أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2015
تطبيق سفر النشيد على تاريخ الأمة من البداية حتى النهاية
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة


الحقبة الزمنية الرابعة (تابع):

الضيقة والظهور (ص5: 2 - 6: 12)

في هذه الدراسة نحن نطبق أقوال سفر النشيد الجميلة على تاريخ الأمة الإسرائيلية من بدايته وحتى نهايته. وسفر النشيد ينقسم إلى ستة أقسام، الثلاثة الأولى منها تُحَدِّثنا عن ثلاث حقب مرت من تاريخ هذا الشعب، بينما الثلاثة الأخيرة تحدثنا عما سيحدث لهذه الأمة في المستقبل.

نحن ما زلنا في القسم الرابع، الذي يحدثنا – كما رأينا فيما سبق - عن فترة الضيقة العظيمة، والتي ستنتهي بظهور المسيح للبقية التقية من هذا الشعب. لقد رأينا كيف سمح الملك للمحبوبة أن تجتاز في اختبار مذل، يعطينا - بصورة شعرية - وصفًا لما سيحدث لهذه البقية التقية خلال فترة الضيقة العظيمة. ولكن ما أروع ما سينتج من هذه الضيقة! فإن أروع وصف للعريس قالته العروس، جاء بعد اختبارها المذل والصعب هذا، وأيضًا في وصف العريس لمحبوبته نجد ما يدل على نموها في النعمة.

ونواصل الآن دراستنا بدءًا من الآية 8 من الأصحاح السادس، حيث نقرأ:

«هن ستون ملكة وثمانون سرية، وعذارى بلا عدد. واحدة هي حمامتي كاملتي. الوحيدة لأمها هي. عقيلة والدتها هي. رأتها البنات فطوبنها، الملكات والسراري فمدحنها» (ع8، 9).

إننا هنا نستمع إلى كلمات الاستحسان والمديح للعروس من مصدرين: الأول، من العريس نفسه؛ ثم من البنات والملكات والسراري. وهذا يأخذ فكرنا إلى ما سيتم في الملك الألفي عندما يطوِّب ذلك الشعب كلُّ أمم الأرض (ملا 3: 12)، ثم إن الرب سيدعو مدينة أورشليم “حفصيبة”، والتي تعني “مسرتي فيها” (إش62: 4).

والتغيير العجيب الذي سيحدث مع هذه البقية عندما يظهر المسيح لخلاصهم، سيقود إلى التساءل: «من هي المشرفة مثل الصباح، جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس، مرهبة كجيش بألوية؟» (ع10). اللغة هنا تعجبية. فهم سيتعجبون من هذه المشرفة مثل الصباح. ألم تمر عليها قرون كثيرة وهي في حضيض الحضيض (انظر إشعياء 29: 4)؟ أولم تكن في الجب الذي ليس فيه ماء؟ (زك9: 11)، فكيف تبدل معها الحال فجأة؟

والأوصاف الواردة هنا تعطينا صورة للأمة من وجهة النظر الإلهية في أمجادها العتيدة، فالصباح منعش، والقمر جميل، والشمس مشرقة وساطعة، وأما الجيش فنرى فيه صورة للولاء والخضوع للقائد. هكذا ستكون الأمة في يوم اقتبالها. وتشبيههم بالقمر والشمس ليس هو المرة الأولى هنا، ولا هو المرة الأخيرة، حيث يرد في أول أسفار الكتاب المقدس في حلم يوسف (تك37: 9، 10)، كما يرد أيضًا في آخر أسفاره في رؤيا 12: 1-3. وفي ترنيمة دبورة يُوْصَف الغالبون، أحباء الرب، بأنهم “كخروج الشمس في جبروتها” (قض5: 31)، وهكذا ستكون الأمة الغالية على قلب الرب يوم اقتبالهم، عندما يعترفون بخطيتهم، ويقولون بصدق: «مبارك الآتي باسم الرب» (مت23: 39). عند ذلك ستتم كلمات النبي: «قومي استنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك، ومجده عليك يُرى .. فتسير الأمم في نورك، والملوك في ضياء إشراقك» (إش60: 1-3).

نعم لا بد أن يأتي اليوم الذي فيه سيرى العالم هذه الأمة في أمجادها وهي تُحضِر معها الصباح الصافي الذي بلا غيوم (2صم23: 3، 4). فهذه الأمة عندما رفضت المسيح دخل العالم بأسره في ظلمة روحية دامسة، ولو أن هذا فتح الباب لدخول الأمم إلى دائرة الامتيازات السماوية الأسمى. لكن في المستقبل عندما تقبله الأمة، سيكون هذا إيذانًا بعصر الأرض الزاهي والسعيد تحت ملك المسيح.

