أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - شخصية المسيح
السنة 2004
صورة الله غير المنظور

كل قارئ للكتاب المقدس يدرك، وبسهولة، وهو يتصفح الوحي المقدس، أن في قلب إلهنا رغبة وشوق في أن يتواصل مع الإنسان، ليعلن ذاته له ويكون في علاقة معه.  فإلهنا يريد أن يكون معروفًا للإنسان.  هذا ما نجده من بداية أسفار الكتاب المقدس.  ففي تكوين 3 نرى الرب الإله ماشيًا عند هبوب ريح النهار متجهًا لآدم في الجنة (تك3: 8)، وفي تكوين 18 نجده واقفًا أمام خيمة إبراهيم وقت حر النهار، ثم جالسًا ليأكل عنده، ثم ماشيًا معه ليخبره عما هو فاعله.  وإذ نتقدم أكثر في أسفار العهد القديم يظهر هذا الخط بصورة واضحة.  فالله العظيم الجليل الخالق يريد أن خليقته تتعرف عليه، أن تعرفه في طبيعته وصفاته.  وهذه أعظم بركة من إله كريم نحو الإنسان المسكين الضعيف الذي شوهته الخطية.  وهذا ما عبّر عنه الله حين قال:

«ولذاتي مع بني آدم».

لكن كيف للإله الجليل الفائق الذي قيل عنه «ساكنًا في نور لا يُدنى منه»، أن يُرى من إنسان قد أفسدته الخطية؟  كيف للإله القدوس أن يأتي للإنسان دون أن يهلك هذا الإنسان؟  وكيف للإله الذي قيل عنه: «الله روح»، «الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه»، كيف يأتي إلى خليقته ويعلن ذاته لها؟  ثم أين هذا الشخص الذي حين يأتي إلينا يستطيع أن يخبرنا عن الله وما في قلبه من نحونا، بحيث أننا حين نراه نستطيع أن نقول وبكل تأكيد ”لقد رأينا الله“، وحين نسمعه نستطيع أن نقول وبكل تأكيد أيضًا إنه الله متكلمًا إلينا، وحين نراه يعمل الأعمال نقول هذه هي أعمال الله نفسه؟

ومن هو كفء لهذا التعبير والإعلان عن الله؟ 

لكن عزيزي القارئ مع أن هذه فعلاًً معضلة، بل ومعضلة المعضلات، فنحن لسنا أمام شخصية عظيمة تريد من يمثلها في أحد المناسبات، بل إننا أمام الله وصورته وإعلان ذاته لخليقته؛ لكن ما نراه معضلة المعضلات تحقق في أقنوم ابن الله، الذي حين رآه يوحنا استطاع أن يقول: «الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب، هو خبّر» (يو1: 18).

ابن الله الذي هو قال عن نفسه حين سأله واحد من تلاميذه «أرنا الآب وكفانا» قال له: «أنا معكم زمانًا هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس، الذي رآني فقد رأى الآب فكيف تقول أنت أرنا الآب... ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب فيَّ» (يو14: 8-10).

ابن الله الذي قال عنه بولس في رسالته إلى كولوسي « فيه سُرّ أن يحل كل الملء» (كو1: 19).  وقال عنه في الرسالة عينها «صورة الله غير المنظور» (كو1: 15). 

عن أي شيء تتكلم إلينا الصورة؟  الصورة هي رسم أمام عيوننا لشخص لا نراه.  هكذا هو سيدنا الكريم ربنا يسوع المسيح، فهو المعبِّر والتعبير، المعلن والإعلان الكامل عن الله، الذي هو في جوهر لاهوته لا يُرى.

ولربما تختلط الأمور، ويظن البعض أن المسيح يتساوى في هذا مع آدم، فقد قيل عن آدم «نعمل الإنسان على صورتنا» (تك1: 26).  نقول إن آدم يوم خُلق أصبح صورة الله (أي الممثل لسلطان الله وسط خليقته)، لكن بالنسبة لسيدنا الكريم هو صورة الله غير المنظور من الأزل.  فالوحي لم يقل لنا إنه ”صار صورة الله غير المنظور” ولكنه صراحة يخبرنا «الذي هو صورة الله غير المنظور».  فهو من الأزل المعبِّر عن الله والمُعلن عنه.  صحيح هذا لم يتم وسط خليقته إلا حينما أتى إلينا متجسدًا، لكنه من الأزل هو كذلك.  ثم إن آدم المخلوق فشل في التعبير الصحيح عن الله، إذ سرعان ما سقط ولم يحفظ الوصية التي أعطاها له الرب الإله.  أما سيدنا - تبارك اسمه - فهو المعبِّر بكل دقة عمن هو الله من قبل بداية الزمان وإلى ما بعد الزمان.

