أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2015
دَاوُد في صِقْلَغ
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

سنهتم الآن بالأخبار التالية المباركة عن وضع داود للأمور في نصابها بين نفسه وبين الله، وتشدده بإلهه. لقد رأينا النتيجة الأولى لتحوّله إلى الله أنه دعا رئيس الكهنة وأفوده، وسأل من الرب ما إذا كان يتعقب أولئك الذين أحرقوا صقلغ وأخذوا امرأتيه أسيرتين. وهذا يُقدم لنا مثالاً لمبدأ كان وما زال فعالاً عندما يكون هناك إصلاح حقيقي للقلب، وهو أن نُنكر حكمتنا وقوتنا، وأن نسعى بجدية للحصول على المعونة الإلهية والإرشاد الإلهي. وفي هذا نكون قادرين أن نفحص حالة أنفسنا، وأن نكتشف ما إذا كنا سائرين مع الرب أم غير ذلك. فالارتداد وروح الاستقلال عن الله يسيران معًا يدًا بيد دائمًا، والعكس صحيح، فالشركة مع الله والاعتماد عليه لا ينفصلان قط.

وكما أشرنا في العدد السابق فإن الشريعة الموسوية قد ألزمت قائد إسرائيل بأن يقف أمام الكاهن، وأن يسأل عن المشورة له بالنسبة للخروج أو الدخول (عدد27: 21). وبنفس الكيفية فإن المؤمن الآن مأمور بأن يفعل طبقًا لمزمور 37: 5 «سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي». فيجب ألا يتخذ أية خطوة في حياته، صغيرة كانت أو كبيرة، بدون الانتظار من الله من أجل التوجيه «وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ، فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ» (يع1: 5). إن من لا يطلب حكمة من الأعالي، يتصرف اعتمادًا على كفاية الذات والإرادة الذاتية، وأما إذا طلبت هذه الحكمة بأمانة وجدية، وتحركت بقلب مخضع لله، فتكون راغبًا في فعل ما يرضي الله.

«تَوَكَّلْ عَلَى الرَّبِّ بِكُلِّ قَلْبِكَ، وَعَلَى فَهْمِكَ لاَ تَعْتَمِدْ. فِي كُلِّ طُرُقِكَ اعْرِفْهُ» - فإن فعلت ذلك بإخلاص فستكون متأكدًا من أنه «هُوَ يُقَوِّمُ سُبُلَكَ» (أم3: 5، 6). فالضيقة الصعبة التي وقع فيها داود أنه بحث عن ملجأ في أرض جت، وحالاً نهض من السقوط وسأل الرب، ولكن من خلال الكاهن العظيم «إِذَا لَحِقْتُ هَؤُلاَءِ الْغُزَاةَ فَهَلْ أُدْرِكُهُمْ؟». ومبارك ذلك حقًا. وعلينا أن نتعلَّم ذلك من داود، لأن محاولاتنا الجسدية لحل نتائج عدم إيماننا وحماقتنا إنما تسبب فقط الاستمرار في نفس المسار الذي يُجلب علينا التأديب، ومن المؤكد أن ينتهي ذلك إلى مزيد من الفشل وخيبة الأمل «كُفُّوا وَاعْلَمُوا أَنِّي أَنَا اللهُ» (مز46: 10). وهذه هي الكلمة التي نحتاج أن نلتفت إليها في مثل هذا الوقت: أن ندين أنفسنا بلا توان، وأن نحتمل اليد التي ضربتنا والتي ستقودنا الآن في طريقه. هذا هو الطريق الوحيد للشفاء. وعندئذٍ فقط سنجد دليلاً على أن خيبة الأمل والأسى كانا بركة لنفوسنا.

وما أثمن أن نلاحظ بوضوح إجابة الرب لداود: «الْحَقْهُمْ فَإِنَّكَ تُدْرِكُ وَتُنْقِذُ» (ع8). انظر صلاح الله وكمال نعمته! فلم يكن هناك أي تأخير في الإجابة، إجابة بلا تحفظ أو إبهام؛ بل أخبر داود بأكثر مما سأل. فالله لم يقل له فقط بأن يتعقبهم، بل أنه أيضًا سيستعيد بالتأكيد الكل. وفي لحظة انقشعت سحابة الأسى السوداء التي خيمت على نفس داود، وحل الفرح مكان الألم. ورفقاؤه الذين كانوا مزمعين أن يقتلوه وقفوا فجأة بجانبه كخادم الرب إلهه المُكرَّم والمُعيَّن لأن يتعقب وينتصر. وهو بالفعل تعقبهم وصار كل شيء كما قال الله.

