أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2018
مريم ويوسف يجدان يسوع في الهيكل
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ» (لو٢: ٤٦)

مرت اثنتا عشرة سنة، وخلال تلك الفترة لم يُسجل الوحي عن يسوع سوى أمرين: الأول «كَانَ الصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، مُمْتَلِئًا حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ». والثاني «كَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ» (لو٢: ٤٠، ٤١). هذه شهادة أخرى عن تقوى مريم وزوجها. وربما سُجِلَ هذا الكلام، وهذه الحقيقة، للتدليل على ذلك. فلِمَ يذكر الوحي أن مريم كانت تصحب يسوع معها في مثل هذه المناسبات؟ لا تُذكر كلمة في الوحي لإشباع الفضول البشري. لا يُذكَر سوى ما يتطلبه غرض روح الله من تسجيل الحادثة. والكل في تمام الكمال الإلهي، لأن كل كلمة من الكتاب هي تعبير عن حكمة إلهية. والحقيقة الواردة في ع٤١ هي فقط مقدمة للحادثة المزمع أن تُتبع. وهذا ما سنحاول أن نتناوله الآن، على الأقل فيما يتعلَّق بالمطوبة مريم.

والعددان الأولان يُمهدان لتأملاتنا: «وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ الْعِيدِ. وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا الأَيَّامَ بَقِيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا الصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا» (لو٢: ٤٢، ٤٣). ويتضح من سجلات اليهود أن الثانية عشرة كانت السن الذي يبلغ به الشاب اليهودي النضج الكافي للقيام بواجباته ومسؤولياته الفردية أمام الله. والصبي الذي يبلغ هذا السن، كان يُطلَّق عليه: “ابن الشريعة”، حين يُمكنه بدء ممارسة التزاماته الناموسية.

ومهما يكم من أمر فالحقيقة المُعطاة هنا أن يوسف ومريم أخذا يسوع إلى أورشليم عندما بلغ سنته الثانية عشر. ولا يخلو ذلك من مدلول. لم يُسجل الوحي أفعالهم في العيد، ولكنه يوّجه انتباهنا بالأحرى إلى حدث مهم؛ ففي طريق عودتهم، يوسف ومريم مع الرفقة*، افتقدوا يسوع الذي كان قد بقي في أورشليم. وكان طبيعيًا أن يظناه بين الصحبة. ومن ثم قطعوا نحو مسيرة يوم دون قلق، ولكن لما فشلوا في العثور عليه بين الأقارب والمعارف، عادوا أدراجهم إلى أورشليم يطلبانه. ولا شك أنهما كانا قلقين مضطربي الفؤاد.

كان ذلك - ولا ريب – ترتيبًا إلهيًا، لأنه ما كان ليصلح أن يعوقا “الصَّبِيُّ يَسُوعُ” عن إتمام مشيئة أبيه. وفي النهاية «وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ». ويُلاحظ القارئ أنه قبل أن يُدوّن الروح القدس كلمات مريم، يلفت الانتباه إلى هذه الحكمة المقدسة اللافتة: «وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ». وكم هو حق جليل أن الله يُسرّ بأن يشغلنا بكمالات ابنه الحبيب! ورغم أن يوسف ومريم كانا متواضعا الحال، إلا أن يوسف كان سليلاً لداود (مت١: ٢١). واندهش يوسف ومريم للمنظر. وبدافع اهتمام قلب الأم بادرته مريم قائلة: «يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هَكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!» (ع٤٨).

وقبل التعليق على إجابة يسوع، يجب أن نتعرض لكلمات مريم. فلأكثر من اثنتي عشرة سنة مرت منذ إعلان جبرائيل لها - وتقريبًا ذات الفترة مرت منذ كلمات سمعان النبوية عن يسوع - لم يفصل بين هذه السنوات سوى الرحلة الدورية للاحتفال بالفصح في الهيكل في أورشليم؛ أما هذه السنوات فقد انقضت في الناصرة بهدوء في قضاء واجبات عادية، وحياة اجتماعية مألوفة. ومهما بلغت كمالات ابنها، والتي ولا شك ظهرت في حياته أثناء نموه هذه السنين، فمن المنطقي أن حياته اليومية الطبيعية، قد أعمت عينيها جزئيًا، أو قل – على الأقل – أنها أحيانًا كانت تنسى المصير الذي كان ينتظر ابنها.

