أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد نوفمبر السنة 2019
الراعي الصالح
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

تأملنا فيما سبق في الأصحاح العاشر من إنجيل يوحنا الذي يُقدِّم لنا الرب يسوع باعتباره «الرَّاعِي الصَّالِحُ»، وذكرنا أن في هذا الأصحاح يرسم لنا الرب يسوع صورتين:

الأولى: في الأعداد ١-٦ حيث نراه يدخل من الباب إلى حظيرة الخراف.

الثانية: بدءً من الآية ٧ فصاعدًا، حيث يُعلن الرب يسوع عن نفسه باعتباره الباب.

وقد تأملنا في العدد السابق في المَثَل الأول للراعي الصالح (يو ١٠: ١-٦)، ونتأمل الآن في:

المَثَل الثاني للراعي الصالح (يو ١٠: ٧-٩)

«فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا: الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنِّي أَنَا بَابُ الْخِرَافِ. جَمِيعُ الَّذِينَ أَتَوْا قَبْلِي هُمْ سُرَّاقٌ وَلُصُوصٌ، وَلَكِنَّ الْخِرَافَ لَمْ تَسْمَعْ لَهُمْ. أَنَا هُوَ الْبَابُ. إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى» (يو ١٠: ٧-٩).

في يوحنا ١٠ بدءً من الآية ٧ فصاعدًا، نرى صورة مختلفة، حيث يُعلن الرب يسوع عن نفسه باعتباره الباب. من الضروري لكل إنسان أن يدخل من الباب، الذي ليس بأحد غيره الخلاص. وأود أن أصرح بهذا بكل وضوح: «لَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ» (أع ٤: ١٢). إنه أمر رائع أن تخلُص، وأتمنى أن كل مَن ينتمي إلى الرب يسوع، يكون لديه قلب مليء بالشكر، لكونه لن يهلك. وكم هو مُروع أن كل مَن يرفض الخلاص بالرب يسوع، سوف يهلك، حيث سيُطرَح بعيدًا عن وجه الله، في البحيرة المتقدة، إلى الأبد. أما أولئك الذين دخلوا من هذا الباب فسيختبرون ثلاثة أمور (ع ٩):

أولاً: سيخلصون: والخلاص تعبير شامل وواسع جدًا، ويتضمن النفس وظروف الحياة، وأيضًا يوم الاختطاف، الذي فيه ستتغير أجسادنا.

ثانيًا: سيدخلون ويخرجون: وأنا أعلم أن هناك إخوة يرون وجهتين لمسألة الدخول والخروج، الأولى باعتبارهما الكهنوت المقدس، والكهنوت والملوكي. ولكنى لست متأكدًا من أن هذا هو المقصود هنا، وأعتقد أن المقصود هو أن للقطيع حرية للحركة، بدون خوف، أمام الراعي. وأود أن أنبر على ذلك بشدة: إنها الحرية المسيحية. وأريد أولاً أن أُخبركم بما لا تعنيه الحرية المسيحية. إنها ليست الحرية لفعل الخطية، أو للعيشة بطريقة دنياوية، مع أنه بالأسف هناك من يفهمونها كذلك، لأنهم يعتقدون أن الحرية المسيحية تعنى الحياة بدون ضبط النفس. لكن كلمات الرسول بطرس تحذرنا من الذين يعدون بالحرية «وَهُمْ أَنْفُسُهُمْ عَبِيدُ الْفَسَادِ» (٢بط ٢: ١٩).

إذًا ما هي الحرية المسيحية؟ إنها رباعية الأوجه:

(١) أريد أن أشير إلى ما ورد في ٢ كورنثوس ٣: ١٧ «حَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ». ونحن سنُعاين مجد الرب بوجه مكشوف. وهذا هو الوجه الأول للحرية المسيحية، أن نجد فرحنا في الرب يسوع. أحيانًا تعتريني دهشة مما يفعله غير المؤمنين. فمنهم من يُمَيِّزه الود والتعاون والصبر، مما يدهشنا أحيانًا. لكن هناك شيء لا يستطيع أي منهم فعله: إنهم لا يستطيعون أن يجدوا فرحهم في الرب يسوع. هذا هو الوجه الأول للحرية المسيحية.

(٢) تتحدث رومية ٦ عن الخطية الساكنة فينا وتقول: «أَنَّكُمْ كُنْتُمْ عَبِيدًا لِلْخَطِيَّةِ»؛ نعم كان لا بد أن نُخطئ قبل الإيمان، أما الحرية المسيحية فتعنى أنه ليس علينا أن نخطئ الآن، كما يقرر نفس الأصحاح «إِذْ أُعْتِقْتُمْ مِنَ الْخَطِيَّةِ» (رو٦: ١٧-١٨). نحن نعلم من كلمة الله، ومن تجاربنا المُرة، أننا كمؤمنين لا زلنا قادرين على فعل الخطية، لكن الحرية المسيحية تعني أنه ليس علينا أن نخطئ فيما بعد. يا لها من حرية عظيمة!

