تعرف القواميس العلم على أنه: ”طريقة مُمنهجة لمعرفة الطبيعة“. ومع ذلك، فإن معظم العلماء يفتكرون أن العلم: ”عملية“ أو ”إجراء“ أكثر منه ”مُنتجًا“. يظنونه ”طريقة للدراسة“ أكثر منه ”معرفة“. وفي الواقع فإن أينشتين قال مرة: ”إن العلم في مجمله لا يعدو أن يكون ثقافة التفكير اليومي“.
والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف يُعرِّف المسيحيون العلم؟ وأقترح الإجابة التالية: ”العلم هو طريقة مُمنهجة لدراسة خليقة الله“. فالتنبير ليس على تراكم المعرفة، بقدر ما هو على دراسة فعل الله. كما يقول مزمور ١١١: ٢: «عَظِيمَةٌ هِيَ أَعْمَالُ الرَّبِّ. مَطْلُوبَةٌ (مدروسة من قبل) لِكُلِّ الْمَسْرُورِينَ بِهَا». وكان الفيزيائي البريطاني البارز ”جيمس كلارك ماكسويل“ قد وضع هذه الآية أعلى باب معمل ”كافينديسن“ في إنجلترا، حيث عمل كثيرون من العلماء حاملي جائزة نوبل.
المنهج العملي:
معظم العلماء يتبعون سبيلاً معروفًا. فأولاً، يتم وضع تعريف خاص بالمسألة المعضلة. ثم تتم دراسة تقارير أو أطروحات لعلماء آخرين بشأن المسألة. ثم يتبع وضع معادلات فرضية والتخطيط بعناية للتجريب. وخلال التجريب تُسجل الملاحظات بدقة وحرص، ويتم تحليلها بنظام، غالبًا باستخدام الحاسبات. وأخيرًا يتم صياغة نتائج تجريبية، والتي يتم مشاركتها مع علماء آخرين سواء في المؤتمرات أو من خلال النشرات والمجلات العلمية.
والسؤال الآن: هل هذه الطريقة كتابية؟ الإجابة نقول: إن الكتاب المقدس لا يصف هذا التناول العلمي. بيد أنه يشجع على استطلاع ودراسة الخليقة. وهاك آيتان مصداقًا لذلك: «ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ» (مز ٣٤: ٨)؛ «امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ. تَمَسَّكُوا بِالْحَسَنِ» (١تس٥: ٢١). وهاتان الآيتان تدعمان الطريقة التجريبية المتبعة في العلم.
كيف يتناول المسيحيون العلم؟
المنهج العلمي لا يختلف كثيرًا بين مؤمن وغير مؤمن. ورغم أن كثيرين من العلماء المشهورين، أمثال: نيوتن، وفاراداي، وماكسويل، آمنوا بالله شخصيًا - باعتباره خالق الكون، إلا أن كثيرين منهم لم يكونوا مؤمنين، مثل: داروين وأينشتين. وكل من المؤمنين، وغير المؤمنين، قادرون على التناول الجيد والفعال للعلم. فهؤلاء وأولئك، كائنات عاقلة على صورة الله، ولهم القدر على ملاحظة الطبيعة، وتفسير ظواهرها، والوصول إلى نتائج سليمة.
وعلى حد قول عالم الفضاء اللوثري ”جوناثان كيلر“: ”هذه القوانين التي تحكم العالم المادي، إنما موضوعة في متناول قدرة الفهم التي للعقل البشري، لأن الله أراد لنا أن ندركها، عندما خلقنا على صورته“.
ولكن نظرة العلماء المسيحيين نحو عملهم، وتجاه الطبيعة، ينبغي أن تكون مختلفة وإذا عدنا إلى تعريفنا السالف للعلم: ”دراسة ممنهجة لخليقة الله“، نُكرّر التنبير على أنه ٠ في دراستنا للطبيعة - لا نتناول جزيئات عشوائية بلا معنى، تُكوّن الكون، أو حتى جزيئات متسقة نتجت من لا شيء. بل نحن معنيون بحقيقة موضوعية مخلوقة بواسطة إله شخصي غير محدود. أذكر قول داود حين تعجب من أمر النجوم: «إِذَا أَرَى سَمَاوَاتِكَ عَمَلَ أَصَابِعِكَ، الْقَمَرَ وَالنُّجُومَ الَّتِي كَوَّنْتَهَا» (مز ٨: ٣). استولى الذهول والدهشة على العالم الشهير، والملقب بأبى الميكروبيولوجي، ”أنتون ڤان ليووينهوك“ عندما تفحص لأول مرة، الخلية، بواسطة الميكروسكوب.
سلطان العالم:
عند نطاق العلم ليشمل كل مناحي خليقة الله. فهو لا يقتصر على الفيزياء والبيولوجي فقط، بل يتضمن أيضًا مجالات أحدث مثل، علم النفس المعرفي، والذي يدرس علماؤه جانبًا آخر من جوانب خليقة الله؛ الذهن البشري. البحث العلمي الذي قمت به كان بخصوص التفاعل الإنساني مع الحاسوب، منظورًا إليه من جوانب الحركة والإدراك، ومكونات الوقت المعرفي، بخصوص التفاعل البشري مع الحاسبات بكافة أنظمتها. وكان غرضي من الدراسة فهم وتقليص هذه المكونات.
