أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
«يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ لِمَاذَا شَكَكْتَ؟» (مت١٤: ٣١)o كلما اقتربنا من المسيح، اختفى من حياتنا الشك، وكلما اقتربنا من أنفسنا ساورنا الشك وتملك منا.o الشك بالوعة تغرق فيها نفوسنا، وذا بسبب أن عيوننا تحولت عنه.o في النظر إلى غيره خطر شديد يهدد نفوسنا، ويملأ قلوبنا بالشك، ويُفرّغ منها الإيمان.o الصراخ نتيجة طبيعية لِما يصنعه الشك في حياتنا، فعلينا أن نتعلم لمَن نصرخ.o لماذا الشك؟! سؤال يفحص به الرب أعماقي، ويكشف به احتياجي، ويعالج به ضعفي.o الشك في حياتي ينذر بخطر قلة الإيمان وضعفه، فلا داعي أن أكمل مشوار الشك إذا بدأ في حياتي.o الشك والإيمان كلمتان على طرفي نقيض. اقتربت من الشك، ابتعدت عن الإيمان، والعكس صحيح تمامًا. وإن سيطر عليك أحدهما يتركك الآخر.o الشك حالة تجعل النفس تفقد اتزانها، وتُحرم من التمتع بمحبة سيدها ورؤية مجده في أحلك الظروف.o الشك في الحياة يحطم كل ثقة ويفقدها كل إيمان، ويجعل العيان محور التفكير والمشغولية.o الشك أشبه بمنزلق خطر، إن نجح العدو أن يصل بك إلى أوله، فقدت اتزانك ووصل بك إلى القاع.o إن كانت على الرب عيناك، فلا تتحول عنه إلى غيره مهما كانت الظروف.o مع سيدنا ليس - بأي حال من الأحوال - مجال للشك في محبته. ولكن ما أضعف نفوسنا، وما أردأ قلوبنا التي تشك أحيانًا فيه.o إن ذهبنا وراء قلوبنا، عاشت نفوسنا في الشك دائمًا، وإنما إن خضعنا للروح القدس، تشددت عزائمنا وتشجعت نفوسنا.o الروح القدس يستحضر أمامنا دائمًا أمجاد المسيح سيدنا، فتزداد الثقة فيه. أما مناظر العالم فتُبعدنا عن مجد سيدنا، فينخفض الإيمان ويتسرب الشك إلينا.o الإيمان يجعلنا نمارس الثقة في هدوء أمام عرش نعمة إلهنا، أما الشك فينشئ فينا صراخًا أمام مشاهد العالم المُزعجة.
 
 
عدد مايو السنة 2017
مريم في الهيكل
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«وَلَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا... 
صَعِدُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبّ... 
وَلِكَيْ يُقَدِّمُوا ذَبِيحَةً كَمَا قِيلَ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ: زَوْجَ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ» (لو٢: ٢٢-٢٤)

شخصيتا مريم ويوسف التقويتين مشهود لهما باهتمامهما الدقيق، في كل النواحي، بالخضوع لكلمة الله. فمن جهة ختان الطفل القدوس يسوع، وكذلك عن تطهير مريم، نجد الطاعة الكاملة لوصايا الناموس (لا١٣). أيضًا من جهة تقديم يسوع إلى الرب «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ: أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ فَاتِحَ رَحِمٍ يُدْعَى قُدُّوسًا لِلرَّبِّ» (لو٢: ٢٣). وكان ينبغي أن تمر أربعون يومًا قبل أن تظهر مريم في الهيكل في أورشليم. وفي هذا المشهد، كما في مشهد زيارة الرعاة، كانت مريم في الظل. وبإمكاننا أن نؤكد أنها اختارت أن تتوارى بملء إرادتها. وفي تناغم مع فكر الله، كانت تُسرّ بالمجد العتيد أن يظهر في «الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ». ولا شك أنها اندهشت عندما رأت المجوس يخرون ويسجدون له، وعندما فتحوا كنوزهم، وقدموا له هداياهم: «ذَهَبًا وَلُبَانًا وَمُرًّا» (مت٢).

كان كل سرورها أنها الإناء المختار لولادته. ولكن كان عليها أن تتعلم أنه إذا أرادت شركة وتوحد مع مسيح الرب، فإن ذلك سيجر عليها اضطهاد إله هذا العالم. ومنذ اللحظة التي وُلد فيها هذا الطفل الإلهي، هبَّ التنين، الشيطان، والذي كان ينتظر هذا الحدث، سعيًا لأن يُهلكه. وهكذا صار مريم ويوسف، وبالطبع يسوع، غرضًا لعداوة الملك الشرير. ولكن العناية الإلهية والإرشاد الإلهي صانهم وحماهم، سواء عند اضطرارهم للهرب إلى مصر، أو عند رجوعهم ثانية إلى أرض إسرائيل، إلى الجليل، حيث بيتهم الأسبق. وصار لمريم وليوسف شرف وامتياز خدمة الوليد الذي لم يكن أقل من كونه ابن الله.

