أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد سبتمبر السنة 2006
موت المسيح فى الانجيل ( يوحنا 6 ) - دراسات في إنجيل يوحنا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

أكل جسد ابن الإنسان وشرب دمه

 لقد قال المسيح في حديثه مع اليهود: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ» (ع53، 54).

 في هاتين الآيتين نجد ثنائيتين جديرتين بالانتباه.

 الأولى أن الآية 53 تحدثنا عن الحق سلبيًا، والآية 54 تحدثنا عنه إيجابيًا. وهو أسلوب شائع في كتابات الرسول يوحنا سواء في الإنجيل أو الرسالة. فالرسول لا يكتفي بتقرير الحق بصيغة إيجابية، ولا يكتفي بوضعه في صيغة سلبية، بل يضع الأمران معًا (قارن يو1: 3؛ 3: 17؛ 3: 18؛ 3: 36؛ 5: 23؛ 1يو1: 6و7؛ 2: 10و11؛ 2: 23؛ 3: 7و8؛ ...).

 على أن الأمر الثاني وهو ما نريد أن نركز عليه هو أن الكلمة المستخدمة عن الأكل في الآيتين ليست كلمة واحدة، ففي الآية الأولى الكلمة هي ”فاجيين“، بينما في الآية الثانية الكلمة هي ”تروجون“؛ والأهم من ذلك أيضًا أن زمن الفعل في الكلمتين مختلف. في الآية الأولى الفعل عَمل يُعمَل مرة واحدة، بينما في الآية الثانية الفعل مستمر.

من يقبل بالإيمان حقيقة موت المسيح لأجله، تصير له كل نتائج موت المسيح العظيمة. من ثم فإن هذا الشخص لا يكون محتاجًا أن يقبل المسيح مرة ثانية، لأن المسيح لن يتركه

 هذا معناه أن هناك أكل من المسيح مرة واحدة وإلى الأبد، يليه أكل مستمر منه. والمعنى الذي نفهمه من ذلك، أن من يأكل جسد ابن الإنسان ويشرب دمه، أو بكلمات أخرى أن من يقبل بالإيمان حقيقة موت المسيح لأجله، تصير له كل نتائج موت المسيح العظيمة. من ثم فإن هذا الشخص لا يكون محتاجًا أن يقبل المسيح مرة ثانية، لأن المسيح لن يتركه، ولكن عليه بعد أن قَبِل المسيح مرة وإلى الأبد، أن يتغذى عليه في شركته معه يوميًا.

 وهي علامة مؤكدة على امتلاك الحياة الأبدية والروحية: هل لدي الشخص شهية حقيقية للمسيح؟ وهل يجد هذا الشخص سروره في المسيح؟ فإذا كانت نفسك لا تجوع إليه، وإن كان قلبك لا يحِّن إليه، وإن كنت تستثقل الشركة معه، والوجود في حضرته، فهذا دليل خطير يبين أنك لم تنل الحياة الأبدية.

 والخلاصة أن ما يقصده الرب في هذه الأقوال عن جسده ودمه هو شخصه مقدمًا ذبيحة على الصليب، وما يقصده من الأكل والشرب منهما هو عمل الإيمان الذي به تتوحد النفس في كل بركات الفداء. أو بكلمات أكثر وضوحًا الأكل من جسد ابن الإنسان والشرب من دمه تعني الإيمان أن المسيح ظهر في الجسد، وأنه صار جسدًا بكل معنى الكلمة، وأنه قدم حياته الفريدة القدوسة فوق الصليب، مبذولاً لأجل الخطاة

الأكل من جسد ابن الإنسان والشرب من دمه يعني الإيمان بالمسيح، في تجسده وفي موته

 كيف وصلتنا الحياة الأبدية؟ كان يلزم أن ابن الله يصبح ابن الإنسان ويشترك معنا في اللحم والدم، حتى يمكنه أن يُقدِم نفسه ذبيحة فوق الصليب، فيقدم جسده على المذبح ويسفك دمه. فنحن ما كان يمكننا أن نحصل على الحياة الأبدية بدون موت المسيح. وهو ما سيشرحه أكثر في يوحنا 12: 24. ثم بقيامة المسيح من بين الأموات وصلتنا الحياة الأبدية، ولهذا ذكر هنا لا التجسد والموت فقط ، بل القيامة والصعود أيضًا.

