«وَقَالَ دَاوُدُ ِللهِ: أَلَسْتُ أَنَا هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِإِحْصَاءِ الشَّعْبِ؟ وَأَنَا هُوَ الَّذِي أَخْطَأَ وَأَسَاءَ، وَأَمَّا هؤُلاَءِ الْخِرَافُ فَمَاذَا عَمِلُوا؟ فَأَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي لِتَكُنْ يَدُكَ عَلَيَّ وَعَلَى بَيْتِ أَبِي لاَ عَلَى شَعْبِكَ لِضَرْبِهِمْ» (١أخ٢١: ١٧).
بوجه عام، تتكلَّم أسفار صموئيل والملوك، عن الملوك والشعب، كمن هم تحت المسؤولية أمام الله. بينما يركز سفرا الأخبار على مشورات الله أو مقاصد نعمته. لعل هذا هو السبب وراء ذكر سفري الأخبار، تاريخ شاول، في آيات قليلة فقط، مُقارنة بالتفاصيل الكثيرة الموجودة في صموئيل الأول. فقد كان شاول اختيار الشعب، وليس رَجُل مشورات الله.
داود كان الرَّجُل الذي حَسَبَ قَلْب الله (صموئيل الأول ١٣:١٤). ومع ذلك، كان لا يزال مسؤولاً أمام الرب، وسفرا صموئيل يرسمان أمامنا هذا الجانب من تاريخه. وبخلاف شاول، فإن نعمة الله تظهر بوضوح في استشفاء داود واسترداده، بعد إخفاقاته المتعددة. وكمؤمنين، نحن ممتنون لأجل هذه النعمة ذاتها، التي تتجلى في حيواتنا يومًا فيومًا!
ونحن نذكر هذه الملاحظات حيث أن الكثيرين يتساءلون: إذا ما كان سفرا الأخبار هما مجرد تكرار لأسفار صموئيل والملوك. ونحن نرجو أن يكون فيما أسلفناه إيضاحًا يفتح أعين قراءنا، ويُلقي مزيدًا من الضوء على تصميم الله العظيم لكتابه العجيب: كتابنا المقدس.
والآن، لعل هذا الطابع المُميِّز لهذه لسفري الأخبار يُفسر لماذا يُغفل سفر الأخبار الأول فشل داود بهروبه، من شاول، إلى ملك الفلسطينيين (١صم٢٧)، ويصمت إزاء خطيتي الزنا والقتل البشعتين (٢صم١١). ومع ذلك يُسجل خطيته الكبرى الأخرى، بإحصاء الشعب. نعم يحق لنا أن نتساءل: لماذا؟
مَن الذي حرَّض على إحصاء الشعب؟
من الطبيعي أن يكون سؤالنا الأول: مَن الذي حرَّك داود لإجراء الإِحْصَاء؟ في صموئيل الثاني ٢٤: ١، يُقال لنا إن الرب هو الذي حضَّ داود لإِحْصَاءِ الشعب، لكن أخبار الأيام الأول ٢١: ١، يُخبرنا أن الشيطان هو الذي حثَّ داود ليفعل ذلك. فهل ثمة تناقض؟ الإجابة: لا! إن كلتي الروايتين بالحق صحيحة.
الاختلاف في العرض يعكس زاويتين مختلفتين. فوفقًا لسفر صموئيل الثاني، كان هناك ثمة فشل حديث جديد بين الشعب، أشعل غضب الرب ضدهم، ولأجل ذلك حرَّك داود لإجراء الإِحْصَاء، ليُنزل الرب بهم الدينونة؛ لقد سمح الرب بذلك كجزء من دينونته على الشعب، بسبب خطاياهم.