«فَذَهَبَ دَاوُدُ هُوَ وَالسِّتُّ مِئَةِ الرَّجُلِ الَّذِينَ مَعَهُ» (1صم30: 9). ويمكن أن ترى وتُقدِّر قوة ذلك بتذكر ما كان قبلاً في ع6 «فَتَضَايَقَ دَاوُدُ جِدًّا لأَنَّ الشَّعْبَ قَالُوا بِرَجْمِهِ». فيا له من تغيير نشهده الآن! لقد سكنت عداوة رجاله، وأصبحوا من جديد مستعدين لاتباع قائدهم. وهنا نرى النتيجة الثالثة لرد نفس داود وتشدده بإلهه: أولاً هو خضع للأمر الإلهي، وسأل عن الإرشاد من الرب. وثانيًا استقبل على التو إجابة مُنعِمة، فالرب منح التأكيد الذي رغب فيه. والآن وقعت قوة الله على رجاله وأخضعت تمردهم بالتمام، وجعلتهم مستعدين رغم أنهم متعبون ومُرهقون أن يتبعوا داود مسرعين في مسيرته لتعقب العمالقة. فانظر إلى أي مدى نفقد – يا قارئي العزيز – عندما نفشل في وضع الأمور في نصابها مع الله.

«فَذَهَبَ دَاوُدُ هُوَ وَالسِّتُّ مِئَةِ الرَّجُلِ الَّذِينَ مَعَهُ». وهنا نجد استجابة داود للكلمة التي تلقاها من الله من خلال الكاهن، وشرع على الفور في تعقب المُخربين بغير راحة أو تمهل. ومع أنه كان متعبًا وضعيفًا إلا أنه الآن قد استعاد قوته. أَ ليس مكتوبًا «وَأَمَّا مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ. يَرْكُضُونَ وَلاَ يَتْعَبُونَ. يَمْشُونَ وَلاَ يُعْيُونَ» (إش40: 31). وهذا ما يكون دائمًا. فإذا كنا نرغب بصدق أن نحصل على إرشاد روحي من الرب ونطلب منه بثقة، فإن إنساننا الداخلي سيتجدد، وسنحصل على قوة لاتباع أوامره.

«وَجَاءُوا إِلَى وَادِي الْبَسُورِ، وَالْمُتَخَلِّفُونَ وَقَفُوا» (ع9). وهذا يُعلمنا أنه عندما نكون في مجرى إرادة الله المُعلنة، فليست كل الأمور ستكون بالضرورة سهلة. فيجب أن نكون مستعدين لمقابلة صعاب وعقبات حتى في مسار الطاعة. فقد تحول داود بالإيمان وبالكلمة التي تلقاها من الرب عن خرائب صقلغ، ولكن الإيمان يجب أن يُختبر، وهي تجربة صعبة واجهها داود: كان مُتعبًا من رحلته السابقة، ومعنوياته أُحبطت أكثر بالمشهد الحزين الذي طالعه، والكثيرون من رجاله رغم أنهم كانوا مستعدين، إلا أنهم لم يعودوا قادرين على التقدم لأبعد، وترك ما لا يقل عن مائتين خلفه عند وَادِي البَسُورِ.

«وَأَمَّا دَاوُدُ فَلَحِقَ هُوَ وَأَرْبَعُ مِئَةِ رَجُلٍ، وَوَقَفَ مِئَتَا رَجُلٍ لأَنَّهُمْ أَعْيُوا عَنْ أَنْ يَعْبُرُوا وَادِيَ الْبَسُورِ» (ع10). وإذ وضع داود في اعتباره حالة رجاله، لم يدفع أو يجبر أولئك الذين أُعيوا لمصاحبته. وهذا دليل آخر على أن بطلنا قد أصبح في شركة مع الله «لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا. يَذْكُرُ أَنَّنَا تُرَابٌ نَحْنُ» (مز103: 14). ولكن يا للحسرة فكثيرًا ما يبدو أن من يعترفون باسمه ينسون ذلك. فمع أن صحبة داود قد خفضت الآن بمقدار الثلث، وكما يوضح ع17 أنهم كانوا أقل كثيرًا من قوة العمالقة، إلا أن داود اعتمد اعتمادًا مطلقًا على كلمة الرب، وواصل التقدم للأمام.