بيد أنه لا بد من كلمة تحذير في هذا المقام. فعندما نُوسع طريقة بحثنا العلمي الموضوعي ليشمل محددات السلوك النفسي والاجتماعي، فقد ننزلق إلى مشاكل خطيرة. حينئذ لا نكون ندرس ابتداءً، الإنسان، باعتباره مخلوقًا خلقه الله، بل باعتباره تطويرًا للنماذج البشرية. وفي حين أن بعض هذه النماذج الإنسانية متضمنة - بالتأكيد - ضمن خلق الإنسان على صورة الله، فإن الكثير من الظواهر السلوكية والثقافية التي اعترت الإنسان مردها إلى خطية الإنسان وتمرده على الله. وعلماء الاجتماع الذين لا يضعون ذلك في حسبانهم، سينتهون إلى نتائج خاطئة وكاذبة.
وهناك بالفعل ثلاثة مستويات مختلفة للنشاط العلمي .. ولكن ليست كلها تُفضي إلى نتائج لها ذات الدرجة من اليقين. فالعلماء يلاحظون الظواهر الفيزيائية للطبيعة، ويستدلون (يستنتجون) على السلوك الفيزيائي الحاضر للغرض موضوع البحث. ثم يتنبأون بالسلوك المستقبلي أخذين في الاعتبار التاريخ التجريبي. وفي حين أن الخطوتين الأوليتين عادة تكونان يقينيتين، فإن الخطوة الأخيرة تنطوي على مخاطرة يمكن أن تفضي إلى نتائج خطيرة ومُضللة. ويجدر بنا أن نستعين ببعض الأمثلة:
في ذات أمسية مظلمة حالكة من عام ١٩٨٧ لاحظ ”إيان شيلدون“ نجمًا جديدًا لامعًا ظهر فجأة في سحابة ماجيلان. وفي الحال استنتج أن نجمًا ينطوي أو ينهار على ذاته؛ فاقدًا معظم كتلته. وهكذا تنبأ علماء الفضاء أن هذا النجم كان يحرق وقوده النووي على مدى ملايين السنين، وسرعان ما سيدخل إلى نوبته لنجم نيوتروني متعادل الشحن. وسيظل هكذا لفترة مليون سنة أو نحوها. وفي عام ١٩٨٩ تم رصد أشع دائرية مسرعة صادرة منه.
خذ مثالاً آخر: هل لاحظتم الطفرات العشوائية الحادثة في الكائنات الحية. وبالملاحظة يُمكننا أن نستنتج أن هذا التغير العشوائي يحدث لكل المخلوقات، وإن البيئة عادة تلعب دورًا فيه، دور تختلف درجته من نوع لآخر.
ثم فيما يبدو قفزة عملاقة لكل منا، كثيرون من العلماء، بل معظمهم، ينتهون إلى نتيجة مؤداها أن هذه الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي، تحدث على مر ملايين السنين، وهي سبب ارتقاء كل كائن حي من أشكال حياة بدائية قليلة.
والخطوة الأولى؛ الملاحظة، هي خطوة أكيدة لا مراء فيها. فثمة نجوم جديدة تظهر فجأة، وطفرات عشوائية تحدث في كل شيء. والخطوة الثانية؛ الاستدلال (أو الاستنتاج) على سلوك حاضر، أقل يقينًا، ولكنها تستحق الثقة نسبيًا. فلا أحد يشك بشأن نجم ينسف سطحه. وإن قدرًا ما من الانتخاب الجيني يحصل اليوم ولكن، الخطوة الثالثة، هي الأقل يقينًا بين الثلاث، فضلاً عن أنها الأكثر معارضة من قبل المسيحيين المؤمنين بالكتاب المقدس. ولعل السبب هي ما تتطلبه من ملايين، ومليارات السنين. فهل عمر النجوم ملايين السنين؟ وهل تطورت أشكال الحياة المختلفة، بما فيها الإنسان، من أشكال حياة أدنى؟ بعض المؤمنين يجيبون بنعم على السؤالين الأولين، في حين يؤيد البعض الخطوة الأولى فقط، بينما يرفض البعض ثلاثتهم.
العلم والإيمان:
غير المؤمنين ينظرون إلى الكون عبر نظارة واحدة فقط، ومن ثم لا يرون سوى العمليات المادية فقط. وأما المسيحيون فينظرون إلى الكون من خلال الفهم، وأيضًا الإيمان بكلمة الله. وهم يؤمنون أن الله الذي خلق الكون هو إله شخصي، وهو لم يقف عند حد الخلق، بل هو يعني ويهتم بشؤونه أيضًا. وهم يعرفون «أن كُلُّ شَيْءٍ بَاق هكَذَا مِنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ» (٢بط٣: ٤). إنهم لا ينتظرون استكمالاً للخليقة مؤسسًا على عمليات جارية ليجيبوا إجابات صحيحة بشأن، الخلق الأولى (الابتدائي)، وأصل الجنس البشري، وطوفان سفر التكوين، واختيار إسرائيل كأمة، وميلاد يسوع الفريد، وحياة وموت وقيامة يسوع المسيح.