حين أتى الرب يسوع المسيح إلينا قيل عنه بالملاك: «ويدعون اسمه ”عمانوئيل“ الذي تفسيره ”الله معنا“».  نعم حين كان هنا على الأرض كان الله وسط خليقته، وحين جلست الجموع تستمع إليه كانت تستمع إلى الله متكلّمًا، وحين نظرت العين البشرية شخصه الكريم لم ترَ أقل من الله نفسه في جماله وكماله وملئه، حتى استطاع يوحنا أن يقول: «رأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب، مملوءًا نعمة وحقًا، ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا، ونعمة فوق نعمة».

نعم في الأزل هو صورة الله، وفى ملء الزمان، حين أتى، هو صورة الله غير المنظور. وسيظل سيدنا أيضًا في أبدية لا تنتهي هو صورة الله غير المنظور.  لقد قال عن نفسه، كالمعبِّر عن الله حين كان هنا: «عرّفتهم اسمك»، وقال أيضًا عن نفسه كالمعبر عن الله في أبدية لا تنتهي «وسأعرّفهم» (يو17: 26).

ما أمجد سيدنا الكريم وفادينا العظيم ربنا يسوع المسيح فإنه صورة الله غير المنظور.

عزيزي القارئ.. لنتأمله في لوقا 2، حين كان له من العمر 12 عامًا، وذهب مع أبويه إلى الهيكل في العيد.  ويا ترى ماذا يعمل الأولاد في سنه في مثل هذه المناسبات؟  أ ليس ما يعمله الصبيان هو اللعب والجري هنا وهناك، أو ربما يشترون أو يأكلون.  هذه المناظر مألوفة للعين البشرية ولا سيما في مثل هذه المناسبات.  لكن ماذا عن سيدنا الكريم وهو في هذه السن وفى هذه المناسبة؟  يقول الكتاب المقدس: «كان جالسًا وسط الشيوخ يسمعهم ويسألهم».  فيا للجلال والعظمة!

هل رأت عين تحت الشمس منظرًا بديعًا مثل هذا المنظر؟ هل وجدنا صبيًا يجلس وسط الشيوخ والمعلمين يسمع ويسأل؟  كلا، لذا فإن الكتاب يضيف عن شخصه الجليل الكريم «والذين سمعوه (أي المعلمين والشيوخ)، بهتوا من فهمه وأجوبته».  كيف لشيوخ ومعلمين أن تُبهَت من سماع صبي صغير؟ ما أمجد سيدنا الكريم! إنه المعبِّر والمعلن عن الله تمامًا.  إننا أمام منظر حري بنا أننا نسجد له خاشعين متأملين كثيرًا في شخصه الكريم!

إنه يختلف عنا كثيرًا، أو قُل إننا نختلف عنه كثيرًا.  فنحن ما أكثر ما تعلقنا بأشياء تافهة وكأننا أطفال صغار نلهو ونلعب، وما أكثر ما أظهرناه من طياشة وصبيانية، حتى ونحن في سن متقدم كثيرًا عن الاثنى عشر عامًا.  كم ونحن كبار أظهرنا أننا صغار.  لكن لنتحول إلى سيدنا وفادينا لنسعد به ونتغذى على شخصه الذي لم يكف عن أن يكون المعبر عن الله وهو في هذه السن.  بل كم كان الله نفسه في قمة السرور بهذا الشخص الفريد!

ولنتأمله في لوقا3: 21 في حادثة المعمودية حين رأى جموع التائبين ذاهبة إلى يوحنا مُقِرّة ومعترفة برداءتها، حاكمة على نفسها بالموت، معتمدة منه، فذهب - له كل المجد - إلى يوحنا ليعتمد منه أيضًا.  وإننا لنتعجب كثيرًا، فهؤلاء أواني رديئة قد فسدت بفعل الخطية، فكيف يتحد نفسه بهم في المعمودية؟ كيف للقدوس أن ينضم للأردياء النجسين؟ هذا ما فعله صورة الله غير المنظور الذي عبّر عن إله كل نعمة، الذي حين يرى الاتضاع والتوبة، بل والحكم على الذات، لا يتوانى في استعلان كل نعمته وإظهار كل محبته.  ما أعظم سيدنا الكريم الذي يتلألأ أمام عيوننا في كل جمال وكمال نعمته ومحبته كصورة الله غير المنظور.  ولكي لا تخطئ العين شخصه الكريم العظيم فتحسبه مثله مثل أي واحد من هؤلاء التائبين الراجعين، فإن الآب فتح السماء، والروح القدس نزل في هيئة جسمية كحمامة، واستقر عليه، وصوت من الآب يُسمع «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت».

