أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2015
سبع عبارات من على صليب آخر
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«وَلَمَّا مَضَوْا بِهِ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يُدْعَى جُمْجُمَةَ صَلَبُوهُ هُنَاكَ مَعَ الْمُذْنِبَيْنِ، 
وَاحِدًا عَنْ يَمِينِهِ وَالآخَرَ عَنْ يَسَارِه» (لوقا23: 33)

تُسجل لنا الأناجيل الأربعة أن الرب يسوع صُلب بين مُذنبين، وهو عمل مُتعمَّد ومُدبَّر من قِبَل السلطات الرومانية إمعانًا في احتقار وإهانة الرب يسوع أمام الحشد الساخر؛ لكن شهادة هذا الجمع الصاخب، في تلك الدراما المأساوية، ضئيلة ولا تستحق التعويل عليها كثيرًا. ويصف كل من متى ومرقس الرجلين اللذين صُلبا معه بأنهما كانا “لِصَّيْنِ”، كما ذكرا أيضًا أنهما اتحدا مع رؤساء الكهنة والكتبة في السخرية من الرب يسوع (مت27: 38، 44؛ مر15: 27، 32). وأما لوقا فيعطينا التعليق الأكثر تفصيلاً عن تفاعلهما مع بعضهما البعض ومع الرب يسوع وهو معلق بينهما. هذه التعليقات المتبادلة يمكن اعتبارها “سبع عبارات من فوق صليب آخر”.

إن أول عبارة وُجِّهت للرب يسوع وهو على الصليب «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا!» (لو23: 39). هذا الانفجار المتهكم يعكس بوضوح توّجه هذين الرجلين، لكن لوقا لم يسجل سوى أقوال لص واحد، وكانت بمثابة سخرية، كما كانت أيضًا التماسًا، ولو أنها في الواقع كانت شهادة مدوية لمسياوية المسيح بطريقة غير مباشرة. هو المسيح، ويستطيع أن يفعل ما طلبوه، لكن مسار الخلاص الحقيقي لم يكن بهذه الطريقة المعجزية المنظورة.

هذا التعليق والتعليقان التاليان له كانت على فم لص لزميله: «أَوَلاَ أَنْتَ تَخَافُ اللهَ، إِذْ أَنْتَ تَحْتَ هذَا الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ؟» (لو23: 40). لقد كان على كل من الثلاثة أن يُقاسوا نفس الميتة طويلة الأمد، ويتجرعوا عذاب الصلب، وهو نوع من العقاب ابتكره كبار السادة الرومان، لكن ما كان يُسمح بتطبيقه على أي روماني، إذ هو نوع من الموت مُخصَّص لأصحاب الجنسيات الأقل شأنًا في نظر الرومان. لكن الشهادة المحتواة في هذه الكلمات كانت برهانًا على أن ثمة تغيير قد بدأ يحدث في قلب أحد الرجلين. ماذا بعد الموت؟ ما هي الدينونة التى أعدها الإله البار لمجرمين نظيرهما؟ كان هذا الرجل على حق من رُعبه ومن تحذيره لزميله من مصيرهما المحتوم.

تلا هذا اعتراف بعدالة الحكم الصادر عليه وعلى زميله المجرم: «أَمَّا نَحْنُ فَبِعَدْل، لأَنَّنَا نَنَالُ اسْتِحْقَاقَ مَا فَعَلْنَا» (لو23: 41). لقد وصفاهما متى ومرقس بأنهما «لِصَّانِ» أما لوقا فوصفهما بالقول «مُذْنِبَيْنِ (مجرمين)» (لو23: 39)، وهي كلمة ذات مدلول أقوى في اليونانية؛ فما كانا مجرد لصين عاديين لكن على الأرجح كانا قاطعي طرق، يكمنان في الجبال والطرق حول أورشليم، ليُرهبا المسافرين ويسلباهم أموالهم؛ وإذ كان جرمهما خطيرًا إلى هذا الحد، قضى عليهما الرومان بعقوبة الموت. والآن ها هما على مشارف الموت، يمضيان ساعاتهما الأخيرة مُعلَّقين في ظلمة غير طبيعية، على البقع الشبيهة بالجمجمة، والمدعوة “جلجثة”، خارج أورشليم. ولكن كان أحدهما مُستعدًا لأن يعترف بذنبه. وبداية التوبة هو الاعتراف بالذنب، يتبعه تغيير في القلب تجاه النفس وتجاه المُخلّص يسوع المسيح.