ولكن ذلك الإِحْصَاء كشف أيضًا عن كبرياء داود، ورغبته في معرفة مدى عظمة مملكته التي يحكمها. وهكذا فسفر أخبار الأيام الأول، يُبرز دور الشيطان كأداة تحريض، مُظهرًا الصراع الروحي الكامن. كان الشيطان هو الذي أَغْوَى داود لِيُحْصِيَ إسرائيل. كان الشيطان هو الأداة التي استخدمها الرب لإتمام غرضه. ولكن لا ريب في أن الشيطان كان يضمر الشيطان نية شريرة في إثارة داود. كان هدف الشيطان أن يُعيق مقاصد الله بالبركة. ونجد مشهدًا مشابهًا لذلك في ملوك الأول ٢٢: ٢٢-٢٣، حيث جعل الرب رُوحَ كَذِبٍ في أَفْوَاهِ جميع أنبياء أَخْآب، ليقود ذلك الملك الشرير إلى هلاكه المحتوم.
لقد كان كل من داود وشعبه في حالة تستدعي تأديب الرب. هذا الموقف يُظهر كيف أن خطايا الشعب، وتوجهات قلب داود، قد تقاطعتا في هذا الحدث، حيث لم يكن الإِحْصَاءُ مجرد مسألة سياسية أو إدارية، بل كان تعبيرًا عن حالة قلبية، تتطلب تدخل الله لتصحيح المسار.
وفي نهاية المطاف، الله هو السَيِّد على كل الأمور، ويستخدم حتى خطط الشيطان لتحقيق مقاصده العليا، حتى من خلال الأفعال التي تبدو معاكسة أو سلبية.
يُوآبُ يستنكر فعلة الملك داود:
أمر داود يُوآبَ ورؤساء الشعب، أن يذهبوا ويُعِدُّوا إسرائيل، ليتسنى له معرفة حجم جيشه (١أخ٢١: ٢، ٣، ٥). ورغم أن لداود خطايا أقرب اتصالاً بشهوة العيون وشهوة الجسد، إلا أن الخطية الظاهرة هنا هي تعظم المعيشة (١يو٢: ١٦). وحتى قبيل هذا التصرف، كان داود دائمًا متضعًا. والدرس المُستفاد من هذا المثال، هو ألا نثق بأنفسنا أبدًا. وهذه الحادثة تٌقدِّم تحذيرًا مهمًا للمؤمنين، بأن الكبرياء يمكن أن تتسلل إلى القلب، حتى بعد سنوات من الاتضاع والاعتماد على الله. إنه درس مستمر في الاعتماد على الله، وليس على الذات، لأن الثقة بالنفس دون الله يمكن أن تؤدي إلى السقوط.
فكلما نمونا في الرب، كلما اكتشفنا مساحات من الضعف في حياتنا، حيث نكون فيها أكثر عرضة للخطية، وأننا بحاجة أمسّ إلى الاحتراز حيالها. ولكن دعونا ألا نتراخى إزاء مساحات ومجالات أخرى، قد نظن أننا آمنون تجاهها. لأنه إذا تراخينا للحظة، نكون عرضة للسقوط «إِذًا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ، فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ» (١كو١٠: ١٢). هذا التحذير يُشدِّد على أهمية اليقظة الروحية في كل جوانب حياتنا. وحتى في اللحظات التي نشعر فيها بالقوة أو الأمان، يجب أن نبقى متواضعين، وواعين لاحتمالية السقوط. إن الثقة بالنفس في مجال معين قد تؤدي إلى مفاجآت غير سارة، إذا لم نكن حذرين.
وهنا يجب أن نُشيد بموقف يُوآب، الذي رغم كونه عالميًا، ذاتي النزعة، ولا يُبالي سوى بمصالحه الشخصية، إلا أنه استنكر مسعى داود، قائلاً: «لِيَزِدِ الرَّبُّ عَلَى شَعْبِهِ أَمْثَالَهُمْ مِئَةَ ضِعْفٍ. أَلَيْسُوا جَمِيعًا يَا سَيِّدِي الْمَلِكَ عَبِيدًا لِسَيِّدِي؟ لِمَاذَا يَطْلُبُ هذَا سَيِّدِي؟ لِمَاذَا يَكُونُ سَبَبَ إِثْمٍ لإِسْرَائِيلَ؟» (١أخ٢١: ٣). كان من شأن هذا أن يُوقف ليتفكر ويتدبر بخصوص ما كان على وشك القيام به! لكن للأسف، نقرأ: «فَاشْتَدَّ كَلاَمُ الْمَلِكِ عَلَى يُوآبَ» (١أخ٢١: ٤).