(٣) نقرأ في رومية ٨: ٢١ عن «حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ». وبالرغم من أننا لم نصل بعد إلى المجد، لكن عندنا حرية المجد. وأود أن أشرح هذا. إذا حدث وأتيت إلى سويسرا لا يمكنك أن تأتى وتزورني فجأة لأنني غالبًا ما أكون خارج المنزل، وأحيانًا أكون مشغولاً جدًا، إلا أن لي سبعة أولاد، وعندما يأتون إلى المنزل ليس عليهم أن يتصلوا بي مُسبَّقًا لنتفق على الترتيبات، لكنهم يستطيعون أن يأتوا في أي وقت. هذه هي حرية أولاد الله، وهي موضوع رومية ٨. فحرية أولاد الله هي أن يتمكنوا من الدخول إلى ذات محضر الآب؛ والروح القدس يشهد مع أرواحنا أننا أولاد الله، وأننا نلنا روح التبني الذي به نصرخ «يَا أَبَا الآبُ». أتمنى أن نجتهد ونستفيد جميعًا من هذه الحرية، حتى نتمكن من الدخول إلى حضرة الآب في أي وقت، حيث يُمكننا الإفصاح عن كل مطالبنا. وهذا أيضًا أختبره مع أولادي. فمن وقت لآخر يأتي أحدهم إلى مكتبي، وبالطبع يريد منى شيئًا، لكن منذ سنوات دخل إلىّ أحد صغاري، ولم يكن لديه أي تساؤل أو طلب فسألته: “ماذا تريد مني؟” فرد ابني قائلاً: “لا أريد شيئًا، لكنى أريد أن أبقى معك إلى حين”. هذه هي حرية أولاد الله. هل اختبرت هذا؟ هل اختبرت أن تكون على ركبتيك أمام الآب، وتقدمت إليه بكل طلباتك، ثم أردت أن تبقى معه لبعض الوقت؟ هذه هي حرية أولاد الله.

(٤) أما الوجه الرابع للحرية المسيحية فنجده في ١بطرس ٥: ١، ٢ وهناك يقال شيء عن الشيوخ عامةً الذين عليهم أن يخدموا «لاَ عَنِ اضْطِرَارٍ بَلْ بِالاخْتِيَارِ». وأود أن أنبر على شيء هنا: إن الرب يسوع لا يُجبر أحدًا على العمل من أجله، بل يريد فقط مَن يعمل طواعية. فالخدمة عمل إرادي حر. من حرية المؤمنين أن يخدموه، لكن هذا لا يعنى أنهم مستقلون عنه. ومشكلتنا أننا نظن أننا سنكون مُجْبَرين، طالما كنا خاضعين له، أو أننا سنتصرف بحسب إرادتنا بالاستقلال عنه. لكن لو نظرنا إلى الرب يسوع نجده كما يقول في يوحنا ١٧: ٨ «إِنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ» - هذه هي إرادته- «أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي» - هذا هو الاتكال التام على الله. وهذا ينطبق تمامًا على الخدمة المسيحية التي لا بد أن تتم إراديًا، وفى الوقت نفسه في خضوع تام لله، وهو دخول الخروف وخروجه أمام الراعي.

ثالثًا: الأمر الثالث المذكور في هذا المثل الثاني هو أن نجد طعامًا: طعامًا لضمائرنا، وطعامًا لقلوبنا. وأود أن أوجه كلمة إلى مِن يستخدمهم الرب في خدمة كلمته. إن هدف خدمة الكلمة ليس سرد مواضيع شيقة، بل تقديم شخص الرب يسوع إلى قلوب وضمائر شعبه. هذا هو الطعام الصحيح للمؤمن. منذ سنوات مضت دُعِيَ أحد المؤمنين لحضور مؤتمر لمدة ثلاثة أيام في زيورخ، وفى نهاية المدة سُؤل عن انطباعه فقال: “كان رائعًا جدًا، لكنه كان أحادي التوَّجه بعض الشيء، لأن الجميع كانوا يتحدثون عن الرب يسوع لمدة ثلاثة أيام!”. إنه لم يُميِّز ما يقول! فهل يوجد مدح لهذا المؤتمر أكثر من وصفه بأنهم “كانوا يتحدثون عن الرب يسوع لمدة ثلاثة أيام؟” هذا هو غذاء النفس.