ومع أنه علينا ألا نُخمن أو نتجاوز إعلان الكتاب، ولكن ثمة شيئين في خطابها إلى يسوع يبدوان واضحين كفاية لتبرير موقفها هذا: الأول يبدو كما لو كان تأنيبًا وتوبيخًا «يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هَكَذَا؟». والثاني في استخدامها مصطلح “أَبُوكَ” إشارة إلى يوسف الذي وضعته إلى جوارها على قدم المساواة.

ولسنا بحاجة أن ندعي أن هذين خطأَن. ولا يُمكننا أن نرتاب أن هذه الكلمات نابعة من مشاعر وعلاقات طبيعية نقية. ومن الناحية الأخرى هي برهان على أن كلامها طابعه ومنبته المحبة الفائقة لولدها الكامل.

وكانت إجابة يسوع لأُمِّه إعلانًا عن وعيه بشركته الإلهية، جنبًا إلى جنب إعلانه أنه إنما قد جاء ليعمل مشيئة أبيه. قالت مريم ليسوع عن يوسف: “أَبُوكَ”. وكانت إجابة يسوع أنه ظل في أورشليم لأنه – على حد قوله - «يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟». كانت مشيئة أبيه ناموس حياته الفائق. وكان سروره أن يعرفها وأن يُتممها. وفي معرفة تامة بهذه المشيئة أجاب مريم، وأزاح في الوقت نفسه لومها المبطن. لذلك لا عجب أن «لَمْ يَفْهَمَا الْكَلاَمَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا» (ع٥٠).

ثم نقرأ «ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا» (ع٥١). أما إجابة الرب يسوع على مريم في الهيكل فتلقي فيضًا من الضوء على كل هذه السنوات التي تقع بين الفصح الأول له، وبين معموديته، لأنه حدَّد بها بوضوح مركزه. فقد عاش هنا ليكون “في ما لأبيه”. ومن ثم بخضوعه ليوسف ومريم كان يعمل مشيئة أبيه، مثلما كان تخلفه عنهما في الهيكل في أورشليم وفقًا لهذه المشيئة. فليس يوجد، ولا يمكن أن يُوجد، انفصال بين حياته وبين ما يدعوه الناس: واجبات مقدسة. كل نسمة، وكل شعور، وكل فكر، وكل كلمة، وكل فعل، لم تكن إلا ثمار لتكريسه التام لمشيئة أبيه، وهكذا قال: «لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ» (يو٨: ٢٩). ويا له من مشهد يومي أمام عيني مريم ويوسف؛ يسوع في تواضعه ومعيشته معهم في الناصرة!

ثم يُخبرنا لوقا في الخاتمة «وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هَذِهِ الأُمُورِ فِي قَلْبِهَا» (ع٥١). سواء أمور أورشليم أو أمور الناصرة. وإذ كانت تحفظها وتلهج فيها، فلنا أن نوقن أن روح الله منحها بعض الفهم لمعاني هذه الأمور، لتحفظها وترشدها وتُعزّيها في سنيها القادمة. فليس بين النساء اللائي عشن على ظهر البسيطة امرأة نالت هذه الحظوة المباركة مثل مريم. كانت بالحق “مُنْعَم عَلَيْهَا”. ولكن فيما نكتب هذه الكلمات، نذكر مُجدّدًا إجابة الرب يسوع على المرأة التي صرخت من بين الجمع: «طُوبَى لِلْبَطْنِ الَّذِي حَمَلَكَ وَالثَّدْيَيْنِ اللَّذَيْنِ رَضَعْتَهُمَا». فما كان منه إلا أن أجاب: «بَلْ طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ وَيَحْفَظُونَهُ» (لو١١: ٢٧، ٢٨)، وهذه البركة متاحة لكل واحد من شعب الله؛ فكلما عظمنا المسيح، كلما زادت شركتنا مع فكر وقلب الله.



*يُقال إن الذين كانوا يصعدون إلى أورشليم للعيد، كانوا يصعدون زرافات؛ كل مجموعة تُسافر معًا للموآنسة والأمان. ويُمكن أن نرى في مزمور ٨٤: ٧ إشارة إلى ذلك.

* The Christian´s Friend Magazine 1898.

كاتب غير معروف