أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2018
بطرس في يوحنا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

لا يختلف كثيرًا الشعور الذي شعرنا به وقت أن كنا في خطايانا، ثم رجعنا إلى الله، عن الشعور الذي يشعر به المؤمن بعد أن زاغ، ثم رُدت نفسه. ذات الشعور بالبرودة والنكوص. ذات الطرق؛ طرق الأنانية والأثرة، ولكنه يمتزج بهذه المشاعر شعور بالشوق القلبي إلى محضر الرب، والترحيب بالوجود في حضرته، والرجاء اليقيني بالوجود معه قريبًا. ولكن ذلك كله طبيعي. والمحاجة الإلهية في رومية ٥: ٨، ٩ تمانع هذا «وَلَكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا. فَبِالأَوْلَى كَثِيرًا وَنَحْنُ مُتَبَرِّرُونَ الآنَ بِدَمِهِ نَخْلُصُ بِهِ مِنَ الْغَضَبِ». وبطرس في هذا الأصحاح يشرح توبيخًا بشأنه.

وكثيرًا ما يذكر القديس جُبنه وتخاذله وجفوله من محضر الرب. ولكن بطرس هنا لم يكن جبانًا. فما أن سمع أنه سَيِّده - والذي سبق بطرس وأنكره بشفتين كاذبتين دنستين – هو ذلك الذي يقف على الشاطئ، حتى اتَّزَرَ بِثَوْبِهِ، وقفز من القارب إلى الماء ليصل إليه بأسرع ما في استطاعته، لأنه وإن كانت لديه ذكريات عن نفسه وفشله، إلا أنه أيضًا كانت له معرفة بربه. وكان ذلك السر في قرارة نفسه، ومنبع جرأته وجسارته.

هل كان بطرس جاهلاً بالمسيح، أو عرفه فقط باعتبارات الجسد ووشائج اللحم والدم؟ لو كان الأمر هكذا لكان حينئذٍ فر كما على أربع. هل كان يعرفه معرفة سطحية جزئية؟ إذًا لداخلته المخاوف والشكوك، ولسمح لرفاقه في القارب أن يصلوا قبلاً منه، لعلهم يشكلون حجابًا يكسر قوة ورهبة حضوره على روحه. ولكن بطرس كان يعرف ربه وإلهه جيدًا. لقد عرفه كالمحبة، ومن ثمَّ لا هو هرب، ولا اختبأ خلف رفاقه. ولكنه مثل في محضره بمفرده*.

عرف بطرس الرب، وكان ذلك كل شيء بالنسبة له. يقينًا كان ذلك. وهو وإن مات يتكلَّم بعد، قائلاً: «تَعَرَّفْ بِهِ وَاسْلَمْ (كن في سلام). بِذَلِكَ يَأْتِيكَ خَيْرٌ» (أي٢٢: ٢١). وهذا نداء الكتاب المقدس كله.

وهكذا كانت مريم المجدلية في الأصحاح السابق (يو٢٠). تصرفت بمعرفة بالرب أشبه بتلك التي لبطرس. كانت مريم خاطئة قُدِّمت إليه في خطاياها، فأخرج منها سبعة شياطين. وها هي تتكلَّم باعتبار أن لها الحق في طلبه لتأخذه كلية لنفسها. فقالت لمن ظنته البستاني: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ قَدْ حَمَلْتَهُ فَقُلْ لِي أَيْنَ وَضَعْتَهُ، وَأَنَا آخُذُهُ». كان هو كل مبتغاها وكنزها.

يا لها من محبة ثمينة! ويا له من شعور بانتسابنا إليه! وكم ينبغي أن يكون هكذا الحال معنا! كل أحد منا يعرف شخصيًا وفرديًا أن له الحق والانتساب في المسيح وإلى المسيح في كل ملئه.

والإيمان وحده، ولا سواه، هو الذي ينتج ذلك. لأن الإيمان يُعرفنا بالضمير وبأنفسنا. والأخير يُنشئ فينا جبنًا، في حين أن الآخر يولد فينا سعادة وجرأة مقدسة. كان الضمير قد أبعد بطرس بالفعل إلى رحلة بحرية. وقبلها كان قد خرج من منزل رئيس الكهنة، وخرج في وحدته وعاره، وبكى بكاءً مرًا. أما الإيمان فقد أرسله في هذه الرحلة؛ إذ ترك القارب ليصل إلى ربه على الشاطئ. لا الحس الأدبي الإنساني، ولا الذهن الديني، ولا الفكر العام عن الرحمة، كان بإمكانه إرساله في هذه الرحلة. بل هو الإيمان؛ معرفة المسيح في محبته، وهذا هو الإيمان. الإيمان بالله، لا باعتباره الديان، بل كالمخلِّص. الإيمان به كالمعطي الوهاب، لا كمن يسأل ويطالب.

أما الضمير فقد يعمل، بل ينبغي أن يعمل، كحارس للشركة مع الله، لأننا لا نستطيع، ولا نجرؤ، أن نسلك معه، إلا في شركة مع شهادته. ولكن الضمير قطعيًا ليس هو قوة الشركة، ولا مقياسًا لها. فالشركة ينبغي أن تكون ثمرة الإيمان، الذي يستقي المعرفة بالله طبقًا لإعلانه عن ذاته في النعمة والخلاص.

