أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يوليو السنة 2018
الاكتفاء
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

الاكتفاء هو الشعور بالرضا على كل عطايا الآب، وقبولها، وتقديرها باعتبارها أتت من يد الآب.

من المؤكد أن احتياج أي إنسان يدفعه لمحاولة تسديد هذا الاحتياج. وتسديد الاحتياج يُصاحبه شعور بالرضا والاكتفاء، أو قد لا يُصاحبه هذا الشعور. والشعور بالاكتفاء يقع بين الاحتياج والطمع. والطمع ليس فقط بخلاف الاكتفاء، بل هو ضده. فالطمع هو رفض لكل ما أنا عليه، وما قد امتلكته، ومحاولة البحث عن المزيد. لقد جرى جيحزي وراء نعمان، لا ليُسدد احتياج لديه، بل لينال أي شيء، وهذا هو الطمع. ولا عجب أن الرب يسوع قال لتلاميذه ذات مرة: «انْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ الطَّمَعِ» (لو١٢: ١٥).

الأدوات الإلهية التي تصل بنا إلى الاكتفاء:

(١) الخضوع لسلطان الله: كما نعرف من رومية ٩ أنه من المستحيل أن تقول قطعة الطين لجابلها لماذا صنعتني هكذا؟ ولماذا لا تستطيع قطعة الطين أن تفعل هذا؟ الإجابة لأن للخزاف سلطان على الطين. في أحيان كثيرة نفعل نحن هذا مع الله ونقول له لماذا صنعتني هكذا؟ أو على الأقل نعترض على ما يفعله في حياتنا، مع أنه من المفروض أن نحترم سلطان الله. نحن نحترم رعاية الله، محبة الله، قدرة الله ونعمة الله، ولكننا نحتاج وبذات الكيفية أن نحترم سلطان الله، نحترم الله وهو على العرش، يفعل ما يشاء، في الوقت الذي يريده هو.

أن أول أمر يقودنا إلى الاكتفاء هو الخضوع لسلطان الله. فإذ أن ما نحن عليه هو إرادة الله، فدعونا نخضع لسلطانه.

(٢) الخضوع لإرادة الله: لا بُدَّ أننا عندما نحاول التغيير في حياتنا، لتسديد أي احتياج، أو رغبة في الزيادة، أن يجري هذا الأمر في دائرة مشيئة الله ولا يخرج عن هذا الإطار. في يعقوب ٤: ١٣-١٥ يتحدث الرسول لبعض الأشخاص الذين كان لديهم طموح لتغيير مستواهم المادي، فقال لهم: «هَلُمَّ الآنَ أَيُّهَا الْقَائِلُونَ: نَذْهَبُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا إِلَى هَذِهِ الْمَدِينَةِ أَوْ تِلْكَ، وَهُنَاكَ نَصْرِفُ سَنَةً وَاحِدَةً وَنَتَّجِرُ وَنَرْبَحُ ... عِوَضَ أَنْ تَقُولُوا: إِنْ شَاءَ الرَّبُّ وَعِشْنَا نَفْعَلُ هَذَا أَوْ ذَاكَ».

نلاحظ من حديث يعقوب، أنهم حددوا كل شيء؛ فحددوا المدينة التي سوف يذهبون إليها، وحددوا المدة التي سوف يقضونها هناك، وحددوا طريقة تغيير المعيشة، فهم سوف يتجروا ويربحوا. لم يتركوا شيئًا واحدًا يحدده الله. فجاء يعقوب رافضًا لكل تفكير لهم، وموجهًا لهم لأعظم وأخطر شيء؛ وهو الخضوع لمشيئة الله، وإرادة الله، فيقول لهم: «عِوَضَ أَنْ تَقُولُوا: إِنْ شَاءَ الرَّبُّ وَعِشْنَا نَفْعَلُ هَذَا أَوْ ذَاكَ». وبعد ذلك يؤكد يعقوب لهم أن أبسط شيء، وهي حياتهم التي يحيونها هي ليست ملكهم، فإنها بخار يظهر قليلاً ثم يضمحل، فلا بُدَّ أنه في كل خطوة يتخذوها أن يرفضوا مشيئتهم، ويتلمسوا مشيئة الله. ولكي يصبح لدينا شعور بالاكتفاء لا بُدَّ من الخضوع لإرادة الله. وعندما نخضع لإرادة الله فعلاً، سنرفض أي تغيير خارج مشيئته، وسيكون لدينا شعور بالرضا، يحصننا ضد الطمع.