وعندما يقول العريس عنها: “مرهبة كجيش بألوية” فهذا يذكرنا بما قاله النبي زكريا: «في ذلك اليوم يستر الرب سكان أورشليم، فيكون العاثر منهم في ذلك اليوم مثل داود، وبيت داود مثل الله، مثل ملاك الرب أمامهم» (زك12: 8).

إذًا فنحن في الوصف السابق نجد البقية التقية في صورة أنثوية (انظر ع13)، ومع ذلك فإنها تسحق الأعداء (قارن ميخا4: 13). في صفتها الأنثوية يقال عنها “جميلة”، وفي الوقت ذاته هي: “مرهبة كجيش بألوية” (انظر مزمور 149: 2-9)!

ثم يقول الحبيب بعد ذلك:

«نزلت إلى جنة الجوز، لأنظر إلى خضر الوادي، ولأنظر هل أقعل الكرم، هل نور الرمان؟ فلم أشعر إلا وقد جعلتني نفسي بين مركبات قوم شريف» (ع11، 12).

ذكرنا أن العروس سيكون لها العين الغالبة (ع5). وهي في ضيقتها ستصرخ للرب قائلة: «ليتك تشق السماوات وتنزل» (إش64: 1). وهنا نراها وقد غلبت في جهادها، إذ يقول الرب: “نزلت”. لا يقول: “سوف أنزل”، أو “سأنزل”، بل «نزلت». وهذا يذكرنا بقول النبي: «قبل ما يدعون أنا أجيب، وفيما هم يتكلمون بعد أنا أسمع» (إش65: 24).

وهي ليست أول مرة ينزل فيها الرب. لكن المرات السابقة كان النزول مرتبطًا بالحزن وبالأسف. لقد نزل الرب أيام بناء برج بابل لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما، وبلبل هناك ألسنة البشر، وَفَرَّق الأمم (تك11: 5-9). ونزل أيضًا في أيام سدوم وعمورة لكي يرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخها الآتي إليه، من ثم فقد أحرق مدن الدائرة (تك18: 20، 21؛ 19: 24- 29). ثم في مجيئه الأول بالجسد نزل إلى الأرض، وانكسر قلبه عندما رفضته الأمة ولم تعرف ما هو لسلامها، ثم صلبته وفضلت عليه رجلاً قاتلاً. لكنه سينزل هذه المرة “لينظر إلى خُضَر الوادي”. ويا له من منظر مبهج! وهو ينظر لأنه ينتظر. وماذا تراه ينتظر منهم؟ إنه ينتظر ثمر الأرض الثمين (يع5: 7)، الثمر الذي يليق بالتوبة (مت3: 8)، والذي يُمَيِّز المتواضعين، لذا نقرأ هنا عن “الوادي”. وهذا يذكرنا بمعاملات يوسف مع اخوته. فلفد أجاز يوسف إخوته في ضيق، لكن عينه كانت عليهم، ينتظر أول بادرة توبة حقيقية تصدر منهم، وما أن تحقق من توبتهم فقد أعلن نفسه لهم، وانتهت معاملات الذل والضيق!

لقد مر علينا فيما سبق تعبير “جنة الرب”، وعرفنا من هي هذه الجنة: «أختي العروس جنة مغلقة». ولكن هنا نقرأ عن جنة الجوز. إن جنة الرب العروس هي البقية التقية من السبطين، يهوذا وبنيامين، هذان سيتجمعان في الأرض قبل الضيقة العظيمة، ويجتازان فيها، ولكن جنة الجوز (هذا الثمر القاسي جدًا من الخارج)، فإنها تمثل الأتقياء من الأسباط العشرة الذين سيتم جمعهم بعد ظهور الرب بالمجد والقوة. فبمجرد أن تُرى البقة التقية (العروس) في أمجادها المستقبلة، فإن العريس يتطلع إلى جنة أوسع من هذه البقية، أعني بقية من كل الشعب (الاثنا عشر سبطًا). فكما يخبرنا إشعياء فإن الرب سيرفع راية للأمم، ويجمع منفيي إسرائيل (إش11: 11، 12).

وهنا نحن نقرأ عن وادي وجنة. ألا يذكرنا هذا بوادي قدرون وبستان جثسيماني؟ و“جنة الجوز” التي يقول الحبيب هنا إنه نزل إليها، تقع في الناحية المقابلة لبستان جثسيماني في جبل الزيتون. وإن كان بستان جثسيماني هو بستان الأحزان والزرع بالدموع؛ فإن جنة الجوز، وهي تلك المقابلة لبستان الأحزان، تحدثنا يقينًا عن الجانب الآخر، المقابل لآلامه وحزن قلبه، عندما يحصد بالابتهاج وفرح القلب. فالمسيح في مجيئه الأول رُفض، وعُصر (كلمة “جثسيماني” تعني معصرة الزيت)، لكن في الجانب المقابل لذلك سيجد في مجيئه الثاني شعبًا منتدبًا ومستعدًا للترحيب به، كما يذكر هنا (قارن مع مزمور 110: 2، 3).