آه، أيها الأحباء: يا له من امتياز أن نعرف الله في محبته! أن تكون لنا شركة مع المسيح كحبيب نفوسنا! أن نقيم في المحبة وهكذا نسكن في الله! أن نعرف ونؤمن بمحبة الله التي يكنها نحونا! يا له من أمر مبارك! هذه هي نتيجة الإنجيل العزيزة الكريمة في القلب، بينما السلام هو نتيجته في الضمير. أن نقدم القلب والضمير ليتمتعا بحقوقهما من خلال النعمة، بالإنجيل، هو واحدة من الثمرات والأغراض للإعلان الذي أعلنه الله عن نفسه.

وفي هذه الحالة؛ بطرس في يوحنا ٢١ فإن الرب في مرحلة متقدمة من عمله، يتعامل مع كل من ضمير القديس بطرس، وإيمانه. يتعامل مع ضميره بإجازته في اختبار مرير لنفسه عبر ثلاثة تحديات، لعله يعرف أنه بالفعل أخطأ بإنكاره الثلاثي لربه. ولكن الرب يتعامل أيضًا مع إيمان بطرس بمنحه الثمر الغني المتكاثر لهذا الإيمان، فاسترده إلى حالة القرب والشركة الفائضة معه، وهذا عمل الإيمان في بطرس، والذي أتمه بالفعل. ثم أنعم عليه بأن يكون الشخص الوحيد بين الرسل الذي يحظى بخدمة خاصة لإطعام وإرشاد قطيع الرب.

ويقينًا هذا دائمًا طابع النعمة؛ تغلف وتختم نتائج الإيمان. فلم يجز الرب بطرس ثانية في عملية الخضوع لحكم الموت كخاطئ مستحق لهذا الحكم، كما فعل في لوقا ٥ حيث تقابلا لأول مرة عند بحر الجليل، وتمت معجزة صيد السمك الكثير. كلا، بل ببساطة يسترد نفسه، أو قل يغسل قدميه، ثم يسبغ عليه مكانة كريمة بالقرب منه، أكثر مما كان للإيمان العامل أن يتوقعه!

ودعنا نضيف فقط، أن هذه الشركة التي لبطرس مع ربه هي حاجتنا الماسة، إذا تكلَّم أحد للآخرين. فليس أن نشاركهم في المعرفة عن قضائه وبره، ولا نعلّمهم عن مشوراته وإعلاناته، ولا الأمور المختصة به؛ ولئن كان ذلك كله صحيحًا، وينبغي ألا يُهمل؛ ولكن أن نعرفه في محبته، وهذا هو الإيمان. وهذا الإيمان هو من الله، بعمل وشهادة الروح القدس. إنه فوق الطبيعة. نعم، إنه يتجاوز بكثير الشركة معه في أحكامه وفي بره. فالضمير، والحس الأدبي، والذهن الدّيِّن، وأفكارنا العامة عن حاجتنا لرحمته. كل أولئك – كما أوضحت آنفًا – قد يهبنا مكانًا قدامه في قضائه، ومن ثمَّ نتضع بحق. ولكن ذلك لا يتعدى حدود الطبيعة. ولكن أن نعرفه في محبته، أن نعرف مكانتنا وغلاوتنا لديه، فهذا من الله، ويتجاوز الطبيعة بمساحة شاسعة.

فبطرس في الأصحاح الخامس من إنجيل لوقا، ليس هو بطرس الأصحاح الحادي والعشرين من يوحنا، رغم أنني أعرف يقينًا أن فيضان الروح القدس أنشأ اقناعًا إلهيًا فيه في حالته الأولى.

كانت راعوث رحبة القلب ومنكرة لذاتها عندما ألقت قرعتها مع حماتها المتألمة في الأصحاح الأول. وكانت مطيعة لحماتها عندما ذهبت لتلتقط في حقل رجل غني. وهناك – بفعل يد الله – لفتت نظره بأسلوب جميل، وقبلت كرمه بتواضع وشكر، في الأصحاح الثاني؛ ولكن ما أبعد ذلك كله عن الأصحاح الثالث حيث قبلت أن تضطجع عند قدميه في البيدر، وتنتظره ليكون زوجًا لها. هذا هو الإيمان. قد تكون النفس متسعة القلب للآخرين، ومتضعة وخاضعة قدام الله. ولكن يظل كل ذلك طبيعيًا. ولكن أن تعول على محبة المسيح، وتدرك غلاوتك على قلبه؛ أن تعيشها وتتمتع بها. أن تجد غرضك فيه، وأن تقبل حقيقة أنه وجد غرضه فينا. هذا فوق الطبيعة. هذه بركة خاصة من رتبة عليا، مُعطاةً لنا بالروح القدس، لمجد الله، وسماء لأنفسنا.

بالنسبة لراعوث أن تعبر من البيدر، حيث قدمي بوعز، إلى بيته ومائدته، لتكون سيدة لخدمه، وشريكة حياته، ولها نصيب في ثروته، كل هذا كان سهلاً، وطبيعيًا، وضروريًا. ولكن أن تعبر من مجرد فتاة تلتقط في الحقل إلى البيدر، فقد كانت تلك خطوة لم تكن لتتم – مثلها مثل بطرس في يوحنا ٢١ – إلا بتوجيه الروح القدس، الذي يجذبنا بحبال المحبة. أن لا ندعو الرب بعد “بعلي” بل “رَجُلي”، هذا هو الإيمان الحق.



*كانت كذلك معرفة آدم بالرب عندما رجع في غطائه لذنبه في تكوين ٣ مع هذا الفارق: فعل آدم هكذا كخاطئ وفي ضوء إعلان الإنجيل، أما بطرس ففعل ذلك كقديس في نور معرفته بالرب.

بللت