وهكذا تُظهر هذه الحادثة كيف يمكن أن يتجاهل، حتى القادة الروحيون، المشورة الحكيمة عندما يُغلَبون من كبريائهم أو طموحاتهم الشخصية. فبالرغم مما كان عليه يُوآب، إلا أن تحذيره عكس الحكمة التي كان ينبغي أن يأخذها داود بعين الاعتبار. هذه اللحظة تُمثل تحذيرًا مهمًا لنا عن أهمية الاستماع إلى الأصوات الحكيمة من حولنا، حتى عندما نكون عازمين على اتخاذ قرار مُعيَّن.
اعتراف داود واختياره:
نقرأ في خروج ٣٠: ١٢-١٦، أنه عند عَدِّ الشعب، كان يجب جمع فِضَّة تُعرف بـ”فِضَّة الْكَفَّارَة”، تذكرة بضرورة فداء كل فرد من المعدودين ضمن شعب الله. ولم يجمع داود ”فِضَّة الْكَفَّارَة” تلك، ومن ثمَّ نقرأ: «وَقَبُحَ فِي عَيْنَيِ اللهِ هذَا الأَمْرُ فَضَرَبَ إِسْرَائِيلَ» (١أخ٢١: ٧). وبطريقة أو بأخرى، أدرك داود أن الله هو الذي شرع يضرب إسرائيل.
وفي الحال أدرك داود خطأه واعترف بخطيته «فَقَالَ دَاوُدُ لِلهِ: لَقَدْ أَخْطَأْتُ جِدًّا حَيْثُ عَمِلْتُ هذَا الأَمْرَ. وَالآنَ أَزِلْ إِثْمَ عَبْدِكَ لأَنِّي سَفِهْتُ جِدًّا» (١أخ٢١: ٨). كم من مرة تفتح عصا التأديب أعيننا على خطايانا! ليست كل التجارب والصعوبات في حيواتنا وليدة الخطية، ولكننا نؤمن، كما هو الحال مع أيوب، أن لدى الرب ما يُعلمنا إياه في كل تجربة وثقل قد نجابه. وحسنًا نفعل إن أعطينا آذانًا صاغية، لننصت لما يُريد الرب قوله لنا في مثل هذه الظروف. وينبغي أن يكون لسان حالنا عندئذٍ: «تَكَلَّمْ يَا رَبُّ لأَنَّ عَبْدَكَ سَامِعٌ» (١صم٣: ٩). بل ما أحسن أن يكون هذا هو موقفنا دائمًا.
ومن خلال ”جَادٍ النَّبِيِّ رَائِي دَاوُدَ“، وضع الرب أمام داود ثلاثة خيارات جزاء خطيته: ”إِمَّا ثَلاَثَ سِنِينَ جُوعٌ، أو ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ هروب من وجه أعدائه، أَوْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ من الوَبَأ في الأرض «وَمَلاَكُ الرَّبِّ يَعْثُو (يُدَمِّرُهَا) فِي كُلِّ تُخُومِ إِسْرَائِيلَ» (١أخ٢١: ١١، ١٢). ونجد في إجابة داود أنه كان يعرف قلب الله: «قَالَ دَاوُدُ لِجَادٍ: قَدْ ضَاقَ بِيَ الأَمْرُ جِدًّا. دَعْنِي أَسْقُطْ فِي يَدِ الرَّبِّ لأَنَّ مَرَاحِمَهُ كَثِيرَةٌ، وَلاَ أَسْقُطُ فِي يَدِ إِنْسَانٍ» (١أخ٢١: ١٣). إنه لمن الأفضل أن نسقط في يد الرب عن أن نسقط في يد إنسان!