«فَصَادَفُوا رَجُلاً مِصْرِيًّا فِي الْحَقْلِ فَأَخَذُوهُ إِلَى دَاوُدَ، وَأَعْطُوهُ خُبْزًا فَأَكَلَ وَسَقُوهُ مَاءً، وَأَعْطُوهُ قُرْصًا مِنَ التِّينِ وَعُنْقُودَيْنِ مِنَ الزَّبِيبِ، فَأَكَلَ وَرَجَعَتْ رُوحُهُ إِلَيْهِ، لأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا وَلاَ شَرِبَ مَاءً فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَثَلاَثِ لَيَالٍ. فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: لِمَنْ أَنْتَ وَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا غُلاَمٌ مِصْرِيٌّ عَبْدٌ لِرَجُلٍ عَمَالِيقِيٍّ، وَقَدْ تَرَكَنِي سَيِّدِي لأَنِّي مَرِضْتُ مُنْذُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ. فَإِنَّنَا قَدْ غَزَوْنَا عَلَى جَنُوبِيِّ الْكَرِيتِيِّينَ، وَعَلَى مَا لِيَهُوذَا وَعَلَى جَنُوبِيِّ كَالِبَ وَأَحْرَقْنَا صِقْلَغَ بِالنَّارِ. فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: هَلْ تَنْزِلُ بِي إِلَى هَؤُلاَءِ الْغُزَاةِ؟ فَقَالَ: احْلِفْ لِي بِاللهِ أَنَّكَ لاَ تَقْتُلُنِي وَلاَ تُسَلِّمُنِي لِيَدِ سَيِّدِي، فَأَنْزِلَ بِكَ إِلَى هَؤُلاَءِ الْغُزَاةِ» (ع11-15).

ولسوف نتفكر في هذه الأعداد من زاويتين: أنها إضافة إلى ما قيل أعلاه، وأنها تحتوي على صورة إنجيلية مُحببة.

وفي هذه الأعداد التي اقتبسناها الآن نرى النتيجة السابعة التي أعقبت رد أمور داود إلى الصواب: فأولاً قد تشدد بالرب إلهه (ع6). وثانيًا خضع للأمر الإلهي وسأل الإرشاد من الله (ع7، 8). وثالثًا حصل على نور لطريقه وتأكيد لمعونة الله (ع8). ورابعًا وقعت قوة الله على قلوب رجاله، وإخضاعه لتمردهم (ع6)، وخامسًا جعلهم مستعدين لاتباعه في الأمر الصعب والجسور (ع9). وسادسًا حصل على نعمة للتغلب على تجربة مُحرقة للإيمان (ع10). والآن ها نحن نلاحظ كيف أن الرب أظهر نفسه بقوة من نحوهم بأن أمر أعمال عنايته الإلهية لتعمل لصالح داود. ومثل هذه المراحم الإلهية يُمكننا أن نتوقعها بثقة في مجرى البركة بين نفوسنا وبين الله، طالما لم تتعوق بخطايانا غير المحكوم عليها، وغير المُعترف بها.

وهنا تدخل واضح للعناية الإلهية أمام عيوننا. فقد كان داود يتعقب العمالقة. ومن هذه الحادثة نستنتج أنه لم يكن يعلم إلى أي اتجاه ذهبوا، ولا إلى أية مسافة مضوا. ولكن الله لم يصنع لهم معجزة، بل استخدم الوسائل الطبيعية لإعطائه الإرشاد الذي يحتاجونه. فصادف رجال داود شخصًا مريضًا وعلى وشك الهلاك جوعًا في الحقل، واتضح أنه عبد مصري تركه سَيِّده بوحشية. وإذ أُحضِر إلى داود فإنه زُود باحتياجات كاملة لحالته، وبعد أن تلقى تأكيدًا بعدم المساس بحياته، وافق لأن يقود داود ورجاله إلى المكان الذي خيَّم فيه العمالقة. فليتنا نُعجب بالتفاصيل المتعددة في هذه الإمدادات السرية التي صنعها الله لأجل داود، والعوامل المتضافرة التي رتبها الله

فأولاً نقف في إجلال لسيادة الله العليا التي جعلت هذا العبد المصري يمرض (ع13)

وثانيًا بسماح سَيِّده بأن يتصرف بعدم إنسانية لتركه يهلك على قارعة الطريق (ع13).

