أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2019
سر القوة
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

(عب ١٢: ١-٤؛ قض ١٦: ٦)

لم يكن سبيل الإيمان أبدًا سهلاً. ففي التدابير السالفة، كما هو الحال في الحاضر، ينشد الناس الشجاعة والقوة. لكن القوة الطبيعية لا تنفع «اَلْغِلْمَانُ يُعْيُونَ وَيَتْعَبُونَ، وَالْفِتْيَانُ يَتَعَثَّرُونَ تَعَثُّراً. وَأَمَّا مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ. يَرْكُضُونَ وَلاَ يَتْعَبُونَ. يَمْشُونَ وَلاَ يُعْيُونَ» (إش٤٠: ٣٠، ٣١)، وهذه كلمات معروفة لنا جيدًا.

هذه الدراسة الموجزة تهدف بصفة أساسية إلى تقديم الرب يسوع نفسه كالمثال والقدوة لنا. والآيات الافتتاحية من الأصحاح الثاني عشر من رسالة العبرانيين تذكرنا “بالسباق (الجهاد) المسيحي”، وهي كلمة لا تنم بوضوح عن معناها. ففي مكان آخر من المكتوب تُترجم “معركة” أو “نزال”. فالرسول بولس “جَاهَدَ الْجِهَادَ الْحَسَنَ” (٢تى ٤: ٧)، والتسالونيكيون قَبِلُوا الإنجيل “فِي جِهَادٍ كَثِيرٍ” (١تس ٢: ٢). وربنا يسوع المبارك نفسه، في بستان جثسيماني «إِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ» (لو ٢٢: ٤). كما جاهد “أبَفْرَاسُ” كُلَّ حِينٍ بِالصَّلَوَاتِ (كو ٤: ١٢). لذلك نفهم أن أيًّا منا، نحن الذين نرتاد هذا السباق، يحتاج أن يكون مستعدًا له، بأن يطرح “كُلَّ ثِقْلٍ”، وأن يتسلح الفكر بنية الألم من أجل المسيح. فليس كل الأمر أن أرتدي ملابس رياضية لكي أنضم إلى السباق.

وفى رسالة العبرانيين يُشير الوحي إلى الخطية على أنها عدم الإيمان. ونحن نحتاج أن نواجه حقيقة أن عدم الإيمان كثيرًا ما يطبع حالنا، عوضًا عن “يَقِينِ الإِيمَانِ” (عب ١٠: ٢٢)، لذلك فوق الكل ينبغي أن نكون «نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ» (عب ١٢: ٢). وهذه كلمة أخرى ذات أهمية عملية، وهي تعني أن أُسلّم جماع فكري ومشيئتي، وأن أُحوّل عيني عن كل شيء، وكل أحد آخر، وأثبتها على “يسوع”، تبارك اسمه.

هنا مُجددًا ينبغي علينا أن نلتفت جيدًا إلى المعنى. إن روح الله دقيق بصورة كبيرة، ويبرز أدق التفاصيل. إن كلمة يسوع ترد حوالي ٩٠٠ مرة في العهد الجديد، منها حوالي ٦٠٠ مرة في الأناجيل التي يُذكَر فيها لقب “الرب يسوع المسيح” كاملاً، حوالي ٣٠ مرة فقط. مثال على ذلك في مشاهد القيامة في إنجيل لوقا حيث نقرأ: «نِسَاءٌ كُنَّ قَدْ أَتَيْنَ مَعَهُ مِنَ الْجَلِيلِ ... ثُمَّ فِي أَوَّلِ الأُسْبُوعِ، أَوَّلَ الْفَجْرِ، أَتَيْنَ إِلَى الْقَبْرِ ... فَدَخَلْنَ وَلَمْ يَجِدْنَ جَسَدَ الرَّبِّ يَسُوعَ» (لو ٢٣: ٥٥-٢٤: ٣). وعندما نتحوَّل إلى سفر الاعمال والرسائل نجد حوالي ٣٠٠ إشارة إلى الرب، منها ٣٠ مرة فقط يُذكَر فيها باسم “يسوع” بدون لقب “الرب”. هذا الاسم “يسوع” يُخبرنا عنه باعتباره الإنسان المتنازل المُتواضع المُبارك، في تجسده على الأرض. أما في رسالة العبرانيين فهذا الاسم الكريم “يسوع” يُذكَر حوالي ١٠ مرات. وهذه الواحدة التي نحن بصددها تأتي ضمنها: «نَاظِرِينَ إِلَى ... يَسُوعَ» (عب ١٢: ٢).

