أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2018
ببراهين كثيرة قاطعة
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«أَمَّا تُومَا، أَحَدُ الاِثْنَيْ عَشَرَ، الَّذِي يُقَالُ لَهُ التَّوْأَمُ، فَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ حِينَ جَاءَ يَسُوعُ»(يو٢٠: ٢٤)

كم خسر تُومَا بغيابه هذه الفرصة! ولهذا فالكتاب لا يُحرضنا عبثًا، خاصة في هذه الأيام الأخيرة، «غَيْرَ تَارِكِينَ اجْتِمَاعَنَا كَمَا لِقَوْمٍ عَادَةٌ» (عب١٠: ٢٥). وهذه العادة لا تتضمن فقط الابتعاد جسمانيًا عن حضور الاجتماعات، فالشاب “أَفْتِيخُوسُ” المذكور في أعمال ٢٠ قد فقد الكثير أيضًا إذ «غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ فَسَقَطَ مِنَ الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ إِلَى أَسْفَلُ»، في ترواس.

ولكن تُومَا لم يعرف بما حدث في غيابه، وعندما أخبره التلاميذ الآخرون قائلين: «قَدْ رَأَيْنَا الرَّبَّ!»، لم يُصدّقهم (يو٢٠: ٢٥). وبالتأكيد يقع جزء من السبب على طبيعته الشكاكة. ولقد قابلنا تُومَا أربع مرات في الكتاب المقدس، ولكن طبعه مُصوَّر لنا بوضوح في هذه المرة أكثر من أي من المرات الأخرى.

فحينما لم يمتنع المسيح عن العودة إلى بيت عنيا لتعزية الأختين الحزينتين، إذ ذكّره التلاميذ بأن اليهود كانوا يطلبون أن يرجموه، قال تُومَا للتلاميذ رفقائه: «لِنَذْهَبْ نَحْنُ أَيْضًا لِكَيْ نَمُوتَ مَعَهُ!» (يو١١: ٧-١٦). وهذه الواقعة تُشير إلى إخلاص مؤثر للرب، ولكن في الوقت نفسه يشوبه ميل إلى التشاؤم من الأمور المتوقعة التي لم تحدث قط.

وعندما تكلَّم الرب في مرة لاحقة قائلاً: «وَتَعْلَمُونَ حَيْثُ أَنَا أَذْهَبُ وَتَعْلَمُونَ الطَّرِيقَ»، أجاب تُومَا بلهجة تقترب من التوبيخ: «يَا سَيِّدُ، لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ، فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟». وكان هذا بينما المسيح يتكلَّم إليهم عن المنازل الكثيرة في بيت الآب، حيث هو ذاهب ليُعدَّ لهم مكانًا، ثم يأتي أيضًا ليأخذهم إليه (يو١٤: ١-٧). ولكن هذا لم يؤثر سوى بأقل القليل على تُومَا.

أليس هذا هو التلميذ الذي يبدو دائمًا وكأنه لا يرى إلا الصعوبات في أي موضوع، وبخاصة في هذه الواقعة التي نحن بصدد التأمل فيها، حتى أنه دُعيَّ بحق: “تُومَا الشكاك”؟

«قَالَ لَهُ التَّلاَمِيذُ الآخَرُونَ: قَدْ رَأَيْنَا الرَّبَّ! فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ» (يو٢٠: ٢٥). ونحن لا نعلم بالضبط عدد التلاميذ الذين كانوا حاضرين في مساء القيامة، ولكن بالتأكيد كان عددًا كافيًا من الشهود، الذين رأوا الرب وسمعوه. أليس هذا شيئًا خطيرًا أن تشك في شهادة صحيحة وصادقة. ولكن هذا لم يعنِ شيئًا لتُومَا. لقد حزم أمره أنه لا بد أن يرى ويحس.

«إِنْ لَمْ أُبْصِرْ ... لاَ أُومِنْ» ... كم أصابه الخجل من كلماته هذه، فيما بعد! ونفس هذه العبارات تتفق بصورة أساسية مع أعداء الرب، حينما أصروا على طلب آية، قائلين للرب: «فَأَيَّةَ آيَةٍ تَصْنَعُ لِنَرَى وَنُؤْمِنَ بِكَ؟» (يو٦: ٣٠ انظر أيضًا متى ١٢: ٢٨؛ ٢٧: ٤٢). وبالمثل ما زال اليهود إلى يومنا هذا يرفضون الشهادة للرب المُقام، مُظهرين نفس الموقف الذي اتخذوه عندئذٍ بالفعل، مما جعل الرب يقول لهم: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ الْمُلْتَوِي إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟» (مت١٧: ١٧). لذا علينا أن نتحذر من أن يكون فينا «قَلْبٌ شِرِّيرٌ بِعَدَمِ إِيمَانٍ» (عب٣: ١٢).

ولكننا نجد التلاميذ مجتمعين مرة أخرى في اليوم الأول من الأسبوع التالي «وَتُومَا مَعَهُمْ» (يو٢٠: ٢٦). وفي خلال هذا الأسبوع تعلَّم تُومَا أنه يجب ألا يغيب ثانية. ويا للمفارقة بين أحاسيس ومشاعر قلوب التلاميذ، وتلك التي كانت لقلب تُومَا! ولكن الرب لم يُخيِّب آمالهم، ومع ذلك فقد حلَّ خزي عدم الإيمان على تُومَا بمفرده.