 وفي هذا يختلف المسيح عن أي نبي أو رسول، فهؤلاء كان الموت يعتبر نهاية لخدمتهم، وأما بالنسبة للمسيح كان الموت هو جوهر خدمته. ونحن كنا في أشد الاحتياج لأن يقدم المسيح جسده ويسفك دمه.

 والآن نأتي إلى سؤال هام:

 هل لكلام المسيح في هذا الفصل علاقة بمائدة الرب؟

 يعتقد الكثيرون أن كلام الرب الوارد في يوحنا 6 المقصود به العشاء الرباني. ونحن نعتقد فعلاً أن ثمة علاقة بين الأمرين، كما سنبين الآن، وأما أن نقول إن الكلام الوارد هنا المقصود به هو العشاء الرباني، فهو ما لا نقر به على الإطلاق.

 والعلاقة بين هذا الكلام والعشاء الرباني هو أن الرب هنا يتحدث عما كان مزمعًا أن يحدث في المستقبل عندما مضى إلى الصليب، وقدم جسده لخلاص العالم، وسفك دمه لفداء العالم؛ بينما في العشاء الرباني فإننا نعود بذاكرتنا إلى الوراء إلى ما تم في الصليب، ونتذكر عمل المسيح الفدائي العجيب لأجلنا، ذاك العمل الذي تم في الجلجثة مرة واحدة، والذي لا يمكن أن يتكرر أبدًا. حيث أن المسيح «بقربان واحد قد أكمل إلى الأبد المقدسين» (عب10: 14)، وحيث أنه «دخل... بدم نفسه إلى الأقداس فوجد فداءً أبديًا» (عب9: 12).

 أما اعتبار أن الكلام هنا يقصد به العشاء الرباني فهذا غير صحيح بالمرة للأسباب الآتية.

  1. الرب لم يرسم العشاء إلا بعد هذه الحادثة بفترة طويلة، في ذات الليلة التي أُسلم فيها، كما نفهم من الأناجيل المتماثلة (متى ومرقس ولوقا)، وهو ما ذكره الرسول بولس صراحة في 1كورنثوس 11: 23. وعليه فكيف يشير المسيح إلى شيء لم يكن قد أسسه بعد؟ وكيف يتحدث عن شيء لم يكن قد رسمه بعد، ويتوقع من الناس أن يفهموا كلامه؟
  2. الرب هنا يوجه حديثه لغير المؤمنين، الذين تركوه بعد سماعهم هذا الكلام. وعليه فلا يمكن أن يتحدث معهم عن العشاء الرباني الذي هو وليمة محبة للمؤمنين لكي يذكروا موته وقيامته لأجلهم. إن الأكل والشرب هنا هما للأموات لكي ما ينالوا الحياة الأبدية، بينما الأكل والشرب في العشاء هو لمن نال الحياة فعلاً، فيأتي إلى وليمة الذكرى لكي يذكر ويشكر.
  3. هذا الكلام لو كان المقصود به العشاء الرباني، أو ”ذبيحة القداس“ كما يسميها البعض، فإن الكثيرين من الشهداء الذين آمنوا في آخر لحظات حياتهم، سيحرمون حتمًا من الحياة الأبدية. فكلام المسيح هنا قاطع، ومذكور بصيغة سلبية وبصيغة إيجابية، بصورة لا تدع أمامنا مجالاً للتملص من هذه النتيجة. فلقد قال المسيح: «إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِير».ِ
  4. لم يرتبط موضوع الحياة الأبدية في أي جزء من كلمة الله بالعشاء الرباني، بل ارتبط دائمًا، لا في كل الكتاب بصفة عامة فقط، بل في كتابات يوحنا بصفة خاصة، بالإيمان الحقيقي فقط دون سواه. ومما لا شك فيه أن أقصى ما يتمناه الإنسان الطبيعي هو أن يحصل على البركات الروحية بوسائل خارجية طقسية، من أكل وشرب وخلافه، ولكن هيهات!
  5. التقليديون أنفسهم يقرون بأن الكثيرين من الذين تناولوا من ”ذبيحة القداس“ يهلكون هلاكًا أبديًا، وهذا يتعارض مع قول المسيح هنا: «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ» (ع54).
  6. كلمة ”الجسد“ التي استخدمها الرب في حديثه هنا تختلف عن كلمة ”الجسد“ التي استخدمها في رسم العشاء الرباني. فهي هنا ”ساركس“، بينما في حديث المسيح عن عشاء الرب، الكلمة المستخدمة هي ”سوما“.
  7. لو أننا فهمنا هذا الكلام حرفيًا، فإن هذا يصطدم مع نهي كتابي قاطع، أنه غير مصرح البتة للإنسان أن بشرب الدم. وهذا التحريم لم يرد فقط في الناموس، بل حتى قبل الناموس، في كلام الرب مع نوح (تك9: 4)، وليس فقط في العهد القديم بل حتى في العهد الجديد، وهو عادة لا يعنى بالمسائل الطقسية، ولكن هذه المسألة وردت صراحة في قرار المجمع الكنسي الأول في أورشليم (أع15: 20).
  8. هنا يقول المسيح: «الخبز الذي انا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم» (ع 51)، بينما العشاء الرباني غير مقدم للعالم، بل لتلاميذه فقط.