«أَمَّا هَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا لَيْسَ فِي مَحَلِّهِ» (لو23: 41). كيف وصل اللص التائب إلى هذه الخلاصة؟! لا نعرف. ربما رأى أو سمع شيئًا من معجزات يسوع وتعاليمه، وربما علم أن كلاً من بيلاطس وهيرودس كان يدرك براءة يسوع، وربما سمع الكلمات التي تفوه بها يسوع وهو معلق بينهما، ولا سيما كلماته الممتلئة نعمة: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لو23: 34). ربما كانت هذه الكلمات هي التي أقنعته أخيرًا؛ كلمات الغفران المجاني المُذهل الذي لا نظير له، والذي لا يمكن إلا أن يحوّل القلوب من المرارة إلى الإعجاب والخشوع.

«اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». من تلك اللحظة فصاعدًا كان اللص التائب في حديث مع يسوع نفسه. ولم يعد للصان رأيًا مشتركًا عن المسيح – إذ افترقت شركتهما في الأفكار، ودعاه أحدهما «يَا رَبُّ» (23: 42). لاشك أن هذا الرجل قد ميَّز حقيقة هوية ذلك المعلق على الصليب الأوسط، فأجاب على الإتهام السريع المفعم بالشك الذي بادر به كل من المجرمين في البداية: «إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ، فَخَلِّصْ نَفْسَكَ وَإِيَّانَا»، باستجابة إيمان. وأما الآخر فلا نعلم عنه شيئًا ولم يسجَل له المزيد من الكلمات؛ ربما غاب عن الوعي أو مات. لكن ليس سوى الإعلان الإلهي هو الذي أقنع هذا المجرم أن الرجل الذي إلى جواره، الذي يموت في هذه الظروف المخيفة هو الرب، مُخلِّص اليهود، الذي طال انتظاره، لأن المنطق البشري وحده لا يمكن أن يأتي به إلى هذا الإدراك.

بالرغم من أن هذه الكلمات لم ينطق بها المجرم بالفعل، لكنها كانت مُتضمَّنة فيما ابتدأ يقوله: «اذْكُرْنِي يَا رَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ». كان الرب يسوع على مشارف الموت، لكنه من المؤكد أنه سيُقيم ملكوته، ويملك في المستقبل، لأن الموت ليس النهاية بالنسبة له. وربما رأى الرجل وهو يحتضر لمحة من العالم الآتي الذى فيه يُكافأ التائب، ويُدان مَنْ لم يتب. إننا لا نعلم ما دار بخلده وقتئذ، لكننا واثقون من هذا: أنه تجاوز مجرد القبول التام للهوية الحقيقية ليسوع، وضرب الإيقان جذوره فيه، فتحوَّل الإيمان إلى يقين.

وإذ وبخ هذا الرجل التائب زميله المجرم، ربما في آخر أنفاسه، انتهز آخر فرصة له. ربما لم يدرك تمامًا نتائج ربوبية يسوع، لكنه علم ما يكفي ليجعله يُميز أن ذاك هو الشخص الذي يستطيع أن يعلق عليه آخر أمل له: «اذْكُرْنِي يَارَبُّ مَتَى جِئْتَ فِي مَلَكُوتِكَ» (23: 42). لقد عرف أنه مُعلَّق إلى جانب ملك إلهي. يسوع ملك تمامًا كما سُجل على اللافتة التهكمية التي علقها جنود بيلاطس فوق رأسه على الصليب: «هذَا هُوَ مَلِكُ الْيَهُودِ» (لو23: 38). لم يخزَ هذا الرجل، لأن الرب يسوع قال له: إنه في ذات هذا اليوم، وليس في المستقبل، سيكون معه في الفردوس «الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ الْيَوْمَ تَكُونُ مَعِي فِي الْفِرْدَوْسِ». وكلمة “فِرْدَوْسِ” كلمة فارسية تعني “جنة أفراح مُسوّرة”. فالرب لم يعده فقط بالخلود لكن أيضًا بالدخول الفوري “للسماء الثالثة”، كرفيقه الحميم، ماشيًا في جنة الأفراح الأبدية الآمنة مع الملك.

هناك مصيران

لقد واجه المجرمان مصيران مختلفان تمامًا؛ مصيران يواجهان كل منا أيضًا. هل نحن مثل ذاك الذي لم يكن لله مكان في قلبه أثناء حياته، سوى أن ينقذه من العدالة التي يستحقها؟ أم أننا مثل ذاك الذي بدأ بذات التوّجه في محبة للذات، لكنه تغيّر ليصير صاحب توبة متضعة، ملقيًا بنفسه بالتمام على النعمة الغافرة التي لذاك الذي كان على الصليب لأجله؟
الأمر يستحق التفكير، أليس كذلك؟