أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد أكتوبر السنة 2007
موت المسيح في الإنجيل - دراسات في إنجيل يوحنا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
أيها الآب نجنب من هذه الساعة. يوحنا 12 «اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ. وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ. أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ». فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: «مَجَّدْتُ وَأُمَجِّدُ أَيْضاً». فَالْجَمْعُ الَّذِي كَانَ وَاقِفاً وَسَمِعَ قَالَ: «قَدْ حَدَثَ رَعْدٌ». وَآخَرُونَ قَالُوا: «قَدْ كَلَّمَهُ ملاَكٌ». أَجَابَ يَسُوعُ: «لَيْسَ مِنْ أَجْلِي صَارَ هَذَا الصَّوْتُ بَلْ مِنْ أَجْلِكُمْ» (يوحنا12: 27-30). *** هذه الآيات تتضمن رابع إشارة إلى موت المسيح بحسب إنجيل يوحنا، قيلت في الأيام الأخيرة التي سبقت الصليب. كانت الإشارة الأولى في يوحنا 11: 49-52 في النبوة التي نطق بها ”قيافا“ رئيس الكهنة، والتي كانت بكل يقين أبعد من إدراك ذلك الرجل الشرير. والإشارة الثانية كانت في وليمة بيت عنيا، عندما دهنت مريم قدمي الرب يسوع بالطيب، والرب اعتبر أنها حفظت ذلك الطيب ليوم تكفينه (يو12: 7). والإشارة الثالثة كانت في أورشليم، في اليوم التالي لوليمة بيت عنيا، عن حبة الحنطة التي وقعت في الأرض وماتت فأتت بثمر كثير (يو12: 24). وهنا ترد الإشارة الرابعة، وقد جاءت بعد حديثه عن حبة الحنطة مباشرة. نفس المسيح تضطرب يبدأ المسيح كلامه بالقول: «الآن نفسي قد اضطربت». ونحن هنا نستمع إلى العجب نفسه. فها أقوى رجل عرفته الأرض يضطرب! ذاك الذي أسكت البحر الثائر بزجرته، والذي أقام الميت الذي أنتن عندما ناداه! ترى هل كان اضطراب المسيح هنا بسبب مواجهته للموت؟ وإن كنا نقرأ في تاريخ الكنيسة عن العديد من الشهداء الذين واجهوا الموت بكل ثبات، فهل يمكن أن يكون هؤلاء أكثر شجاعة منه؟ محال. ثم أ ليس عجيبًا أن الذي قال لتلاميذه: «لا تضطرب قلوبكم» (يو14: 1)، نقرأ عنه هنا أن نفسه اضطربت! بل إننا نقرأ ثلاث مرات عن اضطراب الرب يسوع في الأصحاحات الثلاثة التي سبقت يوحنا 14 . في يوحنا11؛ وهنا في يوحنا 12؛ ثم مرة ثالثة في يوحنا 13: 21 عندما تذكَّر خيانة يهوذا الإسخريوطي! في يوحنا 11 اضطرب الرب يسوع عند قبر لعازر، ولكن ليس لنفس السبب الذي جعل الاختين تضطربان، بل إنه في المقابر، إزاء ذلك العدو المرعب: الموت؛ وإذ تذكر أحزان البشرية أمام ذلك العدو اللعين، وفكَّر في ملايين البشر الذين بكوا عند القبور، ولم يستردوا أحباءهم، ولن يستردوهم قبل اليوم الأخير، فإنه انزعج بالروح واضطرب. لو اقتصر الأمر على مشكلة مرثا ومريم، ما كان أسهل على الرب أن يجفف دموعهما. ولكن ماذا عن دموع البشر التي لا تنتهي؟ من يعيد البسمة للوجوه الواجمة والقلوب الملتاعة؟ أما الاضطراب هنا في يوحنا 12 فمختلف عن اضطرابه في يوحنا 11. إن الأمر هنا يخصه بصورة مباشرة. إنها ليست أحزان البشرية البائسة، بل أحزانه هو، إذ يمضي إلى الجلجثة ليعالج من الجذور أحزان البشرية جميعها، ويذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد. لمحة من بستان جثسيماني نحن نعلم أن البشير يوحنا لم يكلمنا عن بستان جثسيماني وأحزان المسيح فيه، كما فعل غيره من البشيرين، رغم أنه هو البشير الوحيد الذي كان قريبًا من المسيح في ذلك المشهد. على أننا في هذا المشهد الذي أمامنا يمكننا أن نرى ما يشبه أحزان المسيح في البستان، وتأثير