أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يونيو السنة 2007
موت المسيح في الإنجيل - دراسات في إنجيل يوحنا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«ليوم تكفيني قد حفظته» (يوحنا 12: 7)

في العددين السابقين للمجلة تحدثنا عن نبوة قيافا رئيس الكهنة عن موت المسيح، الواردة في يوحنا 11. وعرفنا أن خلفية النطق بهذه النبوة كانت المعجزة العظيمة، معجزة إقامة لعازر من الأموات. وهذه المعجزة، إن لم تكن هي علة صلب المسيح الأساسية، فإنها على الأقل عجلت به. لقد عقد رؤساء الكهنة والفريسيون جلسة استثنائية لمجمع السنهدريم ليبحثوا في الأمر، فاقترح قيافا رئيس الكهنة قتل المسيح. ونطق بنبوة عن هذا الموت، وأثبتت الأيام التالية أن أقواله كانت ذات صبغة نبوية، تجاوزت بكثير مدارك الشخص الذي نطق بها. ولا يذكر البشير يوحنا أي صوت اعتراض حدث في المجمع. وبفرض وجود أشخاص عقلاء في هذا المجمع، أمثال نيقوديموس (يو 3: 1، 2)، أو يوسف الرامي (لو 23: 51)، أو غيرهما، فقد أمكن بسهولة إسكات أصواتهم. وإذ كان صوت رؤساء الكهنة والفريسيين هو الأقوى، فإنه ساد وغلب. لقد اتخذوا قرارهم، ولم يبق سوى أن يهيئوا المناخ لتنفيذه، دون أن يؤاخذهم أحد. فواضح أن هؤلاء الأشرار - رغم كل شرهم – كانوا جبناء، وأرادوا إتمام مقصدهم دون أن يلحظهم أحد. كانوا يخافون البشر، ولكن خوف الله – هذا الإله البار والقدوس، الذي يرى في الظلمة كما في النور - لم يكن أمام عيونهم! المسيح يذهب إلى مدينة أفرايم لم يكن الرب يسوع حاضرًا الاجتماع لحظة اتخاذ قرارهم، كما لم يكن محتاجًا أن يخبره أحد الأصدقاء به، فهو من البداية عرف الجميع، وعلم ما كان في الإنسان (يو2: 24، 25). ويا لها من مباينة واضحة! لقد اقترح رئيس كهنة اليهود على المجمع قتل يسوع، لأنه أقام لعازر من الأموات! هو يقيم الرميم، وهم يقتلون ”رئيس الحياة“! أهناك مقابلة بين الأسود والأبيض أوضح من هذه! يقول البشير: «مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَشَاوَرُوا لِيَقْتُلُوهُ. فَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ أَيْضاً يَمْشِي بَيْنَ الْيَهُودِ علاَنِيَةً بَلْ مَضَى مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْكُورَةِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْبَرِّيَّةِ إِلَى مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا أَفْرَايِمُ وَمَكَثَ هُنَاكَ مَعَ تلاَمِيذِهِ» (ع53، 54). والمسيح لم يفعل ذلك خوفًا من شر اليهود، فلقد كانت قدرة الله كافية لحفظه، كما فعلت مرات كثيرة قبل ذلك. ص7، 8. ولكن حيث إنه رُفض، وبات أمر قتله مقررًا، فإنه انسحب من المشهد، ليعود إلى الظهور عندما تأتي الساعة المعروفة في المشورات الأزلية. ونحن لا نقرأ عن أي نشاط ظاهري للمسيح هناك. والأرجح أنه قضى معظم وقته في شركة مع أبيه، كما قيل في الرمز قديمًا عن إبراهيم وإسحاق: «ذهبا كلاهما معًا» (تك22: 6، 8). ولا نستبعد أن يكون تفكير المسيح في هذه الفترة منحصرًا فيما ورد في النبوة: «أما أنا فقلت عبثًا تعبت باطلاً، وفارغًا