إذًا فنحن ننظر هنا إلى الشخص الذي هو «رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ» (عب ١٢: ٢)؛ إنسانًا حقيقيًا في كل ما هو الإنسان. ومُجددًا، كما هو مُتوَّقع، فإن روح الله حريص على الحفاظ على مجد ربنا المُبارك المتميز والفريد. ففي اللغة الأصلية، كلمة “رَئيس” Author) أو مُنشئ(، ترد فقط أربعة مرات في العهد الجديد (أع ٣: ١٥؛ ٥: ٣١؛ عب٢: ١٠؛ ١٢: ٢). وقد تُرجِمت أيضًا “أمير” أو “كابتن”(Prince and Captain). وهنا يُشار إلى الرب يسوع باعتباره «رَئِيسِ الإِيمَانِ»، لأنه هو مصدر الإيمان وحافظه. ولكنه أيضًا «مُكَمِّلِهِ»، وهذا اللقب مقصور على الرب يسوع وحده، لأنه الوحيد الذي أكمل سبيل الإيمان.

ولنسأل الآن ربنا الحبيب، نفس السؤال الذي سألته يومًا دليلة لشمشون: «أَخْبِرْنِي بِمَاذَا قُّوَتُكَ الْعَظِيمَةُ؟» (قض ١٦: ٦). والإجابة حاضرة، فقد أُعطيت لنا بالفعل: «مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ» (عب ١٢: ٢). لقد كان دائمًا يذهب في طريقه فرحًا فرح الرب. هنا تكمن قوته! وحسنًا أن نسأل: ما هي مكونات أو كنة هذا الفرح؟ ويُمكننا تعريف ثلاثة عناصر على الأقل:

(١) الفرح المرتبط بعودته إلى المكان الذي أتى منه: وبطريقة رائعة أعطى خاصته المحبوبة أن تفهم هذا الأمر «لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ، لأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي» (يو١٤: ٢٨).

(٢) الفرح الذي اختبره بإكمال العمل الذي أعطاه الاب أن يعمله، والذي أرسى به أساس كل بركة حتى للسموات الجديدة والأرض الجديدة (إش ٦٦: ٢٢؛ رؤ٢١: ١).

(٣) الفرح بضمان النصيب الغالي على قلبه، الذي هو الكنيسة، عطية الآب له، تلك اللؤلؤة كثيرة الثمن، التي سلك لأجلها طريق الاتضاع العميق لكي يحصل عليها، بعد أن كلَّفه الأمر دفع الثمن باهظًا بالنزول إلى العمق الأسفل (مت ١٣: ٤، ٤٦).

من هنا يتضح لنا السر الأول وراء قوة الرب؛ القوة لاحتمال مقاومة الخطاة لنفسه، وقوة لاحتمال العار، والقوة لمواجهة عدو نفوسنا، ولاحتمال لثقل دينونة الله القدوس ضد الخطية. ويا له من حِمل ثقيل كان عليه أن يحمله وحده في ساعات الظلمة الرهيبة!

العنصر المُكوّن الثاني لقوة الرب هو أنه قَبِلَ العمل، فجسده قد تهيأ «هَيَّأْتَ لِي جَسَدًا» (عب ١٠: ٥). كان ينبغي أن المسيح يتألم، وأن يُكمّل المكتوب. لقد وُلِدَ لكي يموت، وكان هذا اختباره منذ البداية «أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟» (لو ٢: ٤٩). وكان ينبغي أن «يُرْفَعُ الْعَرِيسُ» أولاً (لو ٥: ٣٥). وكانت كلماته فيما هو ذاهب إلى الصليب: «قُومُوا نَنْطَلِقْ مِنْ هَهُنَا» (يو ١٤: ٣١). هل كان يشعر بهول الصليب؟ نعم، بدون شك. اصغ إلى كلماته: «فَقَالَ لَهُمْ: نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدّاً حَتَّى الْمَوْتِ ... يَا أَبَتَاهُ، إِنْ أَمْكَنَ فَلْتَعْبُرْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسُ، وَلَكِنْ لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ» (مت ٢٦: ٣٨، ٣٩). «اَلآنَ نَفْسِي قَدِ اضْطَرَبَتْ. وَمَاذَا أَقُولُ: أَيُّهَا الآبُ نَجِّنِي مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ؟ وَلَكِنْ لأَجْلِ هَذَا أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ السَّاعَةِ. أَيُّهَا الآبُ مَجِّدِ اسْمَكَ! فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ: مَجَّدْتُ، وَأُمَجِّدُ أَيْضًا!» (يو ١٢: ٢٧، ٢٨). ويا لها من كلمات ثمينة! «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ» (لو ٢٢: ٤٢). هذا هو دائمًا سبيل الانتصار والقوة؛ القبول الطوعي للسبيل المُخطط والمرسوم من قِبَل محبة إلهنا الأزلية وحكمته الفائقة.