«فَجَاءَ يَسُوعُ وَالأَبْوَابُ مُغَلَّقَةٌ، وَوَقَفَ فِي الْوَسْطِ وَقَالَ: سلاَمٌ لَكُمْ!» (يو٢٠: ٢٦). وكان الأمر مُثيرًا للدهشة! ويجوز لنا أن نقول إن هذه الزيارة كانت خصيصًا لتُومَا. لقد تحوَّل الرب يسوع له بالإشارة الواضحة: «قَالَ لِتُومَا: هَاتِ إِصْبِعَكَ إِلَى هُنَا وَأَبْصِرْ يَدَيَّ، وَهَاتِ يَدَكَ وَضَعْهَا فِي جَنْبِي، وَلاَ تَكُنْ غَيْرَ مُؤْمِنٍ بَلْ مُؤْمِنًا» (ع٢٧). ويا له من تنازل عجيب! ألم يحدث لنا بالمثل في مرات كثيرة أن أصابنا الخجل عندما تعامل الرب معنا؟ ألم يحدث كثيرًا كما لو كان الرب يتحدث شخصيًا إلينا، بغض النظر عن عدد المجتمعين حوله كالمركز الصحيح والوحيد؟

ولكن الأكثر تأثيرًا حتى من الالتفات إلى تُومَا هو ما قاله الرب له. فهو يبدو كما لو كان تكرارًا لنفس الكلمات، أو لنفس الحالة التي كان عليها تُومَا (ع٢٥، ٢٧). فها هو الله “الْفَاحِصُ الْقُلُوبَ” (رؤ٢: ٢٣)، يقف أمامنا هنا، وهو الوحيد الذي بعلمه الكامل يستطيع أن يلتقي بكل شخص تمامًا كيفما كانت حالته.

وبهذه الطريقة انقشع الشك منه تمامًا. وتنازُلُ الربِّ وطولُ أناته غمرا ذلك التلميذ المُصاب بالوساوس، وَالبطيء الْقلب فِي الإِيمَانِ، فعلى الفور «أَجَابَ تُومَا وَقَالَ لَهُ: رَبِّي وَإِلَهِي!» (ع٢٨).

إن مشهدًا مماثلاً ينتظر شعبه الأرضي في يوم مستقبل. فبعد الاجتياز في دينونات مُحرقة، سينحنون عند قدميه، عندما «تَقِفُ قَدَمَاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ»، «فَيَنْظُرُونَ إِلَيَّ، الَّذِي طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُونَ عَلَيْهِ كَنَائِحٍ عَلَى وَحِيدٍ لَهُ»، «وَسَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ، وَالَّذِينَ طَعَنُوهُ، وَيَنُوحُ عَلَيْهِ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ»، «وَأَمْحَصُهُمْ كَمَحْصِ الْفِضَّةِ، وَأَمْتَحِنُهُمُ امْتِحَانَ الذَّهَبِ. هُوَ يَدْعُو بِاسْمِي وَأَنَا أُجِيبُهُ. أَقُولُ: هُوَ شَعْبِي، وَهُوَ يَقُولُ: الرَّبُّ إِلَهِي» (زك١٤: ٤؛ ١٢: ١٠؛ رؤ١: ٧؛ زك١٣: ٩).

«قَالَ لَهُ يَسُوعُ: لأَنَّكَ رَأَيْتَنِي يَا تُومَا آمَنْتَ! طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (ع٢٩). وستكون الرؤيا والإيمان من نصيب البقية المُستردة في إسرائيل في ذلك اليوم القادم. ولكنهم لن يتحصلوا على بركات الكنيسة السماوية. وليس طابع المفديين في عصر النعمة الحاضر أن يروا حتى يؤمنوا. فحقًا ما أعظم البركة لأولئك الذين يتحولون من العالم إلى المسيح الذي رفضه العالم «الَّذِي وَإِنْ لَمْ تَرَوْهُ تُحِبُّونَهُ. ذَلِكَ وَإِنْ كُنْتُمْ لاَ تَرَوْنَهُ الآنَ لَكِنْ تُؤْمِنُونَ بِهِ، فَتَبْتَهِجُونَ بِفَرَحٍ لاَ يُنْطَقُ بِهِ وَمَجِيدٍ» (١بط١: ٨). فيا أيها القارئ العزيز: هل تنتمي إلى هذه الطغمة السعيدة؟

ها إنه يعرف شعبه، الذين يتطلعون إليه بالإيمان

ومع أنهم لا يرونه، يثقون فيه، كما لو كانوا قد رأوه

وفي المرة القادمة سيُعلن الرب نفسه للتلاميذ، ولن يكون “تُومَا الشكاك” غائبًا. تلك هي المرة الرابعة والأخيرة التي يُذكر فيها تُومَا في الرواية المقدسة.

(يتبع)


فريتز فون كيتسل