إننا استعدنا هذه الأحداث لنربط بينها وبين مشهد الهيكل، والذي سنتعرض له الآن. كتب ملاخي قديمًا: «وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ، وَمَلاَكُ الْعَهْدِ الَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ. هُوَذَا يَأْتِي قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ» (ملا٣: ١). كيف؟ لقد أتى «عِنْدَمَا دَخَلَ بِالصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ، لِيَصْنَعَا لَهُ حَسَبَ عَادَةِ النَّامُوسِ» (لو٢: ٢٧). في هذا اليوم كانت أورشليم تواصل سيرها المعتاد؛ شعبها يشترون ويبيعون، ويُمارسون أنشطتهم اليومية، وواجباتهم الدينية. وكان ملكهم الأدومي، القاسي والمتعطش للدماء، تعيسًا وحزينًا، ولكنه أعمى رعاياه بعطاياه السخية، ومبانيه المُشيَّدة. وكان دائمًا يسعى لإشباع شهواته الشريرة، وكانوا جميعًا سواء في جهلهم بالحقيقة المجيدة: أن الله افتقد شعبه، وأن المسيا المجيد الذي طالما تغنى باسمه الأنبياء، المسيا المزمع أن تمتد مملكته لتشمل كل الأرض (مز٧٢)، قد حلَّ بالفعل في وسطهم، وقد حمله أبواه إلى أروقة الهيكل.

ولكن الله دائمًا يعمل على إعلان وإعلاء معرفة ابنه الحبيب، مهما كانت حالة الأمة في عدم إيمانها، وكيفما كانت وجهة النظر التي قُدِّمَ بها الرب يسوع. وهكذا في حالتنا هذه، قد أعدَّ قلوب قلة تنتظر فداءً في أورشليم، بغية أن تُرحب بمسيحها. ومن هذه الفئة القليلة أُختير اثنان ليُبصراه بأعينهما في ذلك الوقت. وهكذا اجتاز مريم ويوسف في شوارع المدينة، مع وديعتهما الثمينة، ليعملوا كمثل كثيرين من اليهود القديسين المتواضعين، الذين يجتازون ظروفًا مماثلة. دخلوا الهيكل دون أن يلتفت إليهم أحد أو يلحظهم، غير عالمين ماذا أعدَّ الله للطفل. ولكن، وكما هو مكتوب في الإنجيل: «وَكَانَ رَجُلٌ فِي أُورُشَلِيمَ اسْمُهُ سِمْعَانُ، وَهَذَا الرَّجُلْ كَانَ بَارًّا تَقِيًّا يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ أَنَّهُ لاَ يَرَى الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ الرَّبِّ. فَأَتَى بِالرُّوحِ إِلَى الْهَيْكَلِ» (لو٢: ٢٥-٢٧).

هنا كان شخص تحت السيطرة التامة للروح القدس؛ رجل دعاه الله وأعده ليستقبل ابنه، عندما دخل بالصبي يسوع أبواه، ليصنعا له حسب عادة الناموس. هذا المشهد العجيب قد يكون مفيدًا إذا اعتبرناه بكل انتباهنا قبل الاستطراد في موضوعنا. وأن نذكر، بينما نفعل ذلك، أننا إنما واقفون على أرض مقدسة. فنقرأ أن سِمْعَان «أَخَذَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ»، أي قَبِلَه في حضنه. وكل نفس حارة في المحبة، تقتنع في الحال أن هذا هو التصرف الأمثل، كما أن كلمات سِمْعَان هي المُثلى.

قَبِلَه بين ذراعيه، في حضنه، من بين يدي مريم بالتأكيد. يا له من مشهد! هذه الأم التقية المُكرسة تناول طفلها إلى ذراعي سِمْعَان البار. وهكذا حظي سِمْعَان بشرف لا يُضاهى باستقباله هذا الطفل بين ذراعيه؛ الطفل الذي فيه تثبت وتكمَّلت كل مشورات الله!

ومن كان هذا الطفل؟ الإجابة: “الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا”. إنه المكتوب عنه: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ» (يو١: ١، ١٤)، «اَلَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا امْ سِيَادَاتٍ امْ رِيَاسَاتٍ امْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. اَلَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ» (كو١: ١٥-١٧). كان هو الشخص «فِيهِ سُرَّ انْ يَحِلَّ كُلُّ الْمِلْءِ... كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا» (كو١: ١٩؛ ٢: ٩). كان الابن «الَّذِي جَعَلَهُ (الله) وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ. الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ» (عب١: ٢، ٣).

ومن الناحية الأخرى فإن الرب يسوع – كمولود في هذا العالم – كان نسل المرأة، نسل إبراهيم، ابن داود. كل هذه الأمجاد وأكثر لأنه الأقنوم الإلهي الذي تنازل ليتخذ جسدًا. هالة من النور تحيط وتشع من هذا الطفل القدوس الذي أودعته مريم بين ذراعي سِمْعَان. ودعونا نتفرس في هذا السر الإلهي تفرسًا كاملاً بحرارة، لأنه كلما ازددنا تفرسًا فيه، كلما ازداد خشوعنا القلبي وعبادتنا في محضر عطية الله التي لا يُعبَّر عنها ... ولنلهج في نعمته الغنية، ومحبته الفائقة المعرفة.