وما أرق هذا التعبير: «لم أشعر إلا وقد جعلتني نفسي بين مركبات قوم شريف»! نحن نتعجب من قول الرب هنا: «لم أشعر»؟ هل نسي الرب كل ما لاقاه من رفض واحتقار منهم في مجيئه الأول؟ وهل نسي كل فترة صبره التي استمرت ألفي عام وهم يرفضون الإيمان به؟ إننا هنا نجد ما يذكرنا بالعبارة التي قيلت عن راحيل، التي خدم لأجلها يعقوب سبع سنين، إنها «كانت في عينيه كأيام قليلة بسبب محبته لها» (تك29: 20). ونحن إن كنا نُعجب بمحبة يعقوب لراحيل، ونرى أنها ما كانت تستحق تلك المعاملة الرقيقة من جانبه، فإن محبة الرب لتلك الأمة، وهي أيضًا لا تستحق شيئًا، هي أعجب بما لا يقاس!

وأما عبارة “قوم شريف” في قول العريس: «لم أشعر إلا وقد جعلتني نفسي بين مركبات قوم شريف»، فإنها بحسب الأصل “عميناداب”، وتترجم حرفيا “شعبي المنتدب”. وشعب الرب لم يكن بالمرة شعبًا منتدبًا في مجيء المسيح الأول. ومع أن غرض خدمة المعمدان، كما ذكر جبرائيل الملاك عندما بشر أباه زكريا بمولده، كانت أن “يهيئ للرب شعبًا مستعدًا” (لو1: 17)، لكنهم في الحقيقة كانوا أبعد ما يكون عن ذلك. صحيح هم حاولوا مرة أن يختطفوه ويجعلوه ملكًا عليهم. لكن هذا كله سطحي (يو6: 14، 15). ولهذا فإنهم في آخر هذا الفصل ذاته، رجعوا عنه ولم يعودوا يمشون معه (يو6: 66). وفي نهاية خدمته قال لهم: «كم مرة أردت... ولم تريدوا» (مت23: 37). وعندما قالوا «مبارك الآتي باسم الرب» (مت21: 9)، فقد تبعوا هذا الاستقبال الحار، وفي الأسبوع نفسه، بأبشع صرخة سمعتها الآذان: «دمه علينا وعلى أولادنا» (مت27: 25). والرب كان قد قال لهم في تلك المناسبة عينها: «لا تعودون ترون وجهي حتى تقولوا مبارك الآتي باسم الرب». وسوف يقولونها له في مجبئه الثاني من كل قلوبهم (مز118: 26). وسيكونون منتدبين له بكل معنى الكلمة في المستقبل. سوف يولي زمان “لوعمي”، أي ليسوا شعبي، لكي يصبحوا، ليس فقط شعبه، بل أيضًا شعبه المنتدب (انظر مز110: 3)، وسيرحبون به بكل قلوبهم!

وفكرًا آخر جميلاً نجده في عبارة “قوم لشريف”، إذ يذكرنا بمؤمني بيرية الذين كانوا أشرف من مؤمني تسالونيكي. وسبب شرفهم هو فحصهم للكتب (أع17: 11). وهكذا البقية التقية في المستقبل ستفحص الكتب. ودانيآل يدعوهم الفاهمين، ويقول عنهم إنهم سيتصفحون “الكتب” (أي يقرأونها بشغف ونهم)، والمعرفة تزداد (دا12: 4). ومن قراءتهم للأسفار سيقول الواحد للآخر «وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء، يسوع بن يوسف الذي من الناصرة» (يو1: 45).

الخلاصة:

يحدثنا القسم الرابع في بدايته عن موقف الأمة اللامبالي بالمسيح بعد موته وقيامته ونزول الروح القدس ليشهد عنه (5: 2، 3)، الأمر الذي نتج عنه أن أدركهم الغضب إلى النهاية، ولكن ليس إلى ما لا نهاية (انظر 1تس2: 16). وبعد اختطاف الكنيسة سيعيد الرب تعامله مع هذه الأمة، وسيجيزهم في ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون (5: 4-7؛ مت24: 21). ونتيجة معاملات الذل ستخرج النفس الحية المدربة، من ثم سيظهر الرب من السماء لينهي فترة الذل لهذه الأمة، وتبدأ أمجادها. والمقصود بالأمة، ليس فقط سبطا يهوذا وبنيامين، بل من الأسباط العشرة أيضًا.

يوسف رياض