ومما يتبع، نكتشف على الأقل ثلاث نقاط تشرح إنجيل نعمة الله:
(١) نعمة الله السيادية المُطلقة في خلاص أورشليم:
يقول سفر الأخبار ٢١: ١٥: «وَأَرْسَلَ اللهُ مَلاَكًا عَلَى أُورُشَلِيمَ لإِهْلاَكِهَا، وَفِيمَا هُوَ يُهْلِكُ رَأَى الرَّبُّ فَنَدِمَ عَلَى الشَّرِّ، وَقَالَ لِلْمَلاَكِ الْمُهْلِكِ: كَفَى الآنَ، رُدَّ يَدَكَ. وَكَانَ مَلاَكُ الرَّبِّ وَاقِفًا عِنْدَ بَيْدَرِ أُرْنَانَ الْيَبُوسِيِّ». هنا نرى النقطة الأولى: إن نعمة الله السيادية المُطلقة، قد تداخلت لخلاص أورشليم. وحسنًا قال أحدهم: ”إن الله يعود دائمًا إلى ما هو عليه في ذاته. وهذه هي النعمة“. فالنعمة هي أن الله يعمل وفقًا لما هو عليه في ذاته، ووفقًا لمكنونات قلبه، لا تبعًا لما نحن عليه، أو وفقًا لدخيلة قلوبنا. والنعمة هي أن الله يغدق علينا إحسانًا غير مُستحق، وغير مُتوَّقع. وهكذا الحال معنا أيضًا اليوم: «لأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ نِعْمَةُ اللهِ الْمُخَلِّصَةُ، لِجَمِيعِ النَّاسِ» (تي٢: ١١).
ومتى تفاضلت هذه النعمة علينا؟ هل عندما طلبناها أو استحققناها؟ لا! يقول الرسول بولس: «اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا» (رو٥: ٨). وهكذا المشهد هنا: فإذ كان مَلاَكُ الرَّبِّ على وشك أن يُهلِك أورشليم، مدينة داود الملكية، تدخل الله، وافتقدها في نعمته الغنية السيادية الرحيمة، لتكفّ يد الملاك.
(٢) داود الوسيط الشفيع:
نأتي إلى النقطة الثانية، فنرى داود في هذه الأحداث متشفعًا عن الشعب. لقد رأى السيف مُشهرًا على أورشليم، فوقف - كما لو كان - بين الله والشعب، ملتمسًا أن تكون يد الله عليه، عوضًا عن الشعب. ولنقرأ أخبار الأيام الأول ٢١: ١٦، ١٧، حيث يقول:
«وَرَفَعَ دَاوُدُ عَيْنَيْهِ فَرَأَى مَلاَكَ الرَّبِّ وَاقِفًا بَيْنَ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَسَيْفُهُ مَسْلُولٌ بِيَدِهِ وَمَمْدُودٌ عَلَى أُورُشَلِيمَ. فَسَقَطَ دَاوُدُ وَالشُّيُوخُ عَلَى وُجُوهِهِمْ مُكْتَسِينَ بِالْمُسُوحِ. وَقَالَ دَاوُدُ ِللهِ: أَلَسْتُ أَنَا هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِإِحْصَاءِ الشَّعْبِ؟ وَأَنَا هُوَ الَّذِي أَخْطَأَ وَأَسَاءَ، وَأَمَّا هؤُلاَءِ الْخِرَافُ فَمَاذَا عَمِلُوا؟ فَأَيُّهَا الرَّبُّ إِلهِي لِتَكُنْ يَدُكَ عَلَيَّ وَعَلَى بَيْتِ أَبِي، لاَ عَلَى شَعْبِكَ لِضَرْبِهِمْ».
وداود هو أحد اثنين بين الناس، في العهد القديم، قدما نفسيهما ليتحملا الدينونة، عوضًا عن الشعب. والآخر هو موسى (خر٣٢: ٣١، ٣٢). ومع ذلك، لا داود، ولا موسى، كان الشفيع الذي بلا خطية، الذي بحسب مطالب الله. إنه الكفء لأن يقول: «لِتَكُنْ يَدُكَ عَلَيَّ». فقط الشخص المبارك الوحيد؛ شخص ربنا يسوع المسيح، الذي يُمكنه تحمل ما يعنيه أن تكون يد الله عليه كبديل عن شعبه. كما أنه الوسيط الوحيد وفقًا لأفكار الله: «لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللهِ وَالنَّاسِ: الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً لأَجْلِ الْجَمِيعِ» (١تي٢: ٥، ٦). هو “الوسيط الحقيقي، رجل الساعة، أو “الحكم“، الذي طالما انتظره أيوب ليضع يده على كل من الله والإنسان (أي٩: ٣٣).