فبصدد كل هذه المواقف، وغيرها الكثير، كانت المعجزات حاضرة وعاملة، وهي تبرز كل وصف وتفسير علمي (إر٣٢: ٢١؛ أع٢: ٢٢). كثيرون من آباء العلم الحديث اعترفوا بوجود هذه المعجزات. على سبيل المثال، الكيميائي العظيم ”روبرت بويل´، ويوافق العالم المعاصر له، ”بليز باسكال´، في قول شهير: ”وظيفة المنطق الأولى هي أن تدلل على أن هناك أشياء تتعدى حدود المنطق“. هذان العالمان، ومعهما آخرون كثيرون، أمثال: كيبلر، ونيوتن، وفاراداي، وماكسويل كانوا ينظرون إلى هذه الأشياء من حيث أن الله هو أصل الكون، والحياة، والإنسان، وأن كل أولئك يسمو فوق التحليل العلمي.
العلم وعدم الإيمان:
في سيرته الذاتية، والتي دونها الفيلسوف العلمي ذائع الصيت ”سير كارل بوبر“، في عام ١٩٧٦، والتي سماها: ”تساؤل لا ينتهي“، أبدى ”بوبر“ هذه الملحوظة الصائبة: إن انتشار الفكر الدارويني مرده إلى كونه أول شرح مقنع لنشوء وارتقاء الحياة لا يلتزم بوجود إيمان شخصي في الله الخالق. ويستطرد ”بوبر“: إن قبول نظرية الارتقاء كان بالنسبة له أشبه بالتعلق بقشة. واسمعه يقول: ”لم أكن أعبأ كثيرًا بقوة أو صواب منطق نظرية الارتقاء أو شرحها، ولكن في موقف كهذه الأزمة وهذا اليأس، علينا أن نتلقف بشكر أي قش لنتعلق بها“. ولم يكن هذا الموقف حصريًا على ”بوبر“، بل أن كثيرين من العلماء البارزين وافقوه.
هل يسد العلم الفجوة؟
يفتكر معظم الناس أن العلم هو بمثابة غلق لفجوة في المعرفة لدينا. وهذا حقيقي من أوجه كثيرة. فليس بوسعنا أن ننكر التقدم الهائل في مجالات الطب، والعلوم، والتكنولوجيا عبر المائة عامًا المنصرفة. بيد أنه حقيقي أيضًا أن تخمًا جديدة قد فتحت في هذه المجالات، حتى صرنا واعين لمساحات جديدة من الجهل الإنساني. فليس يتعين على العلماء الآن أن يخشوا من عدم توافر شيء للدراسة. قال ”إسحق نيوتن“ ذات مرة، إنه في سعيه الدؤوب لطلب المعرفة، أحس أنه أشبه بطفل صغير يلهو على شاطئ البحر، فالتقط حصاة صغيرة جميلة، في حين ظل المحيط - محيط الحقيقة - غير مُكتشف لديه. ولعلنا الآن نعلم كيف أن هذا المحيط، حقيقة، كبير وشاسع!
هل العلم يعني إلغاء العقل؟
أخطار العلم لا تتمثل كثيرًا في سد الفجوات، بل بالأحرى، في إبطال عقولنا تجاه مجد الله. فقد يحدث أحيانًا أن نعجب بقدراتنا الذهنية، أكثر من إعجابنًا بعظمة خليفة الله.
حتى ”نيوتن“ سقط في هذا الفخ. ففي شيبته كان معروفًا بالشموخ والكبرياء. حتى أن صراعًا نشب بينه وبين معاصره ”ليبنيز“، حول من منهما صاحب الفضل في اختراع حساب التفاضل والتكامل، وتطوير علم الرياضيات في إنجلترا في القرن التالي لهما. وقد أحسن ”كبلر“ عندما كتب في ١٥٩٨: ”الفلكيون هم أشبه بكهنة الله نحو كتاب الطبيعة. وعليهم أن يملأوا أذهانهم، لا بمجد ذكائهم الشخصي، بل بالأحرى بمجد الله فوق كل شيء آخر“.
في رسالتين إلى كنيستي كورنثوس، يحذر بولس من الحكمة الإنسانية، والأفكار المتعالية التي تعوق معرفة الله (١كو١: ١٩-٢١؛ ٢كو١٠: ٥). وهذا النمط من التعالي معروف في الحقل العلمي، ليس فقط في يومنا المعاصر، بل منذ أيام اليونانيين القدماء. ومع ذلك، فالمؤمنون الحقيقيون من هؤلاء العلماء بمقدورهم أن يقولوا مع صاحب المزمور: «لَيْسَ لَنَا يَا رَبُّ لَيْسَ لَنَا، لكِنْ لاسْمِكَ أَعْطِ مَجْدًا، مِنْ أَجْلِ رَحْمَتِكَ مِنْ أَجْلِ أَمَانَتِكَ» (مز ١١٥: ١).
دوجلاس هاي هو