(٣) الثقة في قدرة الله: لكي يكون لدينا شعور بالاكتفاء لا بُدَّ من الاستناد والاتكال على الرب. يقول كاتب العبرانيين في أصحاح ١٣: ٥، ٦ «لِتَكُنْ سِيرَتُكُمْ خَالِيَةً مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ. كُونُوا مُكْتَفِينَ بِمَا عِنْدَكُمْ، لأَنَّهُ قَالَ: لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ، حَتَّى إِنَّنَا نَقُولُ وَاثِقِينَ: الرَّبُّ مُعِينٌ لِي فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُ بِي إِنْسَانٌ؟». هنا ينصح كاتب العبرانيين الإخوة بأن يكتفوا بما عندهم. ولكن يبقى السؤال وماذا عن الاحتياج؟ الإجابة أن الاحتياج يتغير ويتنوع، هذا صحيح، ولكن هذا لا يُغيّر من الأمر شيئًا طالما لنا إله قال: «لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ». ولكي تصل النفس إلى حالة الاكتفاء، لا بُدَّ من الثقة في قدرة الله، فهو لن يهملنا أو يتركنا، ومهما اشتددت أو تنوعت الاحتياجات، فإن الله يستطيع أن يملأ الاحتياج بحسب غناه في المجد.

(٤) الثقة في حكمة الله: قد لا نفهم قصد الله من كل ما يجعلنا نُواجهه، وأحيانًا نفعل نظير يوسف في يومه في عدم فهمه، عندما كان أبوه يعقوب يبارك أولاده، فقال لأبيه: «لَيْسَ هَكَذَا يَا أَبِي» (تك٤٨: ١٨). وفي أوقات كثيرة نقول نحن أيضًا مثل يوسف: «لَيْسَ هَكَذَا يَا أَبِي» (تك٤٨: ١٨)، أو «كَلاَّ يَا رَبُّ!» (أع١٠: ١٤)، وكأننا نمتلك نظرة ثاقبة أفضل من نظرة الرب، أو أننا نعرف ما هو لصالحنا أكثر مما يعرف الله. ولكن من المؤكد أن الآب لا يُخطئ أبدًا. أحيانًا تبدو معاملاته غير مفهومة، وأحيانًا أخرى مُحَيِّرة، ولكنها على أي حال، حكيمة وصحيحة. وإن لم يكن هناك ثقة في حكمة الله، فلن يكون هناك قبول لما يجريه الله في حياتي، وبالتالي لن يكون هناك شعور بالاكتفاء أو الرضا.

قال بولس: «قَدْ تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا أَنَا فِيهِ» (في٤: ١١). قالها في السجن! أيمكن لسجين أن يكون مكتفيًا؟! ألم يتساءل عن دخوله السجن: لماذا سمح الله بهذا؟ ما هي حكمة الله من ورائه؟ ولكن بعد مرور وقت ليس بطويل، عرف وتأكد بولس بل واستطاع أن يعلن هذا: «أَنَّ أُمُورِي قَدْ آلَتْ أَكْثَرَ إِلَى تَقَدُّمِ الإِنْجِيلِ» (في١: ١٢)، حتى إن بعض الإخوة كان لديهم خوف وتردد للمنادة بالإنجيل، ولكن بعد دخول بولس إلي السجن تشجعوا ليكرزوا بالكلمة بدون خوف أو تردد. كما أن البعض أرادوا أن يضايقوا بولس، ويزيدوا على وثقه ضيقًا، فكرزوا بالكلمة، ولكن ليس عن إخلاص، بل عن حسد وخصام، غير عالمين أن بولس لا يهتم بذاته ولا حتى يفكر فيها. الذي كان يُسر بولس هو أن يتمجد المسيح كل حين. في فيلبي ٤ يتحدث بولس أن هناك قديسين من بيت قيصر! كيف أتى هؤلاء للمسيح؟ السبب لأن وُثق بولس صارت ظاهرة في كل دار الولاية، فتعرف أشخاص من بيت الإمبراطور الروماني على المسيح، وأصبح هناك أتباع أوفياء للمسيح من داخل بيت قيصر. يا لحكمة الله! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء. علينا أن نقف باحترام تجاه كل ما يصنعه الله، ونتقبل ما يصنعه معنا بروح التقدير والاحترام، والشعور بالفرح أيضًا.