ضغط ساعة الصلب الرهيب على نفس المسيح الرقيقة الحساسة. والإشارة إلى نفس المسيح الإنسانية لا ترد إلا في ثلاثة فصول فقط: اثنان منها بالارتباط ببستان جثسيماني (متى26: 38؛ مرقس 14: 34)، والمرة الثالثة هنا، وهو المشهد الذي - كما ذكرنا - يمكن أن نعتبره بستان جثسيماني لإنجيل يوحنا. وبعد ذاك مباشرة نستمع إلى حديث بين الرب يسوع والآب، ولو أننا هنا بخلاف ما ورد في كل من متى ومرقس نستمع إلى رد الآب على كلام المسيح. وأما عبارة المسيح نفسها: «الآن نفسي قد اضطربت»، فقد يظن البعض أنها عبارة وردت في غير سياقها، ولكن حيث إن المسيح كان قد أشار منذ لحظات إلى موته الكفاري (ع24)، فلا غرابة أن تأتي هذه الكلمات الآن. لم يكن اضطراب المسيح هنا بسبب الآلام الجسدية التي كان سيتعرض لها، مع أننا لا نقلل من قسوتها ورهبتها. ومع أن المسيح كان يعرف ما سوف يلاقيه من هوان على يد البشر، لكن ليس هذا أيضًا ما جعل نفسه تضطرب، ولا هذا ما جعله يصلي هكذا الآن. المسيح يخاطب الآب والمسيح هنا يتحدث إلى الآب، فيقول: «أيها الآب نجني من هذه الساعة». ولا جدال أن الساعة التي يقصدها المسيح هنا هي ساعة الصليب. قديمًا فهم دانيآل من الكتب كمالة السنين التي تكلم عنها إرميا النبي، وهنا يفهم ابن الإنسان كمالة السنين التي تحدث عنها دانيآل النبي. فلقد قال دانيآل: «وبعد اثنين وستين أسبوعًا يُقطع المسيح وليس له» (دا9: 26). ها قد أتت أخيرًا الساعة المتفق عليها في غرفة المشورة الإلهية بين أقانيم اللاهوت. ويا للهول، فمع أن المسيح هو نفسه الحياة، لكنه كان مزمعًا أن يموت! والعبارة : «َمَاذَا أَقُولُ؟ أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ». يرى البعض أن جزءها الثاني ليس جملة خبرية، بل سؤالاً استنكاريًا: ”هل أقول أيها الآب نجني من هذه الساعة؟“ ويكون المعنى: ”هل أطلب منك أيها الآب أن تنقذني من هذه الساعة، فلا أمضي إلى الصليب؟“. هذا ما رفضه المسيح في المقطع التالي، إذ استطرد قائلاً: «وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ». فلقد أتى ابن الله إلى العالم ليُصلب. لقد وُلد المسيح لكي يموت! إذًا فالمسيح بصلاته إلى الله وهو في هذه المحنة. لم يكن يقصد منها ألا تأتي عليه الساعة، بل أن ينجيه الله بعبورها. وتكون عبارة «نجني من هذه الساعة»، تعني لا النجاة بعدم دخوله في هذه الساعة، بل بدخوله فيها، وخروجه منها. وهذا التفسير يتوافق مع عبارته في المزامير: «لا تطبق الهاوية عليه فاها» (مز69: 15). ونحن نعرف أن المسيح «قدم بصراخ شديد ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت، وسُمِع له من أجل تقواه» (عب5: 7). وذلك بالقيامة من الأموات. كمال المسيح يظهر؟ نحن لا نوافق الرأي القائل إن هذه العبارات كانت صراعًا في داخل نفس ربنا المعبود، بل إننا نرى فيها مشاعر متباينة: نفورًا وخضوعًا. نفورًا من أن يُجعل خطية، وخضوعًا لإرادة الآب. وفي كل من نفوره وخضوعه فقد كان كمال الكمال! وصلاة المسيح السابقة أوضحت أنه لم يكن – تبارك اسمه - يعرف الساعة فقط، بل كان يعرف أهوالها أيضًا (13: 1؛ 18: 4). لقد كان يعلم رعب تلك الساعة، والتي هي بحق ”رعبة مظلمة“ (تك15: 12). كان يعرف أهوال ساعة الترك من الله، إذ كان سيُجعل خطية لأجلنا، ولكنه كان يعلم أن هذا هو غرض تجسده ومجيئه إلى العالم. لاحظ أن المسيح لم يقل: والآن ماذا أختار؟ (قارن فيلبي1: 22)، فلم يكن هناك مجال للاختيار، فهو أتى لأجل هذه الساعة التي كان يعلم بمقدار رعبها وفزعها، بالنظر إلى قداسة الله. إنه هو الحياة ولكنه أتى ليموت! كان هو النور والمحبة وكان سيُرفض ويُحتقر، كما لم يحدث مع أحد قبله، ولن يحدث مع أحد بعده. ثم دعنا ندرك أن حقيقة لاهوته لم تمنع أحزانه كإنسان كامل. اللاهوت أعطاه قدرة غير محدودة للاحتمال، والناسوت أعطاه الإحساس الكامل بعمق الألم. ما كان ليكون إنسانًا كاملاً لو أن نفسه لم تضطرب في هذا المشهد. نحن هنا نرى كلاً من كماله الإنساني وكماله الإلهي في كل من مشهد الحياة ومشهد الموت. وبسبب كماله هذا، فإنه أمام أصعب الظروف وأحرج المواقف لم يتخذ قرارًا سوى: «أيها الآب مجد اسمك». وكأنه يقول: ”إني على استعداد أن أتحمل الألم والكأس في سبيل مجد اسمك“. نعم إن مجد الآب كان هو الغرض من مجيئه إلى العالم، ولأجل هذا كان سيواصل طريقه إلى الصليب. فالصليب في إنجيل يوحنا، هذا الإنجيل الذي يحدثنا عن المسيح كالمحرقة، إنما كان لمجد الله. بل يمكننا أن نقول إن الله الآب حصَّل مجدًا من الصليب أكثر مما لو لم يكن السقوط قد حدث من البداية. ويا لكمال ربنا يسوع المسيح فمع هول الكأس، وعدم محدودية الآلام الكفارية التي كان على المسيح أن يحتملها، فإن كل هذه الآلام الرهيبة نُحِيت جانبًا في سبيل مجد الآب. فهو من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينًا بالخزي (عب12: 2). رد الآب على المسيح هذه هي المرة السابعة - بحسب الأناجيل الأربعة - التي فيها يُسمع صوت الآب متكلمًا إلى الابن. في الأناجيل المتماثلة نسمع صوت السماء في المعمودية وفي حادثة التجلي، أما في هذا الإنجيل فقد سُمع الصوت بالارتباط بالموت، وحدث بصورة علنية أكثر من الحادثين السابقين. ولكن الجمع لم يستطع أن يميِّز الصوت. ولقد كانت إجابة الآب: «مجدت وأمجد أيضًا». ولقد تباينت آراء الشراح في تفسير هذه الآية العظيمة: قال بعض الشراح إن المجد الأول حصَّله الله في الخليقة الأولى، فالسماوات تُحدِّث بمجد الله، والفك يخبر بعمل يديه (مز19: 1)، والمجد الثاني حدث بالفداء الذي كان المسيح على وشك القيام به. ويرى فريق آخر من الشارحين أن المجد الأول حصل في تجسد ابن لله، كقول الملائكة عند ولادة المسيح: «المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة» (لو2: 14)، وأن المجد الثاني تم عندما مات ابن الله فوق الصليب. وبهذا يكون المجد الأول هو مجده في الحياة وما سبقها من ميلاد، والمجد الثاني هو ما سوف يتمجد الله به في الموت، وما يليه من قيامته وصعوده. ويرى فريق آخر أن المجد الأول حدث عند إقامة لعازر من الأموات. لقد مجد الآب اسمه عند قبر لعازر، كقول المسيح: «هذا المرض ليس للموت بل لأجل مجد الله». ثم عندما يقيم الآب المسيح من الأموات، سيلحق بالآب مجد أعظم، حيث قد «أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب» (رو6: 4). كأن الآب يقول هنا: عندما أقمتَ لعازر من اللحد بعد أربعة أيام بناء على ندائك. عندئذ مجدت نفسي، كما مجدت ابني الذي عمل هذا العمل العظيم. ولكني سأمجد اسمي عن طريق هذا الابن المبارك مرة ثانية وبصورة أعظم، ليس عندما يقيم أحدًا من الأموات، بل عندما يجتاز في الموت ويقوم منتصرًا عليه. إن قبر المسيح الفارغ لهو مجد للآب وللابن أعظم بكثير من إقامته للعازر، وقبر لعازر الفارغ مؤقتًا. ورغم أن إنجيل يوحنا بصفة عامة يتحدث أكثر من مرة عن إقامة المسيح لجسده، مؤكدًا بذلك لاهوته، ولكن ليس هنا. فهنا الآب يمجده إذ يقيمه من الأموات، وهذا يتضمن قبول الله لعمله، وبالتالي الإتيان بالنسل أو الثمر الكثير (قارن ع 24).
يوسف رياض