أفنيت قدرتي. ولكن حقي عند الرب، وعملي عند إلهي» (إش 49: 4). وأما بخصوص مدينة ”أفرايم“، فنحن لا نعرف الكثيرعنها. على أن المعنى الروحي هو الذي يعنينا، وهو جميل، فالاسم ”أفرايم“ في كلمة الله هو اسم ابن يوسف من أسنات (تكوين 41)، وقد صار فيما بعد سبطًا ذا شأن، وعندما انفصلت مملكة إسرائيل عن مملكة يهوذا، صار اسم مملكة إسرائيل هو ”أفرايم“. إذًا فهذا الاسم له مدلوله المزدوج، فهو الاسم الذي كان لإسرائيل وهم في حالة الارتداد والبعد عن الله (انظر نبوة هوشع مثلاً). ولكن من الجانب الآخر هو اسم ابن يوسف المرفوض من إخوته، الذي أعطاه له الله من زوجته أسنات, ومعناه ”الثمر المزدوج“. فلقد أعطى الله ليوسف - وهو مرفوض من إخوته - ثمرًا مضاعفًا، من الأممية. صورة للثمر الكثير الذي نقرأ عنه في الأصحاح التالي، عندما أتى اليونانيون وطلبوا أن يروا يسوع (يو12: 24). إذًا ففي هذه المدينة التي إليها انسحب الرب من مشاهد العداء لشخصه في أورشليم، يمكننا أن نرى العمل العظيم الذي يجريه الله وسط الأمم؛ والثمر الكثير الذي سيحصل عليه منهم، بينما هو ساتر وجهه عن بيت يعقوب (انظر إشعياء 8: 17، 18؛ عبرانيين 2: 13). الاستعداد للفصح الأخير لقد رفض رؤساء الأمة حمل الله، ولكن مظاهر الديانة ظلت تسير في مسارها المعتاد. فيخبرنا البشر: «وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قَرِيباً. فَصَعِدَ كَثِيرُونَ مِنَ الْكُوَرِ إِلَى أُورُشَلِيمَ قَبْلَ الْفِصْحِ لِيُطَهِّرُوا أَنْفُسَهُمْ». كانوا نشطين في حضور الأعياد، غير مبالين بحمل الله! وكان كل ما يعنيهم طهارة الجسد من الخارج، وأما القلب فهو مملوء بكل أنواع الشر والخبث! فلا عجب أن يقول لهم المسيح في هذا الأسبوع عينه، هذه الكلمات النارية: «ويل لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالشِّبِثَّ وَالْكَمُّونَ وَتَرَكْتُمْ أَثْقَلَ النَّامُوسِ: الْحَقَّ وَالرَّحْمَةَ وَالإِيمَانَ... وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ وَهُمَا مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوآنِ اخْتِطَافاً وَدَعَارَةً! .. وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُوراً مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً وَهِيَ مِنْ دَاخِلٍ مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ. هَكَذَا أَنْتُمْ أَيْضاً: مِنْ خَارِجٍ تَظْهَرُونَ لِلنَّاسِ أَبْرَاراً وَلَكِنَّكُمْ مِنْ دَاخِلٍ مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْماً!» (مت 23: 23-28 قارن مع إشعياء 1: 10-17). وهكذا ظلوا حتى النهاية، عندما اشتكوا على مسيح الله زورًا، مطالبين بصلبه، ولكنهم تجنبوا الدخول إلى دار الولاية، لئلا يتنجسوا، لكي يمكنهم أن يأكلوا الفصح! (يو 18: 28). لقد كان الكثيرون متوقعين رؤيته في العيد، وأن يصنع أعمالاً أعظم مما سبق. وهذه هي سطحية عدم الإيمان. ويخبرنا الوحي الكريم أن «رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيُّينَ كانوا قَدْ أَصْدَرُوا أَمْراً، أَنَّهُ إِنْ عَرَفَ أَحَدٌ أَيْنَ هُوَ فَلْيَدُلَّ عَلَيْهِ لِكَيْ يُمْسِكُوهُ» (11: 57). بمعنى أنهم أذاعوا النداء أنه ”مطلوب القبض عليه!