أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2018
عَشَّارٌ اسْمُهُ لاَوِي
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«وَبَعْدَ هَذَا خَرَجَ فَنَظَرَ عَشَّارًا اسْمُهُ لاَوِي جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي. فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ. وَصَنَعَ لَهُ لاَوِي ضِيَافَةً كَبِيرَةً فِي بَيْتِهِ. وَالَّذِينَ كَانُوا مُتَّكِئِينَ مَعَهُمْ كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا مِنْ عَشَّارِينَ وَآخَرِينَ. فَتَذَمَّرَ كَتَبَتُهُمْ وَالْفَرِّيسِيُّونَ عَلَى تَلاَمِيذِهِ قَائِلِينَ: لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ؟ فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ» (لو٥: ٢٧-٣٢).

هل كان هذا العشار من سبط لاوي؟ إن كان نعم، فانحطاطه أفظع! ولكن كيفما كان السبط الذي ينتمي له، فإنه بصيرورته عشارًا جلب الإهانة إلى اسمه، وإلى أمته، وفصل بينه وبين أصدقائه، وربما انفصل عن عائلته، ليُصنَّف مع الخطاة والوثنيين والزواني (مت٩: ١٠، ١١؛ ١٨: ١٧؛ ٢١: ٣١، ٣٢). وما المقابل لذلك؟ ليست هناك سوى إجابة واحدة: طمعًا في الذهب. فالذهب أغواه، حتى اعتبره أغلى من الشرف، والصيت، والأصدقاء، بل ومن الافتخار القومي، حتى إنه قسى قلبه إزاء رأي الآخرين، إذ كان جالسًا عند مكان الجباية علنًا في السوق، غير مبالٍ بتعيير رفاقه ومعارفه. كان رجلاً منبوذًا ومُحتقرًا. ورآه الرب يسوع هناك «فَقَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي».

ولا شك أن هذا الأمر باغت الواقفين هناك، خصوصًا بطرس وأندراوس، ويعقوب ويوحنا. لقد سمعوا هذا الأمر قبل قليل، وأطاعوه للتو، تاركين خلفهم قوارب وشباك وسمك وآباء وأجرى، ولكنهم كلهم كانوا يعملون بجد وشرف، وفي العموم كانوا رجالاً محترمين. ربما كانوا خشنين وغير مثقفين، ولكن سجل حياتهم يخلو من أية شائبة تُشين أو تُخجِل. وقد تبعوا الرب لأن دعوته لا تُقاوَم، كما لأنهم لمحوا فيه فادي إسرائيل. وهكذا من أجل إسرائيل من ناحية، واستجابة للقوة التي تحملها كلمة دعوته من الناحية الأخرى، تبعوه. ولكن ما لهذا العشار؟! ماذا يهمه من أمر إسرائيل؟! إنه ليس وطنيًا! بل هو خائن لبلده! ماذا عسى أن يكون السبب الذي من أجله يدعو الرب يسوع عشارًا كهذا، ليكون ضمن تابعيه؟! إن الرأي العام ولا ريب سيثور ضده من أجل هذا الاختيار. ثم إن التلاميذ المحترمين يُعارضون مثل هذا الاختيار، متسائلين عن حكمة السَيِّد، وهل يستمرون في اتباعه أم يتخلون عنه؟ وهل يمكن لرجل ذبلت نفسه جراء طمعه في الذهب أن يستجيب لمثل هذه الدعوة؟ والسؤال الكبير هو: ماذا سيعمل لاوي؟

لقد حصلت المعجزة! فالعشار «تَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ»! لم يحدث هذا أثناء خدمة مسائية بعد أن جُمع الذهب الذي حصَّله على مدار اليوم وتمَّ تخزينه، بل اتخذ القرار خلال ساعات العمل، وأثناء وقت الذروة، بينما هو يجمع ويُحصي الأموال المشتهاه. والحال هكذا، وصل إليه صوت الرب يسوع، وسقطت عنه جميع السلاسل التي كبَّلته، وأَحيت حياة جديدة نفسه المائتة، فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَ الرب يسوع!

لربما كان يسكن قلبه الجائع حنين خفي، ولم يُعلنه لأحد من الفريسيين أو الكتبة أو الكهنة، لأنهم سيزدرون به. ولربما استحى أن يُخبر به أحد من العشارين المُحتقرين الذين صاروا رفقائه. ولكن يقينًا كان ثمة جوع وفراغ في قلبه. كان قلبه قلب خاطئ مريض بداءٍ يُذكيه طمعه وشراهته للذهب والمال. وعندما مر به الطبيب العظيم ونظر إليه، كانت الاستجابة الفورية لنظرته، والإجابة العاجلة لدعوته. لقد أدرك أن يسوع الذي يطلبه هو الشخص الذي يحتاجه؛ الشخص الذي يُمكنه أن يثق فيه، لذلك ما كان يحسبه ربحًا، احتقره باعتباره خسارة، من أجل فضل معرفة الرب يسوع المسيح.

أفلت لاوي العشار من قبضة الذهب الآسرة، ورفض الحياة القديمة إلى الأبد، وترك ربح حياة الجباية لمن يرغب فيه لأن مجد الملك أشرق في حياته المُظلمة فأنارها. نعم، إن يسوع أشهى من الذهب!

لقد لبَّى لاوي العشار الدعوة الإلهية، لأن يسوع هو الله. ومَن هو – عدا الله – له الحق في إجابة دعوته قبل الأب والأم والزوجة والأولاد والبيوت والأراضي. ومَن هو آخر – عدا الله – يُمكنه أن يُشبع قلب كل مدعو، ويقصف كل الأغلال الشريرة التي كان مقيدًا بها. ومَن هو آخر – عدا الله – يُمكنه أن يدعو كل مَن هو على شاكلة لاوي، ليُغيّره ويُخلّصه، وليجعله موافقًا لمشيئته تعالى، حتى أنهم يسعدون ويفرحون بخدمة احتياجات الآخرين. مغبوط هو الإنسان الذي يقبل صوت الرب يسوع باعتباره صوت الله، ويُطيعه بإجابة فورية.

وفي سياق متصل عندما شاهد الشعب الرجل المفلوج يقوم ويمشي على قدميه، حاملاً فراشه، قاصدًا بيته «أَخَذَتِ الْجَمِيعَ حَيْرَةٌ وَمَجَّدُوا اللهَ، وَامْتَلأُوا خَوْفًا قَائِلِينَ: إِنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا الْيَوْمَ عَجَائِبَ!» (لو٥: ١٧-٢٦). ولكن عجبهم فاق عندما رأوا لاوي الطماع يخلص من سيادة وعبودية المال، ليتبع يسوع!

وبقلب يفيض بعواطف الكرم الجديدة، دعا جمعًا غفيرًا من العشارين وآخرين إلى بيته، لعلهم يستمعون إلى الصوت الذي حرره. لقد تخلى عن جمع المال، وابتدأ يبحث عن النفوس. نعم، إن معجزة تغيير لاوي تفوق معجزة شفاء المفلوج، ذلك لأنها أحيت روحه، وغيرت أخلاقه، وبدلت طبيعته. لقد تَذَمَّرَ الكتبة والفريسيون، ولكن قلب المُخلِّص فرح، فضيافة لاوي منحته الفرصة لإعلان نعمته، والمناداة بإرساليته «لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ» (لو٥: ٣١، ٣٢).

ج. ت. موسون