(٣) المذبح والذبيحة:
سفر الأخبار الأول ٢١: ١٨، ٢٦، يستحضر أمامنا النقطة الثالثة: إعداد المذبح وتجهيز الذبيحة. وهكذا يقول النص: «فَكَلَّمَ مَلاَكُ الرَّبِّ جَادَ أَنْ يَقُولَ لِدَاوُدَ أَنْ يَصْعَدَ دَاوُدُ لِيُقِيمَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ فِي بَيْدَرِ أُرْنَانَ الْيَبُوسِيِّ ... وَبَنَى دَاوُدُ هُنَاكَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ، وَأَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ، وَدَعَا الرَّبَّ فَأَجَابَهُ بِنَارٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى مَذْبَحِ الْمُحْرَقَةِ».
كلا من المذبح والذبيحة يتكلَّمان عن ربنا المبارك يسوع المسيح. في متى ٢٣:١٩، يُشير الرب يسوع إلى أن الْمَذْبَح الذي يُقَدِّس الذبيحة، هو بالطبع أعظم من الذبيحة. عندما ندرس موضوع المذابح في الكتاب المقدس، خصوصًا تلك المرتبطة بخيمة الاجتماع، سنجد أنها تتكلَّم بشكل خاص عن شخص المسيح، بينما تتكلَّم الذبائح عن عمله على الصليب.
المذبح يُمثل حضور الله ووسيلة التواصل بين الله والإنسان، مما يرمز إلى يسوع المسيح، الذي هو الوسيط الحقيقي، والذي يفتح لنا الطريق للوصول إلى الله. بينما تُعبر الذبائح عن الفداء الذي قدّمه المسيح من خلال موته على الصليب، حيث كان عمله هو الذبيحة الكفارية التي حققت المصالحة بين الله والبشر.
أمر الرب جَاد النَّبِيِّ أن يُخبر داود أن يبني مَذْبَحًا للرب، في بَيْدَرِ أُرْنَانَ الْيَبُوسِيِّ (ع١٨). والبَيْدَرُ هو المكان الذي يتم فيه فصل التبن عن الحنطة، والتخلص منه. وهو يُعبّر عن الدينونة الفاحصة. وفقط هو واحد؛ الشخص العجيب، الذي استطاع أن يقف في مكان الدينونة التي نستحقها؛ ربنا يسوع المسيح!
المذبح الذي بناه داود يُمثل بداية جديدة وفرصة للتجديد والتغيير والاسترداد والشفاء وردّ النفس. وهكذا يُشير المذبح أيضًا إلى الرب يسوع الذي هو المذبح الحقيقي الذي يحقق الفداء والمغفرة لكل من يؤمن به.
ثم نقرأ أن داود ”أَصْعَدَ مُحْرَقَاتٍ وَذَبَائِحَ سَلاَمَةٍ“ على المذبح (ع٢٦). المُحْرَقة تُمثل التكريس الكامل لله، حيث كانت مُخصَّصة بالكامل لله، وكانت تُصْعَد بِتَمَامِهَا على المذبح (لا١: ١-١٧). والمُحْرَقَةً تُصوِّر الرب يسوع الذي عمل دائمًا مَسَّرة الآب، والذي «أَحَبَّنَا ... وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَانًا وَذَبِيحَةً للهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً» (أف٥: ٢).
