمته عن توازن عميق، ولم يكن صمته صمت الضعف والعجز ومن ليس عنده كلمات، وليس هو صمت من أُثبتت عليه الاتهامات، بل كان صمته بحسب مشيئة السماء. 

وإذ أخذوه للصلب في أبشع صور الازدراء، عبر الطريق رغم كل التجاديف والتحقير والصياح، لكنه صمت وسكت ليتمم الخلاص.

فهل نتعلم منه الصمت الوقور مردّدين ما قاله صاحب المزمور «بل هدّأت وسكَتُّ نفسي كفطيم نحو أمه، نفسي نحوي كفطيم» (مز131: 2).

موسى، أيوب وربنا المحبوب

تميّز موسى بالحلم والوداعة، وفى موقف الشكايات أظهر حلمًا وصبرًا عندما صمت أمام ما صدر من هارون ومريم من تجريحات «وأما الرجل موسى فكان حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض (عد12: 8).  لكن في مشهد آخر، أمرّ الشعب روحه، ففرّط بشفتيه: «أيها المردة أ من هذه الصخرة نخرج لكم ماء؟» (عد20: 10؛ مز106: 32،33).  هذا موسى الذي كان حليمًا أكثر من جميع الناس.

وأيوب في تجاربه الصعبة أخرج كلمات الشكر والرضى «الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسم الرب مباركًا» (أي1: 21)، ولزوجته أجاب: «الخير نقبل من عند الله والشر لا نقبل؟ في كل هذا لم يخطئ أيوب بشفتيه» (أي2: 10).  «بعد هذا فتح أيوب فاه وسَبّ يومه وأخذ يتكلم فقال: ليته هلك اليوم الذي وُلدت فيه، والليل الذي قال حُبل برجل» (أي3: 1-3).  وما أصعب ما تكلم به أيوب يوم لم يمتلك روحه مفرِّطًا بشفتيه. 

فموسى وأيوب وغيرهما قصّروا في ضبط الشفتين، أما سيدنا المبارك الإنسان الكامل بعد أن صمت في المحاكمات ووسط الإهانات صمتًا بليغًا إلى حد الكمال؛ بعد ذلك فتح فمه على الصليب في أروع كلمات الحب العجيب: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لو23: 34).

بالحق نعجب يا سيدنا من كلمات النعمة التي خرجت من شفتيك، ونعجب كثيرًا من صمتك العجيب، وفي هذا كنت جميلاًً كقول عروس النشيد «شفتاه سوسن تقطران مُرًّا مائعًا» (نش5: 13).