والرب بنفسه يُعرّفنا الطريق. ولكن دعونا نتأمل شاهدين، واحد من العهد القديم، والآخر من العهد الجديد، واللذين يحكيان لنا باختصار نفس القصة: أولاً إبراهيم أبو المؤمنين. لقد ظهر له إله المجد (أع ٧: ٢)، ولسنا نعلم بالتحديد كيف ظهر له! ولكن إبراهيم قَبِلَ – بالإيمان - وعودًا ثمينة غير مشروطة، وصار مستودعًا لها. ونجوم السماء تُمثل الدائرة السماوية والجمهور السماوي. ورمل البحر يُمثل الدائرة الأرضية والجمهور الأرضي. وعن إبراهيم نقرأ أنه « كَانَ يَنْتَظِرُ الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللهُ» (عب ١١: ١٠). كان هذا بمثابة السرور الموضوع أمامه. ولكن ماذا يكون الطريق المُخطَّط أن يسلك فيه؟ «فَخَرَجَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَأْتِي» (عب ١١: ٨). هذا هو طريق الايمان الذي قَبِلَ أن يسلك فيه. لكن نلاحظ أن ثمة ثلاث سمات تصف رحلته:

(١) خيمة، وهي تدل على طابعه كالغريب السائح.

(٢) مذبح، وهو يدل أنه كان عابدًا ساجدًا.

(٣) حفر آبار ماء، وهي تُخبرنا – في مثال – عن الإنعاش الذي تمتع به في سبيل الإيمان.

ليت بيوتنا تتجمَّل بهذه السمات، نحن أبناء إبراهيم الحقيقيين. والرب يُعطينا نعمة للسير في خطوات إيمان إبراهيم.

أما المثال الآخر الذي من العهد الجديد فهو بولس الرسول. وإن كان هناك بالطبع شهود آخرون كثيرون. كان السرور الموضوع أمامه - باختصار - هو “الجَعَالَة” (في ٣: ١٤)، أي “الجائزة” أو “الْمُجَازَاةِ” (عب ١١: ٢٦). وهي ليست جائزة له باعتباره رسولاً، ولكنها الجائزة المحفوظة لكل أولئك الذين يحبون ظهور ربنا يسوع. والجعالة ببساطة هي التشابه الكامل مع ربنا يسوع المُبارك. كلمات نتفوه بها في عجالة، وقد لا نعيها. ولكن في نور المسيحية الكامل الذي جلبه لنا الرب نفسه، واستمر بعده في خدمة كلٍ من بطرس وبولس ويوحنا، فمشابهتنا للمسيح في المجد العتيد هو أسمى العطايا بالفعل. ولكن ماذا عن الطريق الذي سلكه بولس؟ «سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي» (أع ٩: ١٦). لم يُخبره الرب مُسبقًا ما هي كل هذه الآلام التي سيواجهها، وكم ستكون رهيبة! لكن بولس قَبِلَ ورضيَ بخطة الرب له. لقد حَسِبَ الكل خسارة عندما تقابل مع المُخلِّص في طريق دمشق. ولكنه لاحقًا، وبصدد ختام سعيه، كان لا يزال على نفس المنوال (في ٣: ٧، ٨). لقد قَبِلَ الآلام بفرح، مُفتخرًا بالصليب (غل ٦: ١٤). وحسنًا قال: «فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي»، وأيضًا «كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي كَمَا أَنَا أَيْضًا بِالْمَسِيحِ» (١كو ٤: ١٦؛ ١١: ١). ويا له من أمر رائع أن نتمثل بولس في سعيه!

نحن نعلم أن شخصًا واحدًا فقط هو من يحق له القول: «اتْبَعْنِي». وينبغي أن يكون ذلك طموحنا، حتى وإن كنا نتبعه – كما نفعل كثيرًا – من بعيد. والكتاب يقول في عبرانيين ١٢: ٣ «لِئَلاَّ تَكِلُّوا وَتَخُورُوا فِي نُفُوسِكُمْ (أفكاركم)» (عب ١٢: ٣). فالنظر إليه هو الذي يضمن لنا دوام القوة للمثابرة والاستمرار. فكم من المرات يهاجمنا فيها العدو في عقولنا وأفكارنا وأذهاننا، ونتعرض مرات أن نيأس ونخور، وأن نستسلم، ونلقي بأسلحتنا، ونُقلِع عن المعركة، ونكف عن مواصلة الجهاد. ليت الرب يترأف علينا، ويسمع صراخنا ويُقوينا كلنا في الإنسان الباطن، بروحه القدوس «لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ، أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ» (أف ٣: ١٦) «مُتَقَوِّينَ بِكُلِّ قُوَّةٍ بِحَسَبِ قُدْرَةِ مَجْدِهِ، لِكُلِّ صَبْرٍ وَطُولِ أَنَاةٍ بِفَرَحٍ» (كو ١: ١١)، «لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ» (أف ٣: ١٧)، فبالإيمان هو يستطيع أن يُغيّر نفوسنا، وبسكنى المسيح فينا “نمْتَلِئ إِلَى كُلِّ مِلْءِ اللهِ” (أف ٣: ١٩)، لسبحه ومجده، بينما ننتظر رجوعه القريب اليقيني.

وإنني أؤمن أن هذا هو الدرس الذي نحتاج أن نتعلمه باستمرار. فإن أردنا أن نتعلَّم سر القوة، علينا أن نحفظ عيوننا مُركَّزة على الهدف الذي أمامنا، وفي تلك الأثناء نقبَل بسرور الصليب الموعود.


دانيال و . باترسون