أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يونيو السنة 2006
موت المسيح فى الانجيل ( يوحنا 6 ) - دراسات في إنجيل يوحنا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

ذكرنا في العدد السابق أن حديث الرب في يوحنا 6 جاء تاليًا لمعجزة تكثير الخبز والسمك، وإشباعه للآلاف التي كانت موجودة. وقد قال الرب هذا الحديث للجموع، التي ذهبت وراءه في اليوم التالي، طمعًا في أكلة أخرى. والرب حوَّل فكرَهم إلى الطعام الباقي للحياة الأبدية، وهو شخصه الكريم. لكن ليس شخصه كصانع معجزات، ولا كمعلم عظيم، بل كمن أتى ليبذل جسده فوق الصليب لأجل حياة العالم. والأكل في هذا الحديث له مكان بارز. فلقد ورد تعبير ”الأكل“ ومشتقاته في هذا الفصل ”13 مرة“، منها أربع مرات عن أكل الشعب للمن قديمًا، والتسع المرات الباقية هي عن الأكل من المسيح. وبه تقريبًا بدأت أسئلة اليهود للمسيح (ع 30، 31)، وبه ختم هو أجوبته عليهم (ع58). هم أشاروا إلى الآباء الذين أكلوا المن الذي أعطاهم إياه موسى، وهو أجابهم عن شخصه في مفارقة: ليس كما أكل آباؤهم المن وماتوا. فإن من يأكل هذا الخبز يحيا إلى الأبد.

 مدلول الأكل

 المسيح - في خلال الحديث - اعتبر أن الأكل والشرب منه مرادفان للإتيان إلى شخصه والإيمان به، فقال: «أنا هو خبز الحياة. من يقبل إليَّ فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش أبدًا». لاحظ أنه لم يقل أنا هو خبز الحياة من يأكلني فلا يجوع، بل «من يقبل إلي فلا يجوع». كما أنه لم يقل: ”من يشربني“، بل «من يؤمن بي فلا يعطش أبدًا».

 والمشابهة بين الأكل والإتيان إلى المسيح يمكننا أن نفهمها كالآتي:

  1. الأكل يسبقه الجوع، وهذا يعبِّر عن الشهية والرغبة. ومكتوب عن الرب: «لأنه أشبع نفسًا مشتهية، وملأ نفسًا جائعة خيرًا» (مز107: 9). ومن يأتي إلى المسيح ينبغي أن يحس بالجوع إلى شخصه، بحيث لا يمكن لسواه أن يسد هذا الجوع، كقول داود: «يا الله إلهي أنت. إليك أبكِّر. عطشت إليك نفسي. يشتاق إليك جسدي. في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء» (مز63: 1).
  2. لأن الأكل ضرورة حتمية لا غنى عنها. فلا يكفي التأمل في الطعام، ولا التفرس فيه بإعجاب، ولا أن نقتنع نظريًا بأهمية الأكل، فإن هذا كله سيفضي إلى التضوِّر جوعُا، وإلى الموت في النهاية، إن لم نأكل. وهكذا أيضًا المسيح، لا يكفي مطلقًا دراسة حياته، ولا حتى الإعجاب به، بل يلزم الإقبال إليه شخصيًا، وقبوله بالإيمان.
  3. الأكل عمل فردي: فقد يتكلم إنسان نيابة عن إنسان آخر، أو قد يحضر مندوبًا عنه في بعض المحافل، وقد يقوم واحد بالنيابة عن شخص آخر بالعديد من الأعمال، ولكن ليس من ضمنها الأكل. فلا يمكن لشخص أن يأكل عن شخص آخر. إن أقرب من لك لن يغنيك أنت شخصيًا عن الأكل، وهكذا فإن أقرب من لك لن يغنيك عن الإتيان الشخصي إلى المسيح المخلص.
  4. الطعام بعد أكله وهضمه يصبح جزءًا لا يتجزأ من الإنسان الذي تناوله، ويستحيل فصله عن الشخص. فهو يتغلغل بالتمثيل الغذائي إلى كل الجسد، لدرجة أن يصبح هو والإنسان شيئًا واحدًا. هكذا كل من يقبل إلى المسيح، ويؤمن إيمانًا حقيقيًا وقلبيًا به، يصبح هو والمسيح شخصًا واحدًا.
  5. الأكل وكذلك الشرب تصاحبهما لذة خاصة. فقد يمكن للمرء أن يحصل على القيمة الغذائية التي في الطعام من أقراص يتناولها، ولكنه بذلك سيفقد شيئًا هامًا جدًا، هو الاستمتاع بالأكل، وهو واحد من أحلى أطايب الحياة الدنيا. وهكذا بالنسبة للإتيان للمسيح، فلقد قال الرسول بطرس: «وإن كنتم لا ترونه الآن، لكن تؤمنون به، فتبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد». وقال أيضًا: «إن كنتم قد ذقتم أن الرب صالح الذي .. تأتون إليه» (1بط1: 8؛ 2: 3و4)

تجسد المسيح وموته

 بعد أن تحدث المسيح عن أهمية الأكل منه، فإنه خطى خطوة أبعد عندما قال: «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ» (ع51).

