كما بدأ هذا الاجتماع الفريد حول الرب المُقام بكلمات التحية منه، فهكذا أيضًا نأتي إلى ختامه بالتحية من جديد من فم الرب المُقام.
«فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا: سلاَمٌ لَكُمْ! كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا» (يو٢٠: ٢١). وهنا يمضي المجال إلى أبعد مما كنا نتأمله في رواية لوقا. «كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا»؛ ولو لم تكن هذه العبارة قد كتبت هنا، لما تجاسرنا بالتأكيد أن نقولها. والآن فالرب الذي هو مَن أرسله الآب موشك أن يُغادر مشهد أعماله؛ وهم، إخوته، سيكونون الحاملين للشهادة. ويا لها من شهادة لم تتردد مِن قبل على هذه الأرض الملعونة بالخطية، وما زالت إلى أن يجيء الرب.
وإذا سألنا عن طبيعة هذه الشهادة؛ تلك الرسالة الرائعة، فكل ما نحتاج إليه هو أن نُصغي إلى الرب نفسه وهو يقول: «لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ» (يو٣: ١٧). فالآب في نعمته قد أرسل ابنه الوحيد، والآن هم قد أرسلهم الرب ليحملوا رسالة النعمة هذه إلى العالم الذي يُسرع إلى الدينونة. وقد عَبَّر الرسول بولس بعبارة أخرى تعني الفكر نفسه عندما تكلَّم عن أن الله قد أعطى للرسل “خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ”، فقال: «إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ» (٢كو٥: ١٨، ٢٠). أفلا نُقرّ بصفة عامة بعظمة رهبة مفهوم الواجب الذي تشرفنا به؟
وكحاملين لمثل هذه الشهادة فإننا يجب أن نختبر أولاً السلام الكامل. وإذ نعتبر «سلاَمٌ لَكُمْ!» الثانية في سياقها، فإننا نراها بنور مختلف عن «سلاَمٌ لَكُمْ!» الأولى (يو٢٠: ١٩، ٢٦). فبالنسبة للأولى «جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الْوَسْطِ، وَقَالَ لَهُمْ: سلاَمٌ لَكُمْ! وَلَمَّا قَالَ هَذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ» (يو٢٠: ١٩، ٢٠). ولكن هناك تصرف مختلف تمامًا بالارتباط مع التحية الثانية (يو٢٠: ٢٦)؛ فدم صليبه يأتي بالسلام لضمائرنا، أما سلام القلب فيرتبط بشخص الرب، ومع حقيقة قيامته، ومع حياته.
«وَلَمَّا قَالَ هَذَا نَفَخَ وَقَالَ لَهُمُ: اقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ» (يو٢٠: ٢٢). وهذا الفعل الرمزي من الرب ليس له علاقة بانسكاب أقنوم الروح القدس الذي كان سيحدث لاحقًا بعد ذلك، ولكنه بالأحرى يتصل بالروح كمصدر الحياة الجديدة. فالابن الذي أعطاه الآب «أَنْ تَكُونَ لَهُ حَيَاةٌ فِي ذَاتِهِ»، «الاِبْنُ أَيْضًا يُحْيِي مَنْ يَشَاءُ» (يو٥: ٢١، ٢٦). ومثلما في هذه الخليقة نفخ الرب في أنف الإنسان الأول نسمة حياة، هكذا هنا صار “رُوحًا مُحْيِيًا” (١كو١٥: ٤٥). وهكذا نفخ الرب رمزيًا نسمة الحياة للخليقة الجديدة (أي حياة القيامة التي له) في أولئك الذين ينتمون للخليقة الجديدة معه وبسببه. «بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ يَرَانِي الْعَالَمُ أَيْضًا، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَرَوْنَنِي. إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ» (يو١٤: ١٩). فهو الذي دعا نفسه “الْحَيَاةُ” (يو١١: ٢٥؛ ١٤: ٦)، «بِحَسَبِ قُوَّةِ حَيَاةٍ لاَ تَزُولُ» (عب٧: ١٦)، «الَّذِي أَبْطَلَ الْمَوْتَ وَأَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ» (٢تي١: ١٠). والآن يقف مُستعدًا ليُعطي “حَيَاةً أَبَدِيَّةً” لجميع الذين يأتون إليه، ولجميع الذين أعطاهم الآب له (يو١٧: ٢). وهذه الحياة الأبدية ليست مجرد حياة تستمر إلى الأبد، ولكنها حياة من الله، حياة بعد الموت وبعيدة عنه، حياة لا يقدر أن يلمسها الموت لأنها حياة الله. وهو – الإنسان الثاني، آدم الأخير، رأس الخليقة الجديدة – حاز هذه الحياة لنفسه ولخاصته.