أما ذَبِيحَة السَلاَمَة، والتي تُدعى أحيانًا ” ذَبِيحَة الشَّرِكَةِ“، فتُصوّر عمل الرب يسوع كمن مات على الصليب، ليستحضرنا ويُثبّتنا، في علاقة شركة مع الله، وأيضًا في علاقة شركة مع بعضنا البعض (١يو١: ٣). مثلنا مثل مفيبوشث، الذي دُعيَ للجلوس على مائدة الملك، كواحد من أبنائه (٢صم٩: ١١)، نحن أيضًا قد تمَّ إدخالنا إلى هذه الشركة العميقة مع الله، من خلال عمل المسيح. وفي ذَبِيحَة السَلاَمَة، كان ثمة نصيب لله، وللكاهن، وللإنسان الذي قدَّم الذبيحة، مع كل عائلته؛ كل مَن كان طاهرًا كان يُمكنه الاشتراك فيها (لا٣: ١١؛ ٧: ١١-٣٤).
من خلال ذَبِيحَة السَلاَمَة، نرى كيف يُحتفى بالعلاقة الحقيقية والمصالحة. فهذه الذبيحة كانت تعبيرًا أيضًا عن الشكر والتقدير، مما يتيح للأشخاص المشاركة في الفرح الذي يأتي من العلاقة مع الله، ومع بعضهم البعض. إنها ذبيحة تُذكِّرنا بأن الإيمان ليس مجرد تجربة فردية، بل هو دعوة للشركة مع الله ومع المجتمع المؤمن، حيث نُشجَّع على مشاركة البركات التي أُعطيت لنا من خلال يسوع المسيح.
بعد أن قدَّم داود الذبائح «أَمَرَ الرَّبُّ الْمَلاَكَ فَرَدَّ سَيْفَهُ إِلَى غِمْدِهِ» (١أخ٢١: ٢٧). ونرى في ذلك مثالاً لنزول الدينونة على الذبيحة، عوضًا عن الشعب. وبالنسبة لنا، نحن لا نستريح على ذبيحة حيوانية، ولكن على الذبيحة الكاملة، التي قُدِّمَت مرة واحدة، وإلى الأبد، ذبيحة الرب يسوع، على الصليب «لأَنَّهُ بِقُرْبَانٍ وَاحِدٍ قَدْ أَكْمَلَ إِلَى الأَبَدِ الْمُقَدَّسِينَ» (عب١٠: ١٤)
مشورات الله ... موقع بناء الهيكل المستقبلي:
نعود الآن إلى السؤال الذي طرحناه آنفًا في صدر المقال. إذا كان سفرا الأخبار يُركزان على مشورات نعمة الله، ومن ثم يُغفلان مُعظم سقطات داود؛ لماذا إذًا يتضمن سفر الأخبار الأول، خطيته في إحصاء الشعب؟! عندما نصل إلى حكم سليمان، نجد الجواب: «وَشَرَعَ سُلَيْمَانُ فِي بِنَاءِ بَيْتِ الرَّبِّ فِي أُورُشَلِيمَ، فِي جَبَلِ الْمُرِيَّا حَيْثُ تَرَاءَى لِدَاوُدَ أَبِيهِ، حَيْثُ هَيَّأَ دَاوُدُ مَكَانًا فِي بَيْدَرِ أُرْنَانَ الْيَبُوسِيِّ» (٢أخ٣: ١).
كان من المقرر أن يُبنى الهيكل، بيت الرب، على ”جَبَلِ الْمُرِيَّا“ في ذات المكان حيث بنى داود – سابقًا - المذبح بعد إحصاء الشعب. لقد تم تحديد هذا الموقع من خلال هذه الذبيحة. نعم! يحق لنا أن نتعجب إزاء طرق الله! ولكن كما قال كاتب ترنيمة: ”هو أعظم من كل خطايانا ... إنه قادر على جعل كل شيء يعمل من أجل تحقيق مقاصده“.
إن تحديد مكان بناء الهيكل هنا يُبرز كيفية استخدام الله للأحداث، حتى تلك التي تبدو سلبية أو فاشلة، لتحقيق خططه الإلهية. فبدلاً من أن تكون خطية داود سببًا للفشل، أصبحت نقطة البداية للانطلاق لبناء الهيكل، الذي سيُكرَّس لتكريم الرب، والذي سيكون رمزًا لحضوره وسط شعبه، ومكان السجود والعبادة ، حيث سيتقرب إليه الشعب.