وثالثًا في دفع رجال داود للإبقاء على حياته (ع11)، بينما كان لهم سبب قوي في أنهم يظنون أنه شارك في حرق صقلغ.

ورابعًا في معرض حقيقة أنه مصري وليس عماليقيًا (ع11)، فلو كان عماليقيًا لوجب أن يقتلوه (تث25: 19).

وخامسًا في دفع رجال داود أن يُظهروا له عطفًا (ع12).

وسادسًا في جعل الطعام الذي أُعطى له يُسرع بإعادة حياته (ع12).

وسابعًا في جعله أن يُجاوب بحرية وصراحة على استفسارات داود، واستعداده ليقود داود إلى حيث ينزل العمالقة.

وكل واحدة من هذه العوامل السبعة قد تضافرت معًا، وإلا ما كانت هذه النتيجة قد حدثت. فالله جعل “كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا” لأجل خير داود. وهو يعمل أيضًا هكذا لأجلنا؛ فعنايته الإلهية، يومًا فيومًا، تعمل بالصواب بصورة معجزية لصالحنا.

ونقترب الآن لهذه الأعداد (ع11-15) من زاوية أخرى؛ فنرى صورة إنجيلية بديعة، ونرى مثال جميل لخاطئ ضال خلَّصه المسيح. وتوجد خطوط واضحة في هذه الصورة الإنجيلية المحبوبة، نستطيع أن نتأمل فيها كل على حدة:

(1) جنسيته: «فَصَادَفُوا رَجُلاً مِصْرِيًّا فِي الْحَقْلِ» (ع11). وفي الكتاب المقدس مصر رمز للعالم؛ أي العالم الأدبي الذي ينتسب إليه غير المتجدد، والذي فيه يسعى إلى إشباع رغائبة الجسدية، والذي كانت بدايته من أيام قايين” عندما «خَرَجَ قَايِينُ مِنْ لَدُنِ الرَّبِّ» (تك4: 16)، وبنى هو ونسله مدنًا وبحثوا عن اختراعات ذكية من النحاس والحديد، وصنعوا أدوات موسيقية. وأمضوا بصقة عامة أوقاتًا طيبة في نسيان الله. وظل هذا مستمرًا إلى يومنا هذا. وأرض مصر تصور هذا. وهناك فرعون الذي هو رمز للشيطان الذي يحكم ويطغى.

(2) حالته المزرية: «لأَنِّي مَرِضْتُ» (ع13). هذه حالة كل واحد من نسل آدم الساقط. فمرض رهيب يعمل في الإنسان في حالته الطبيعية، وهذا المرض هو الخطية «وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمُلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا» (يع1: 15). هذه هي الخطية التي سلبت النفس جمالها الأصلي، والتي تُظلم الذهن، وتُفسد القلب، وتجعل الإرادة تنحرف، وتشل كل قدرات الإنسان نحو الله. ولم يكن هذا المصري مريضًا فقط لأقصى حد، ولكن أيضًا على وشك الهلاك جوعًا «لأَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا وَلاَ شَرِبَ مَاءً فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَثَلاَثِ لَيَالٍ» (ع12). وكأنه يصرخ: «أَنَا أَهْلِكُ جُوعًا!» (لو15: 17).

(3) بليته المُحزنة: «قَدْ تَرَكَنِي سَيِّدِي لأَنِّي مَرِضْتُ مُنْذُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ» (ع13). كان عبدًا، وها قد ظنه سَيِّده أنه أصبح بلا فائدة، فأهمله بلا قلب، وتركه للهلاك، وهذه هي الطريقة التي يعامل بها إبليس عبيده، فهو يستخدمهم كأدوات طالما يقدر على استخدامهم، ولكن إذا أصبحوا بلا فائدة له، فإنه يتركهم لحماقتهم. وهكذا عامل يهوذا وكثيرين آخرين من قبله ومن بعده للآن.