 إذًا فلقد حدد المسيح ما هو هذا الخبز الذي يقدمه للإنسان. إنه هو جسده الذي يبذله لأجل حياة العالم. وهنا نقرأ أن اليهود خاصموا بعضهم بعضًا قائلين: كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل؟

 والمسيح في الفقرة الأولى من هذه الآية ذكر أنه هو طعام العالم، وفي الفقرة الثانية أشار إلى أنه هو مُطعِم العالم. في الفقرة الأولى كانت الإشارة إلى تجسده، وفي الفقرة الثانية أتت الإشارة إلى موته.

 وكما تعثر اليهود أمام إعلان المسيح عن أصله السماوي الإلهي، فقد تعثروا أمام حقيقة موته على الصليب. وما زال حتى اليوم هناك عثرة كبرى أمام هاتين الحقيقتين: نزول المسيح من السماء، وموته الكفاري فوق الصليب. لكن الكتاب المقدس يعلن صراحة أن المسيح أتى من السماء إلى العالم، وأنه أتى لكي يُصلب. لقد «أُظهر مرة عند انقضاء الدهور ليُبطِل الخطية بذبيحة نفسه» (عب9: 26).

 والواقع إن خلاصنا ليس مبنيًا على تجسد المسيح وحده. فلو أنه تجسد فقط وعاش حياة الكمال المطلق التي عاشها، ثم رجع إلى الآب، أي أمل كان يبقى لنا في القبول عند الله؟ لقد أعلن الله، بظهور المسيح في الجسد، عن نوع الحياة التي يقبلها. وبالتالي فإن هذا جعل أمر القبول عند الله بعيد المنال عن أمثالنا. ولكن المسيح الذي أتى من السماء، مضى أيضًا إلى الصليب، ومات بالنيابة عنا، لكي يمكننا أن نُقبَل عند الله.

 وللمرة الرابعة في هذا الحديث الخطير مع اليهود يصدِّر المسيح كلامه بعبارة ”الحق الحق أقول لكم“، ويستطرد كلامه لكي يزداد النور أمام المؤمنين، بينما تزداد كثافة الظلام أمام من أغمضوا عيونهم للنور بإرادتهم. فيقول المسيح: «ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ» (ع53، 54)

 ليس الأكل الحرفي

 ومن الأهمية بمكان أن ندرك أن المسيح هنا لم يكن يعني الأكل الحرفي الجسدي، ولا الشرب الحرفي، كما ذهب في ذلك بعض المعلمين، ونسوق لذلك العديد من الأدلة:

  1. إن استعارة الأكل لم تكن غريبة على عقلية المستمع اليهودي، فهم يعرفون ما قاله مثلاً إرميا النبي: «وُجد كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي» (إر15: 16). واضح هنا إن الأكل الذي يتحدث عنه النبي، ليس له أدنى علاقة بالأكل الحرفي الجسدي. وهذا المجاز بالذات ما زال مستخدمًا حتى اليوم، إذ نقول إننا التهمنا الكتاب، أو أننا تشربنا بالفكرة، أو أننا هضمنا الخطة.
  2. أن أسلوب الاستعارة هو أسلوب شائع في أقوال المسيح بحسب إنجيل يوحنا، وسبق أن تقابلنا معه في ص3، ولم يفهمه نيقوديموس وقتها، إذ ظن أن المسيح يتكلم عن الولادة بالمفهوم الجسدي، فقال للمسيح متعجبًا: «كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ؟ أ لعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد؟» (يو3: 4). ثم جاء هذا الأسلوب أيضًا في الأصحاح الرابع، ولم تفهمه المرأة السامرية، عندما وعدها المسيح أن يعطيها الماء الحي، فقالت له: «يا سيد: لا دلو لك والبئر عميقة، فمن أين لك الماء الحي؟» (يو4: 11). ولما قال لها: «كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا، ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد»، ظنته يتكلم عن الماء الحرفي، فقالت له: «يا سيد أعطني هذا الماء، لكي لا أعطش، ولا آتي إلى هنا لأستقي» (يو4: 13-15).
  3. أن المسيح سبق أن تحدث صراحة في هذا الإنجيل عينه عن استعارة الأكل، لما قال لتلاميذه، ما لم يفهموه أيضًا وقتها. قال: «أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم.. طعامي أن أعمل مشئية الذي أرسلني، وأتمم عمله» (يو4: 32-34).
  4. أن المسيح في هذا الفصل عينه أوضح ما الذي يقصده من الأكل منه إذ قال عن علاقته بالآب: «كما أرسلني الآب الحي، وأنما حي بالآب، فمن يأكلني فهو يحيا بي» (ع57). واضح أن في علاقة المسيح بالآب لا توجد مسألة أكل حرفي.
  5. أن المسيح في نهاية هذا الحديث بالذات، قال إن «الروح هو الذي يحيي، أما الجسد فلا يُفيد شيئًا. الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة» (6: 63). بمعنى أنه حتى ولو أكلتم جسدي حرفيًا، ووصل جسدي الحرفي إلى أعماق بطونكم، لن ينفعكم هذا شيئًا، بل إن أردتم الاستفادة من كلامي فعليكم فهمه بأسلوب روحي.

 (يُتبَع)

يوسف رياض