أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2018
مظلومٌ، ومع ذلك ملوم!
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«مِن كثرةِ المظالم يصرخونَ، يستغيثونَ مِن ذراع الأعِزَّاءِ» (أي٣٥: ٩)

ظالمٌ أم مظلوم؟!

أُجيبُكَ: قطعًا مظلوم، ولكنني أُضيفُ عجبًا، ومع ذلكَ هو ملوم.

وإذا سألتني: فماذا يفعلُ إذًا، صاحِب القلب المكلوم، مَنْ نهشَهُ السبئيونَ وافترسَهُ الكلدانيونَ، فاعترى غناءَه الأُفولُ، وصارت سماءُ حياتِهِ مُلبَّدةً بالغيوم؟ بل واضطهدته نارُ السماءِ، مُتضافرةً مع رياح القفر الشديدة وزوايا البيتِ الأربعِ، فباتَ قلبُه داميًا في دنيا الهموم؟ هو مسكينٌ يصرخُ، فالثراءُ قد صَنَعَ أجنحةً، وطيِّبُ الأيامِ لا يدوم، والثَرَى والقبرُ بات مطلبًا عزيزًا، لم يُحقِّقُ مطلبَ صارخٍ، للعافيةِ معدوم! هو يصرُخُ ولكنه مع ذلك ملوم! فنقراُ في هذا الإصحاح مرتين: «مِن كثرةِ المظالم يصرخونَ، يستغيثونَ مِن ذراع الأعِزَّاءِ» (ع٩)، «ثم يصرخونَ من كبرياء الأشرارِ ولا يستجيب (الله لا يستجيب)» (ع١٢).

وهنا فَرَضَ السؤالُ نفسَهَ: ولماذا لا يستجيبُ الله وكيف تأتي النتيجةُ وكأنها لا تلزَمُ عن المعطياتِ؟

فالمعطيات تقول إنهم:

١- يصرخون من كثرة المظالم.

٢- امْتَدَّتْ عليهم ذراع الأعزاء.

٣- يتجرعون من الأشرار كبرياءً، فلماذا لا يستجيبُ الله؟

هذا الإصحاح (أي٣٥) هو ضمنُ ستةِ أصحاحاتٍ تشملُ حديثَ أليهو، وفيه كان يشرح لأيوبَ: مدرسة اللهِ وحكمته. والمنهجُ في مدرسةِ الله يا قارئي، يشملُ الصراخ ولكنه يلومُ عليه إن احتلَّ صدارةَ ردودِ أفعالِ المتألمِ، كذا إن كان هو ردَّ فِعلِهِ الوحيد! فما هو بندُ اللوم إذًا؟

يستطردُ أليهو بعد الآيةِ المذكورةِ أعلاه لائمًا: «يصرخونَ، يستغيثونَ» (ع٩)، «ولم يقولوا أين اللهَ صانعي، مؤتي الأغاني في الليل؟». ثم يضيف: «الذي يُعلِّمنا أكثرَ مِن وحوشِ الأرضِ، ويجعلُنا أحكمَ مِن طيورِ السماءِ» (ع١١)؛ ثم يضيف: «ثم يصرخون ...» (ع١٢).

وهذا الرد يفاجئنا بحقيقةٍ خطيرةٍ، مِن شأنِها أن تجعلكَ أيها المتألِمُ تُعيدُ حساباتِك. فأراد أليهو أن يقول: إن تألَّمَ وظُلِمَ المؤمنُ ثم صرخَ لله فاستجابهُ، فهذا لا يفرقُ كثيرًا ولا قليلاً عما يحدثُ ويدورُ في عالمِ المخلوقاتِ غيرِ العاقلةِ! ألا تَجْرَمِزُّ اللبوةُ والأشبالُ في عِرِّيسِها (عرينها)، كذا تنعبُ فِراخُ الغربان إلى الله لعدمِ قوتِها؟ (أي٣٨: ٣٩-٤١). فيستجيبُ الله هذا وذاك. هذا البحرُ الكبيرُ، الواسعُ الأطرافِ، بصغارِ مع كبارِ حيواناتِهِ مع دباباتهِ، ألا يرفَعُ أصواتَ الرجاءِ لله تارةً، واستغاثاتِ النجاةِ تارةً أُخرى فيُستجاب؟ هي صرخاتٌ من الصغار واستجاباتٌ مِن أبي الكل، ولكن أين مدرسةُ التعلُّم يا أخي؟ هي ليست لوحوش الأرضِ ولا لطيورِ السماءِ بل للمفديين!

صديقي: أُلخِّصُ لكَ الدرسَ، عندما تتألم، قبل أن تصرُخَ، توجَّه للقلب العافي سائلاً: ما هو الدرسُ المُرادُ تعلُّمه؟ قُل له: أنت صانعي، أي متقني، أي مَن تفنَّنَ وأبدعَ في صناعتي، لا تجلُ الليلَ قبل أن تأتيني الأغاني في ظلمتِهِ.


بطرس نبيل