يُعلّمنا هذا أنه حتى في أوقات الفشل، يمكن لله أن يُحضر خيرًا عظيمًا، مما يعكس طبيعته الرائعة في تقديم النعمة والمغفرة. وفي ضوء هذه الحقيقة، يُمكننا أن نعيش بأمل وثقة، عارفين أن الله يُحوّل كل الأمور إلى الخير. ولكن ليست تلك بالطبع ذريعة لارتكاب الخطية. فبسبب خطية داود في إحصاء الشعب «جَعَلَ الرَّبُّ وَبَأً فِي إِسْرَائِيلَ، فَسَقَطَ مِنْ إِسْرَائِيلَ سَبْعُونَ أَلْفَ رَجُل» (١أخ٢١: ١٤). دعونا لا نستخف بالخطية! بالنسبة لنا، كثيرًا ما نُصادق - بالاختبار المُرّ - أننا نحصد ما زرعناه (غل٦: ٧، ٨). ولكن يحق لنا أن نفرح ونتعجب إزاء عظمة إلهنا، الذي يمكنه أن يُحقق مقاصده، من خلال ركام خطايانا. نرى ذلك بأجلى وضوح، في صليب الجلجثة. أين ظهرت خطية الإنسان في أبشع صورها؟ أَليس في صلب ابن الله؟ ولكن صليب المسيح هو أقوى شهادة على كيفية استخدام الله، لأسوأ أعمال الإنسان، لتحقيق هدفه الإلهي. لقد كانت خطية الإنسان، المُتمثلة في صلب المسيح، نقطة تحول في تاريخ البشرية، حيث أُظهِرت محبة الله ورحمته، من خلال الفداء المُقدَّم للجميع. بل وما أمجد النتائج التي استخرجها الله من ذات الصليب! لقد بيَّن كيف هو مَحبَّة (رو٥: ٨). لقد حصلنا على الغفران والتبرير بتقديم المسيح ذاته لأجلنا (أف١: ٧). «بِهذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا (نحونا): أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ. فِي هذَا هِيَ الْمَحَبَّةُ: لَيْسَ أَنَّنَا نَحْنُ أَحْبَبْنَا اللهَ، بَلْ أَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا، وَأَرْسَلَ ابْنَهُ كَفَّارَةً لِخَطَايَانَا» (١يو٤: ٩، ١٠).
لا بد أن يُتمّم الله مقاصده:
كم هو أمر مُشجّع أن مقاصد الله، لا، ولن، تُحبطها أو تُعوّقها الخطية. سواء كان هذا القصد هو الأعظم، أي تمجيد ابنه عندما يملك في هذا العالم، أو كان هذا القصد هو رغباته وأفكاره الصالحة، نحو كل واحد منا على حدة. نعم، كم نحن ممتنون لله، لأنه سيُحقق أفكاره وخططه حيالنا «أَمَّا مُؤَامَرَةُ (مَقَاصِدُ) الرَّبِّ فَإِلَى الأَبَدِ تَثْبُتُ. أَفْكَارُ قَلْبِهِ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ» (مز٣٣: ١١). هذه الآية تُشدِّد على ثبات مشورة الله وصلاح خططه عبر الأجيال، فبغض النظر عن الفشل البشري أو الخطية، فإن الله في حكمته وقوته قادر على إتمام إرادته. يُشجّعنا هذا على الوثوق به والإيمان أنه سيستخدم حتى الظروف الصعبة لأجل تحقيق مقاصده العظيمة، وأنه سيجلب الخير من كل شيء في النهاية.
ولكن، وكما مرَّ بنا، ليست تلك رخصة للخطية. وسفر صموئيل الثاني يُظهر لنا كيف حصد داود نفسه تبعات خطاياه، خلال بقية حياته. ولكن الله فوق كل خطايانا وفشلنا، ومقاصده بالبركة لا بد أن تتحقق.