(٥) التعليم والتدريب الإلهي: أن بولس لم يُصْبِح مكتفيًا بما هو فيه نتيجة ولادته من الله، ولا نتيجة اختبار سامي وعجيب اختبره مع الرب، ولا نتيجة أن بعضًا من الإخوة قد وضعوا أيديهم عليه في بداية خدمته، وأتجاسر وأقول أيضًا إن اكتفائه لم يكن بسبب دعوة الرب له وظهوره له في بداية حياته الروحية، ولكنه أصبح مكتفيًا لأنه تعلم هذا، وتَدَرَّب عليه (في٤: ١١). إن التعليم الإلهي عظيم ورائع، ولكن بولس درب نفسه على تقبل كل الأمور، ليكون مكتفيًا بما هو فيه. في أيام اختبر أن يشبع، وفي أيام أخرى اختبر أن يجوع، ولكن في هذا وذاك كان مكتفيًا. في أحيان أستفضل، زاد ما لديه، وربما شعر بأنه لا ينقصه أي شيء، بينما في مرات أخرى تناقص ما لديه وشعر باحتياجه لأشياء كثيرة، ولكنه في هذا أو ذاك كان مكتفيًا بما هو فيه. لقد دَرَّب نفسه أن يتقبل كل الأمور، وألا يتذمر في أي أمر، بل يسر بما وضعه فيه الله في اللحظة الحالية. ولكي نصل إلى الاكتفاء علينا أن ندرب ذواتنا، ونعلمها التعود على ما يفعله الله في حياة كل واحد فينا.

(٦) التحفظ من الطمع: عندما سأل بعض الجنود يوحنا المعمدان عما يفعلونه لكي يدخلوا ملكوت الله، قال لهم: «لاَ تَظْلِمُوا أَحَدًا، وَلاَ تَشُوا بِأَحَدٍ، وَاكْتَفُوا بِعَلاَئِفِكُمْ» (لو٣: ١٤). نصحهم المعمدان، بأن يحسنوا الأعمال فلا يظلموا أحدًا، وعليهم أن يحسنوا استخدام اللسان فلا يشوا بأحد؛ وعليهم أخيرًا أن يتحفظوا من الطمع فيكتفوا بعلائفهم؛ أي “مرتباتهم”، ولا يحاولوا أن يزيدوها بطرق غير شرعية.

الرب يسوع نفسه في ذات الإنجيل حَذَّر تلاميذه من الطمع، وقال لهم: «انْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ الطَّمَعِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ» (لو١٢: ١٥).