 هذا يقودنا إلى سؤال أخير: ما الذي كان يقصده المسيح من قوله: «جسدي مأكل حق، ودمي مشرب حق» (ع 55)؟

 يقصد المسيح أن الطعام الحقيقي، ”الطعام الباقي للحياة الأبدية“، هو أن تأكل من شخصه مبذولاً على الصليب، بحيث لو أنك ملأت بطنك من الطعام البائد، الذي أشار إليه المسيح في بداية حديثه مع اليهود، وهو الطعام الذي يدخل إلى المعدة ثم يخرج إلى الخلاء، تكون كأنك لم تأكل على الإطلاق، وتمضي إلى الجوع الأبدي. كم من أشخاص مثل الغني المذكور قصته في لوقا 16 كان يملأ بطنه إلى الدرجه التي كان فيها لعازر المسكين المطروح عند بابه، يشتهي أن يملأ بطنه من الفتات الساقط من مائدة الغني. ولكنه بعد موته مضى إلى الجوع الأبدي وإلى العطش الأبدي. لقد أكل كثيرًا، لكنه لم يأكل مطلقًا الأكل الحقيقي في كل حياته.

 نعم إن المسيح الميذول على الصليب هو المأكل الحق للنفس وللروح، ولكنه ليس المأكل الحقيقي للجسد الذي هو أقل مكونات الإنسان الثلاثية

 ونتذكر أن المسيح في هذا الإنجيل عينه قال: «أنا الكرمة الحقيقية» (15: 1). وكون المسيح هو الكرمة الحقيقية لا يعني بالطبع أنه كرمة حرفية، فالحقيقي هو عكس الوهمي، لكن لا ينفي أن يكون القصد منه قصدًا مجازيًا. لقد كانت إسرائيل في القديم ”كرمة“ (مز80: 8؛ إش5: 7)، وهي لم تكن كرمة حرفية ولا حقيقية، بل كرمة رمزية. وهكذا هناك الرمزي والحرفي والحقيقي. المسيح هو النور الحقيقي وليس النور الحرفي، وهو الخبز الحقيقي وليس الخبز الحرفي.

 إن المسيح وهو يشير إلى الجسد والدم، فإنه بذلك يشير إلى تجسده. «إذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما» (عب2: 14). وكون الجسد هنا منفصلاً عن الدم، فهذا يفيد حدوث الموت. لقد قدَّم المسيح نفسه على المذبح. والشخص عندما يأكل من الجسد ويشرب من الدم، فإنه يؤمن بهذا العمل العظيم، بل ويخصص هذا الموت لنفسه، ويستفيد من كل قيمة هذه الذبيحة الكريمة، وينال بذلك الحياة الأبدية.

 عزيزي القارئ: ما أكثر الذين يزنون فضتهم لغير خبز وتعبهم لغير شبع (إش55: 2). لكن ما أسعد من آمن بالمسيح وصليبه!

 (يُتبَع)

يوسف رياض