وفى لوقا4: 16 قيل عنه إنه جاء إلى الناصرة حيث كان قد تربى. وحين دُفع إليه السفر قيل عنه «قام ليقرأ».  وكيف لا يقوم وهو يريد أن يعبر لنا عن الوقار الإلهي واحترام الله لكلمته.  إن الوقار نفسه يتعلم من هذا السيد الجليل!
لكن العجب وكل العجب لما فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوبًا فيه «روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأشفي منكسري القلوب لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية وأكرز بسنة الرب المقبولة».  ولما وصل إلى عبارة «وبيوم انتقام لإلهنا» لم يقرأ، بل «طوى السفر وسلمه للخادم». ولم يكن هذا محض صدفة أن لا يقرأ عبارة ”وبيوم انتقام لإلهنا“، فالله لم يأتِ ليقضي علينا، بل أتى لكي يخلصنا من الذل والهوان. ويقينًا كان الآب في قمة السرور بهذا الشخص الفريد الذي عبَّر عما في قلب الله نحونا.

وفى لوقا5: 12-14 مع الأبرص الذي أتى إليه ساجدًا قائلاً: «إن أردت تقدر أن تطهرني»، ماذا فعل المعبِّر عن الله على الأرض؟ ماذا فعل أمام خليقته المسكينة؟  كان بالإمكان أن يقول له وهو بعيد عنه ”أريد فاطهر“، فهذا أقصى ما يريده الأبرص. لكن هناك ما يريده الله للإنسان الأبرص. فالأبرص يريد أن يطهر بأي حال، لكن صورة الله غير المنظور يريد شيئًا أعظم لهذا الإنسان المسكين الذي كان الجميع ينفرون بعيدًا عنه، هذا البائس الذي كان يقيم وحده.  لقد أراد المسيح أن يشعره بدفء الحب والحنان، أراد أن يعرفه أنه مرغوب فيه ليس من الناس ولكن من الله نفسه، لذلك مكتوب «فمد يده ولمسه» يا للعجب!!  فصورة الله مد يده ولمس الأبرص، الله الذي قيل عنه يلمس الجبال فتدخن، هذا عن قوته وعظمته، لكننا هنا أمام لمسة المحبة والحنان من إله صالح محب لأشرار ونجسين.  ومن يلمس النجس فيطهره؟  بل ومن الذي يلمس النجس ولا يتنجس، سوى الله الطاهر وحده؟  حقًا إنه صورة الله غير المنظور.

وفى لوقا8: 26-39 في حادثة كورة الجدريين حيث المجنون الذي كان لا يلبس ثوبًا ولا يقيم في بيت بل في القبور، والذي كانت فيه شياطين منذ زمان طويل، وكثيرًا ما كان الشيطان يخطفه، وقد رُبط بسلاسل وقيود محروسًا، فكان يقطع الربط ويساق من الشيطان إلى البراري.  إنها حالة بؤس وشقاء.

لكن شكرًا للرب فقد أتى فعلاً صورة الله غير المنظور وتقابل مع هذا المجنون.  بعد ذلك أراد الذي كان مجنونًا أن يذهب مع الرب يسوع طالبًا أن يكون معه، ولكن يسوع صرفه قائلاً: «ارجع إلى بيتك وحدّث بكم صنع الله بك».  نعم فالذي صنع معه الإحسان هو الله.  فالرب يسوع هو المعبر والتعبير عن الله.  وأما الذي كان مجنونًا فنقرأ عنه أنه مضى ونادي في المدينة كلها بكم صنع به يسوع.  عجيب أن الذي كان مجنونًا فهم أن الذي صنع معه المعروف، أي الرب يسوع، هو الله. نعم فهو صورة الله غير المنظور.

كم تنحني هاماتنا وقلوبنا داخلنا لهذا الشخص الجليل الرب يسوع المسيح فهو من الأزل وفى ملء الزمان هو صورة الله غير المنظور، وهو نفسه سيكون لنا، والى أبد الآبدين، صورة الله غير المنظور.

شنوده راسم