(4) إنقاذه: «فَأَخَذُوهُ إِلَى دَاوُدَ» (ع11). فلا شك أنه كان ضعيفًا جدًا ومريضًا، ولا يقدر أن يأتي إليه بنفسه، وحتى لو كانت له القدرة على فعل ذلك، فكيف كان يعرف داود، وداود كان غريبًا عنه تمامًا. وهكذا حالة الخاطئ إزاء الشخص المُبارك الذي يرمز له داود. ولهذا يقول المسيح: «لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُقْبِلَ إِلَيَّ إِنْ لَمْ يَجْتَذِبْهُ الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يو6: 44)، فكل واحد من مختاريه قد “أُحضِر إلى المسيح بالروح القدس”.

(5) مخُلّصه: لا شك أن هذا المصري شبه الميت يُمثل مشهدًا تعيسًا للغاية؛ لقد اُقتيد أو حُمل إلى محضر الرجل الذي حسب قلب الله. ولكن ذات حالة الخراب والتعاسة التي كانت له جذبت قلب داود إليه، وهكذا الأمر مع المُخلِّص؛ فمهما كان خراب الخاطئ الذي عملت فيه الخطية، ومهما كان مُقززًا أدبيًا كفريسة للخطية، فإن المسيح لا يرفض قط أن يقبله، فلا بد أن يقبل شخصًا جذبه الآب إليه.

(6) تعزيته: «وَأَعْطُوهُ خُبْزًا فَأَكَلَ وَسَقُوهُ مَاءً، وَأَعْطُوهُ قُرْصًا مِنَ التِّينِ وَعُنْقُودَيْنِ مِنَ الزَّبِيبِ» (ع11، 12). يا لها من خطوط ثمينة في صورتنا هذه للنعمة الإلهية المُذخرة لنا في المسيح. فأي واحد يُحضره الروح القدس للرب لا يُرسل قط فارغًا. وهذا يُذكرنا بالترحاب الملكي للابن الضال، والوليمة الغنية التي قُدّمت له.

(7) اعترافه: عندما سأله داود: «لِمَنْ أَنْتَ وَمِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟»، ردَّ إجابة أمينة ومستقيمة: «فَقَالَ: أَنَا غُلاَمٌ مِصْرِيٌّ عَبْدٌ لِرَجُلٍ عَمَالِيقِيٍّ» (ع13). ومن الملفت أن هذا يُقدم صورة باهتة لحقيقة أنه عندما يُحضر خاطئ مُختار إلى المسيح، ويُعطَى خبز الحياة والماء الحي، فإنه يأخذ موقعه الصحيح، وبصراحة يعترف بما كان، وما هو بالطبيعة «إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ» (1يو1: 9).

(8) دعوته: «فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: هَلْ تَنْزِلُ بِي إِلَى هَؤُلاَءِ الْغُزَاةِ؟» (ع15). وفي هذه الطريقة نرى كيف أن داود أوضح طلباته للشخص الذي منحه امتياز صداقته. ومع أنها طلبات مباركة إلا أن نلاحظ أنها في صيغة الالتماس بأكثر من الأمر المباشر. وبنفس الكيفية فإن الكلمة للمؤمن هي: «فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ» (رو12: 1).

(9) رغبته في الضمان: «فَقَالَ: احْلِفْ لِي بِاللهِ أَنَّكَ لاَ تَقْتُلُنِي وَلاَ تُسَلِّمُنِي لِيَدِ سَيِّدِي، فَأَنْزِلَ بِكَ إِلَى هَؤُلاَءِ الْغُزَاةِ» (ع15). فلن يكون هناك فرح في خدمة السَيِّد الجديد إن لم يتأكد أنه لن يُعاد إلى سلطان السَيِّد القديم. فيا له من أمر مبارك أن نعلَّم أن المسيح يُخلّص شعبه ليس فقط من الغضب الآتي، بل أيضًا من سلطان الخطية.

(10) عرفانه بالجميل: «فَنَزَلَ بِهِ» (ع16). فقد أصبح الآن مُكرسًا لخدمة أغراض داود، وهكذا فعل كما طُلب منه. وهكذا فإنه ينطبق علينا نحن المسيحيين «أَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أف2: 10). فيا للنعمة أن نخدم المسيح بحرارة القلب، بعد أن كنا نخدم الخطية في أيامنا السالفة.

آرثر بنك