لقد رأينا في الفصل الخامس في صباح القيامة عتاد من له سلطان الموت، مُلقى بطريقة مرتبة في القبر الفارغ. وفي مساء نفس اليوم نرى المُنتصِر على هذا العدو المُرعب، يوزع غنائم هذا الانتصار على خاصته. ولكنها مع ذلك لا تبقى لهم وحدهم، ولكن لا بد أن تتشارك مع كل مَن يتصل بهؤلاء الذين أرسلهم الرب.
وبالطبع ليس الجميع مستعدين لأن يقبلوا هذه العطية؛ قد تُقبل وقد تُرفض طبقًا لحالة الفرد. ولذلك أضاف الرب هذه الكلمات: «مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ» (يو٢٠: ٢٣). وهذا التعبير السامي والخطير، بخلاف التعبيرات المماثلة في متى ١٦: ١٩؛ ١٨: ١٨ لا علاقة له بممارسة التأديب الكنسي. وهو أيضًا على خلاف تلك التعبيرات الموجهة للرسل أو للجماعة ككل. وكل المفديين عليهم أن يحملوا رسالة النعمة هذه. مثلهم في ذلك حملة رسالة الملكوت الذين كان عليهم أن يُقرروا ما إذا كان “ابْنُ السَّلاَمِ” يقطن في البيت الذي دخلوه (لو١٠: ٦). والآن يجب على حملة رسالة الإنجيل هكذا أن يُقرروا؛ فلواحد يستطيع أن يحملوا له تحية سلام، ولكن لآخر يجب أن يُعلِنوا – مثلما فعل بطرس لسيمون الساحر «لَيْسَ لَكَ نَصِيبٌ وَلاَ قُرْعَةٌ فِي هَذَا الأَمْرِ، لأَنَّ قَلْبَكَ لَيْسَ مُسْتَقِيمًا أَمَامَ اللهِ» (أع٨: ٢١).
وفي جنة عدن كان مشهد الحياة، وقد تكلَّم الله للإنسان عن الموت، وكان الإنسان سيُختبر بالموت. ولكن الإنسان لم ينجح في هذا الاختبار (تك٣: ٦، ١١). وهكذا “مَلَكَ الْمَوْتُ” من آدم حتى وقتنا الحاضر (رو٥: ١، ١٧). أما الإنسان الثاني، المُرسَل من الله، فقد احتمل الموت لأجل الخطاة المذنبين. وهنا في مشهد الموت هذا، قام من الأموات ليتكلَّم اليوم عن الحياة. فيا لها من نعمة جديرة بالإعجاب!
ومع ذلك فإن هذا العدو، الحية الماكرة، قال عندئذٍ هذا القول: «لَنْ تَمُوتَا!» (تك٣: ٤). وهو ما زال يفعل ذلك اليوم. وهو يُلقي الشك على كلمة الحياة الآن كما فعل عندئذٍ عن كلمة الموت، ويسلب الآلاف بعد الآلاف من التمتع بثمار انتصار المسيح.
دعونا لا نُصغي لصوته، بل بالحري نستمع لصوت الرب: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا» (مت١٧: ٥)، فيملأ سلامه قلوبنا. ولتكن حياته فعالة فينا. وليتنا نكون واعين أيضًا للامتياز العظيم الذي نلناه أن نجتمع حول شخصه إلى أن تأتي تلك اللحظة – وعسى أن تكون قريبة جدًا – حينما نراه هو “الْخَرُوفُ الْمَذْبُوحُ” «واقفًا فِي وَسَطِ الْعَرْشِ وَالْحَيَوَانَاتِ الأَرْبَعَةِ وَفِي وَسَطِ الشُّيُوخِ» (رؤ٥: ٦). إنه هو – تبارك اسمه – وسط جميع مفدييه. وعندئذٍ سنُعطيه حمدًا أبديًا.
(يتبع)