“. وهكذا أصبح ابن الله ومحبوب الآب، مقيم الرميم ومحيي الأموات، على رأس قائمة المطلوبين حيًا أو ميتًا. عار عليكِ يا أمة اليهود أن تفعلي ذلك مع سيدك الذي أحبك وأتى ليفتقد سلامتك! أما أنت يا خائن كل العصور، عار عليك أن تكون المتطوع – غير المشكور – لتقوم بهذه الفعلة النكراء الشنيعة. وهكذا في هذا الجو المشحون بالبغضة والكراهية، وصل يسوع إلى بيت عنيا. المسيح في بيت عنيا في فاتحة الأصحاح التالي (يوحنا 12) نقرأ عن وليمة عُملت لإكرام المسيح. فالمسيح عندما صعد إلى أورشليم، لم يتجه إلى الهيكل ليواصل أعماله المبهرة، ليشبع فضول الجموع غير المؤمنة، بل اتجه إلى خاصته وأحبائه في بيت عنيا، أولئك الذين كانوا قد شاهدوا مجده، وهناك صنعوا له عشاء تكريمًا له. لقد خُتم الفصل السابق بالإشارة إلى عائلة الله، الذي كان المسيح مزمعًا أن يموت لكي يجمعهم معًا (11: 52). وهنا نرى صورة لاجتماع هذه العائلة؛ فحيث رُفض المسيح ولم يقدَّر، لنا الامتياز كعائلة الله، أن ننفصل عن هذا النظام المعادي له، لكي نكرمه. كان عيد الفصح على الأبواب، وكان تلاميذ المسيح يشعرون باقتراب الخطر من معلمهم وسيدهم المحبوب (قارن يوحنا11: 16)، لكن الشيء الذي ما كانوا يعرفونه ولا يتوقعونه أنه في هذا العيد تحديدًا سوف يسلم المسيح للموت. ويخبرنا البشير أنه «قَبْلَ الْفِصْحِ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ أَتَى يَسُوعُ إِلَى بَيْتِ عَنْيَا حَيْثُ كَانَ لِعَازَرُ الْمَيْتُ الَّذِي أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ. فَصَنَعُوا لَهُ هُنَاكَ عَشَاءً» (يو12: 1، 2). هذه كانت بداية النهاية، والأحداث من فاتحة أصحاح12 إلى قرب ختام أصحاح20 (20: 23)، تمت في فترة زمنية قصيرة، حوالي أسبوع واحد. هو ما يُسمَّى أسبوع الآلام. الذي ابتدأ بهذا الاجتماع لإكرام المسيح المزمع أن يموت، وختم باجتماع آخر حضر فيه المسيح المقام من الأموات، حيث أرى تلاميذه يديه وجنبه، ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب (يو20: 20). وكلا الاجتماعين يعطياننا صورة لما يجب على القديسين اليوم أن يفعلوه، إذ يجتمعوا لإكرام سيدهم، وهو من جانبه يتنازل فيحضر لكي ما يُفرِح شعبه، إذ يريهم مجددًا آثار المحبة الخالدة. وهذه الفترة الزمنية القصيرة هي بكل يقين أعجب وأهم فترات الزمان كله، بما في ذلك أيام إنجيل يوحنا الأصحاح الأول، أو أيام سفر التكوين الأصحاح الأول. وعبارة البشير: «قَبْلَ الْفِصْحِ (الذي كان في ذلك العام يقع في يوم الجمعة) بِسِتَّةِ أَيَّامٍ»، تُوصِّلنا إلى يوم الأحد السابق لموت المسيح مباشرة. وعلى الأرجح كان العشاء بعد غروب شمس يوم السبت، وفي الصباح التالي دخل الرب يسوع إلى أورشليم في موكبه الودبع، راكبًا على حمار وعلى جحش ابن أتان، كما يخبرنا البشير يوحنا في الآيات التالية. المسيح إذًا لم يدخل أورشليم متخفيًا، بل دخلها في موكب ملكي، كما تقول النبوات عنه (زك9: 9). ومن الأناجيل