وفي ١تيموثاوس ٦: ٦ يقول الرسول بولس: «أما التَّقْوَى مَعَ الْقَنَاعَةِ فَهِيَ تِجَارَةٌ عَظِيمَ». التقوى وحدها غير كافية إذا لم تقترن بالقناعة. وكلمة القناعة المترجمة هنا هي ذاتها كلمة الاكتفاء. عدم الاكتفاء يفسد التقوى. عدم الاكتفاء يدفع الإنسان لكي يزيد ما عنده سواء بطرق مشروعة أو حتى بطرق غير مشروعة. بعد أن يذكر بولس أن التقوى مع القناعة تجارة عظيمة ينتقل في العدد التالي إلي أمر أعمق وأخطر فيقول: «لأَنَّنَا لَمْ نَدْخُلِ الْعَالَمَ بِشَيْءٍ، وَوَاضِحٌ أَنَّنَا لاَ نَقْدِرُ أَنْ نَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ» (١تي٦: ٧). إن حياتنا التي نحياها هنا على الأرض لا تدور حول أجسادنا وكيف نرضيها، لأننا دخلنا هذا العالم بدون شيء وعندما سنخرج منه سنخرج كذلك بدون شيء، وهذا يعكس ويُظهر عجز الإنسان. يدخل العالم ويحاول أن يصنع لنفسه كل شيء يتمناه، وأخيرًا كما دخل كذلك يخرج دون أي شيء. إن أمر دخولنا إلى العالم وخروجنا منه بلا شيء، يُصحح الغرض الذي من المفروض أن نحيا لأجله هنا، كما أنه ينتشلنا من الغرق في الاهتمام باحتياجات الجسد الذي نحيا به هنا. وهذا ما سيتضح في العدد التالي حيث يقول بولس: «فَإِنْ كَانَ لَنَا قُوتٌ وَكِسْوَةٌ فَلْنَكْتَفِ بِهِمَا» (١تي٦: ٨). فلو لبسنا أفضل الملابس، وأكلنا أفضل الأطعمة، فالنهاية أننا سنخرج من العالم بلا شيء. ولكن من الجانب الأخر سنخرج بما ارتبط بالروح والطبيعة الجديدة، وهذا هو الأبقى والأهم، ولهذا يخرج الرسول بهذا الشعار العظيم: «فإِنْ كَانَ لَنَا قُوتٌ وَكِسْوَةٌ فَلْنَكْتَفِ بِهِمَا». هنا لم يقل “القُوت والكِسْوة”، بل إن كان لنا قُوت وكِسْوة؛ بمعنى أي قُوت وأي كِسْوة. طبعًا هنا لا ينكر الكتاب الرغبة في التغيير بشرط أن تكون نابعة من قلب لا يبحث عن الغنى، كما أنها يجب أن تكون في إطار مشيئة الله «وَأَمَّا الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ» - الذين لديهم رغبة في أن يصبحوا أغنياء، الذين لديهم طمع، فتذهب منهم التقوى لأنهم «يَسْقُطُونَ فِي تَجْرِبَةٍ وَفَخٍّ وَشَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ غَبِيَّةٍ وَمُضِرَّةٍ تُغَرِّقُ النَّاسَ فِي الْعَطَبِ وَالْهَلاَكِ» (١تي٦: ٩). أولئك سيستخدمون طرقًا ملتوية في سبيل الحصول على المال، أو على الأقل سيضحون بما لديهم من ارتباط وعلاقة بالله، وسيحدث إهمال لها حتى يحققوا ما يريدون. ثم يكمل بولس بعد ذلك: «لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ» (ع١٠). أن كل مَن يُريد أن يكون غنيًا، سيضع المال غرضه الأول، وبالتالي سيضل عن الإيمان، فلن يكون لديه شيء اسمه الاتكال على الله، وفي الوقت ذاته سيُضحي بكل ما يرتبط بالشركة والعلاقة مع الله في سبيل إتمام شهوته التي هي جمع المال والتكويم، وبالتالي يجلب على نفسه أوجاعًا كثيرة.

(٧) الشركة مع المسيح: لقد استطاع بولس أن يكتفي بما هو فيه لأنه كان في شركة مع المسيح. فبعد أن تحدث في فيلبي ٤ عن أنه تعلم أن يكون مكتفيًا بما هو فيه، يذكر بعد هذا «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي» (في٤: ١٣). لقد تمتع بالاكتفاء في المسيح، وأيضًا لأنه حصل على القوة التي يحتاجها من المسيح. وبالتالي يستطيع أن يصنع أي شيء؛ وهنا لا يقصد المعجزات طبعًا، ولكن ما يستطيع أن يفعله هو أن يستفضل حينًا، وينقص في حين آخر. يتعلَّم أن يشبع حينًا، ويجوع في حين آخر. لقد استطاع بولس أن يفعل كل شيء، واستطاع هذا في المسيح الذي يقويه. إننا في ذواتنا من المستحيل أن نتمتع بالاكتفاء، ولكننا نحتاج أن نكون أولاً في المسيح، ثم إذا كنا فيه فعلاً فلا بد أن نتمتع بقوته. من هنا نفهم أن واحدة من الأدلة أن الشخص ليس في المسيح ألا يكون مكتفيًا بما هو فيه.

ليتنا نسير في بريتنا ونحن مثبتين النظر على المسيح، فنعيش كما عاش، مرتفعين عن دنايا العالم، ومنفصلين عن أشراره.

إسحق شحاته