وقف سِمْعَانُ أمام الله، ومعه هذا الطفل بين ذراعيه، وبقلب فائض «بَارَكَ اللهَ وَقَالَ: «الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ، الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ». وبذلك تحقق لسِمْعَان جل مرغوبه، بل كل مشتهاه. وكل صلة له بالأرض تقطعت بمجرد أن امتلك خلاص الله. وأضحى مستعدًا للرحيل في سلام، مثله مثل موسى الواقف على رأس الفسجة ليرى الأرض التي وهبها الله لشعبه. إلا أن سِمْعَان تخطى اختبار موسى وهو يحتضن الطفل القدوس بين ذراعيه، إذ كان وقتها في مركز مشورات الله. ومن ثم تطلع إلى الأمام، إلى وقت مجيء الأمم إلى النور، ويصير المسيح المجد لشعبه إسرائيل.

كان يوسف وأم الطفل على حق إذ تعجبا من الكلام الذي قيل عنه. مع أن الإعلان كان جزئيًا، فنحن إنما نختبر الحق الذي نعترف به شفاهًا تدريجيًا. ثم يتبع أمران: أن نرتبط بالمسيح في هذا العالم، يجلب كلاً من البركة والألم. ومثالنا في ذلك مريم. لقد بارك سمعان يوسف ومريم، ثم يستطرد قائلاً لمريم: «هَا إِنَّ هَذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ، وَلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ. وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ».

مستخدمًا خادمه سِمْعَان، أعدَّ الله - في نعمته الغنية – مريم، للتمهيد لسبيل الألم والرفض الذي كان ابنها مزمعًا أن يجتازه. وليس ثمة شك أن القسم الأكبر من الألم كان عندما وقفت عند صليب يسوع، تعاين عذاباته. هل هناك سيف أقسى من هذا اجتاز نفسها؟ كم هي رحيمة طرق الله إذ يقترب بنا تدريجيًا إلى آلامنا. ولنجد أنها “مُزيَّنة بمحبته” عندما تدهمنا الآلام.

لم تنس مريم مطلقًا كلمات سِمْعَان، بل «كَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هَذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا» (لو٢: ١٩، ٥١). ولا بد أنها كانت تضعه دائمًا أمام الله في تأملاتها وصلواتها. أما إذا ما كانت تعيش حياتها في ظل الصليب، فلنا أن نتأكد أنها نالت نصيبًا وافرًا من لتعويض والحفظ برفقة ابنها. كان هناك الكثير الذي لم يمكنها فهمه، ولكن يقينًا كانت تجد راحة في معرفتها أن يسوع، يهوه المُخلِّص، معها. إذا لم يكن ثمة أحد في كل الأرض قد جظي بهذا الامتياز، وتلك البركة نظيرها. وبدافع الحب له، ومن أجل خاطره، استطاعت أن تُعاين المستقبل، وأن تستودعه بين يدي الذي اختارها لتسلك هذا السبيل.

فقر يوسف ومريم يُرى بوضوح في الذبيحة التي أحضروها بمناسبة تقديم يسوع. ففي سفر اللاويين نقرأ بخصوص شريعة تطهير المرأة التي ولدت ولدًا «إِنْ لَمْ تَنَلْ يَدُهَا كِفَايَةً لِشَاةٍ تَأْخُذُ يَمَامَتَيْنِ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ، الْوَاحِدَ مُحْرَقَةً، وَالْآخَرَ ذَبِيحَةَ خَطِيَّةٍ، فَيُكَفِّرُ عَنْهَا الْكَاهِنُ فَتَطْهُرُ» (لا١٢: ٨). لم تكن مريم بقادرة على إحضار شاة. وهكذا يلفت روح الله انتباهنا إلى ظروف الحياة المتواضعة التي كان عليها ربنا يسوع منذ ولادته، بل حتى قبل ولادته، متمثلة في فقر والديه. فأي أم، ما دام في استطاعتها، ستحيط ابنها بكل وسائل الراحة والرفاهية، ولكن هذا ترتيب الحكمة الإلهية، والذي نراه ليس فقط في ظروف ولادة المسيح، ولكن في مسار حياته كلها، ذاك الذي لم يكن له أين يُسند رأسه. وإذ نتفكر في هذه الأمور، نُعظّم النعمة التي لا يُعبَّر عنها.

انتهت فروض الهيكل مع أقوال سِمْعَان النبوية. وما أن أكمل يوسف ومريم الشعائر وفقًا لشريعة الرب، غادرا الهيكل، عابرين بوابات الهيكل ومعهما وديعتهما الغالية، ورجعا إلى الجليل، إلى مدينتهما الناصرة، حيث واصلا أنشطتهما اليومية، دون أن يعرف أحد من الناصرة - سواهما - سرهما الإلهي.


كاتب غير معروف