المتماثلة نعرف أنه بعد وصول الخبر إلى رؤساء الكهنة بمقدم الرب يسوع إلى العيد، عملوا اجتماعًا آخر لوضع اللمسات النهائية لجريمتهم، التي لن يمحوها الزمان ولا الأبدية. لكن هذا ليس مجاله إنجيل يوحنا. بل إن الرب لم يُحدِّث تلاميذه عن تسليم اليهود له ليد الأمم، ليصلبوه، ولا عن استهزائهم به وجلده وبصقهم في وجهه، كما في البشائر الأخرى، بل قال هذه العبارة الرائعة: «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع» (12: 32). ليوم تكفيني قد حفظته في هذا الاحتفال الكريم الذي بدأ أحداث النهاية، والذي فيه أُكرم المسيح أكثر مما أكرم على مدى الثلاث والثلاثين سنة المنصرمة، والذي فيه ترتقي وتتألق مريم كعادتها، حيث إنها لم تأت لتقدم الشكر للذي أقام أخاها من الموت، بل لتقدم السجود لذلك الذي كان مزمعًا أن يمضي إلى الموت، باذلاً نفسه لأجل أحبائه. لقد كان أسبوع الآلام بالنسبة للمسيح مملوءًا بالأمور المتباينة: المحزنة والمنعشة. لكننا لا نغالي إن قلنا إن ما حدث في بيت عنيا كان أكثر الأمور إنعاشًا لقلب المسيح. هذا المشهد، الذي يُذكَر في الأناجيل على خلفية قاتمة من تآمر الأشرار عليه، وخيانة الأردياء له. فمن بيت رئيس الكهنة كانت تفوح رائحة المؤامرة والغدر، ومن بيت عنيا فاحت رائحة الحب والإخلاص، بل رائحة العطر الذي دهن جسد المسيح قبيل آلامه! وكم هو مؤسف أنه في هذا الاجتماع وُجد من يعترض على عمل مريم. لقد قالوا: «لماذا لم يُبَع هذا الطيب .. ويعط للفقراء؟». وأما المسيح فقد أثنى على تصرفها. ولقد قال لهم المسيح: «الفقراء معكم في كل حين، وأما أنا فلست معكم في كل حين». كان مزمعًا أن يتركهم، وأما الآن فهم عندهم الفرصة لإكرامه. ويمكننا تطبيق ذلك على الفرصة التي فيها يتفق المؤمنون على الاحتفال بشخصه، في عالم ما زال يحتقره ويرفضه. عندنا – يا أخي العزيز- سبعة أيام لنعتني بالفقراء، سواء كان فقرهم روحيًا أم ماديًا. إنهم معنا طوال الأسبوع، وأما فرصة إكرامه التي فيها يسر الروح القدس أن يجمع قديسيه من حوله، فلا تدعها تفلت منك. إن إكرامه هو في نظره أهم من الاهتمام بالفقراء، رغم أن هذا في حد ذاته صالح ومهم، ولكن هناك ما هو أهم. والمسيح بلطفه المعهود أعطى لعمل مريم قيمة أسمى مما قصدت هي. فربما لم تقصد مريم سوى إكرام المسيح، ولكن المسيح في كرمه أضفى أبعادًا أخرى إلى ما فعلته، مثلما أعطى الروح القدس كلمات قيافا الشرير معنى أبعد مما فكر هو فيه. 11: 51. والمباينة بين قيافا ومريم واضحة تمامًا. ويمكن القول إن مريم كانت منقادة بحكمة أسمى مما كان لها، إذ إنها كانت منقادة بروح الله، وكان قيافا منقادًا بروح القتال للناس من البدء. لم يكن تكفين مريم لجسد المسيح إعلانا نبويًا لها، كذلك الإعلان الذي تلقاه قيافا الشرير، بل كان مجرد تمييز روحي من قلب أحب المسيح. ولقد كان ما عملته مريم في تمام التوافق مع فكر الله في ذلك الوقت. وأمام مشهد حكم فيه كل قادة الأمة على المسيح أنه مستوجب الموت، أحضرت هي أغلى ناردين عندها، وسكبته على قدميه، ودهنتهما بالطيب، ومسحتهما بشعر رأسها. فنعم ما فعلت!

يوسف رياض