الرب يسوع المسيح الراعي الصالح (يو ١٠: ١٠-١٨)

«اَلسَّارِقُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ، وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ. أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ. وَأَمَّا الَّذِي هُوَ أَجِيرٌ، وَلَيْسَ رَاعِيًا، الَّذِي لَيْسَتِ الْخِرَافُ لَهُ، فَيَرَى الذِّئْبَ مُقْبِلاً وَيَتْرُكُ الْخِرَافَ وَيَهْرُبُ، فَيَخْطَفُ الذِّئْبُ الْخِرَافَ وَيُبَدِّدُهَا. وَالأَجِيرُ يَهْرُبُ لأَنَّهُ أَجِيرٌ، وَلاَ يُبَالِي بِالْخِرَافِ. أَمَّا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي، كَمَا أَنَّ الآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ الآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الْخِرَافِ. وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ. لِهَذَا يُحِبُّنِي الآبُ، لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضًا. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا. هَذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي» (يو ١٠: ٠-١٨).

والآن لنلقي نظرة على هذه الأعداد باختصار. وقبل أن أفعل هذا أتذكر يوم خطبتي قبل ثلاثين سنة، عندما ذهبت إلى الصائغ مع عروستي، وطلبت منه دبلتيّ الخطبة. فأخذ قطعة من القماش الداكن اللون، ووضعها على المنضدة، ثم وضع بضاعته على قطعة القماش، مما جعلها أكثر لمعانًا مستخدمًا طريقة التباين. هذا بالضبط ما فعله الرب يسوع هنا، وما لم نرى ذلك لن نفهم تلك الأعداد. فهو يضع أولاً أرضية حالكة السواد، مُحدِّثًا إيانا عن لص يذبح ويسرق (ع ١٠)، وعلى هذه الخلفية القاتمة للكراهية، يُرينا الرب يسوع محبته البديعة التي أثبتها لنا بمنحنا حياته في الجلجثة (ع ١١). هذه أولى السمات العظيمة التي للراعي الصالح، وهي أنه أحبنا حتى الموت. ثم يستعرض أمامنا خلفية قاتمة أخرى، وهو يتحدث عن الأجير (ع ١٢، ١٣)، الذي يرعى القطيع مقابل المال، وعند الخطر يفر هاربًا. هل تعرف ما هذه؟ إنها عدم أمانة. وبالتباين مع هذه الخلفية، يُقدِّم لنا الرب أمانته التي كانت حتى الموت (ع ١٤، ١٥). هاتان هما السمتان العظيمتان اللتان للراعي الصالح؛ إنه يحبنا، ويقف بجانبنا بإخلاص وأمانة.

وها نحن بصدد التأمل في هذا العدد الهام ع ١٦. يقول الرب يسوع «وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ». إني مسرور من أجل أن ثمة خراف من انجلترا وأيرلندا وبولندا وألمانيا وهولندا وسويسرا ... إلخ. ثم يليها بعبارة بديعة «ينبغي أن آتى بتلك أيضًا»، حيث إنه لا يقود هذا القطيع إلى حظيرة جديدة. صحيح أن هناك سياجًا حول المؤمنين. وإذا نظرنا إلى الجماعة كمدينة، نقرأ عن أسوار عالية عظيمة (رؤ ٢١: ١٢). لكن هذه الأسوار ليست موجودة لتبقى على المؤمنين معًا، لكنها موجودة أولاً لكي تمنع دخول الشر، أو إن وجد شر في الداخل أن تبقيه خارجًا بعد أن يخرج منها، لكن لا توجد فكرة أن تبقينا معًا في الداخل. إذًا ماذا يحفظنا معًا؟ إنها قوة جاذبية الراعي. فما الذي يستطيع أن يحفظ وحدتنا، إن كان الرب يسوع لا يستطيع؟ إن ارتباطنا معًا يكون على قياس انجذاب كل منا إليه. وأنا لا أستخدم اسمه على هيئة كلمات لكن ما أعنيه هو جاذبية كل مجد شخصه وكلمته. وهذا يقودنا إلى عددي ١٧، ١٨ فإذ ننجذب إلى الراعي ونقترب إليه أكثر وأكثر، نأتي إلى معرفته باعتباره ابن الآب، ابن محبته؛ حيث يقول الرب يسوع «لِهَذَا يُحِبُّنِي الآبُ». وهنا يقدم لنا هذا الحق السامي: أنه وضع حياته كإنسان لكن بقوة إلهية، وأنه بقوة إلهية كإنسان أُقيم من الأموات. لقد قبل هذه الوصية من أبيه، وقد تمَّمها بكمال، وبهذا صار هناك سببًا إضافيًا جديدًا لمحبة الآب له: «لِهَذَا يُحِبُّنِي الآبُ». ومن امتيازنا أن ننتمي إلى قطيع الرب يسوع؛ الراعي الصالح، ابن الآب، والمركز.

ماكس بليتر