أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2020
جائحة كورونا ومدن الملجأ
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

مع أوائل هذا العام انتشر وباء الكورونا، وبسرعة فائقة دخلنا إلى عالم مختلف عما عرفناه وألفناه في ما سبق؛ فبدأت الحكومات تمنع الانتقال بين البلدان بل وبين مدن البلد الواحد في بعض الأحيان. وتوقفت المصالح، وأُغلقت دور العلم ودور العبادة، وصدرت الأوامر بعدم الخروج من البيوت لضمان استمرار الحياة. والتزم الملايين في كل الدنيا بهذه التعليمات، فالحياة غالية، ورعب الموت يعرفه الجميع. وفي هذا الجو الذي عشناه لشهور مديدة سرحت بخيالي إلى موقف مشابه لهذا، كان يحدث في الماضي، في زمان العهد القديم، أعني به مدن الملجأ.

ما قصة مدن الملجأ؟

في شريعة موسى، عندما كان شخصٌ ما يقتل شخصًا عن طريق الخطأ، كان يَضطر القاتل أن يهرب إلى واحدة من مدن الملجأ. وإذا خرج خارج مدينة الملجأ التي آوته، وصادفه ولي الدم، كان من حق الولي أن يقتل القاتل (عد ٣٥: ٢٦، ٢٧).

ولأن الحياة غالية، ورعب الموت كاسح، كان الجميع يلتزمون بالبقاء في مدن الملجأ. كان القاتل سهوًا وهو في مدينة الملجأ يعيش في أمان، ولكني أتخيل كيف كان يحن للعودة إلى موطنه وعائلته وأصدقائه، وإلى روتين حياته المعتاد. ولكن بالنسبة للقاتل سهوًا ما كان ذلك الحلم السعيد ليتحقق إلا بموت الكاهن العظيم الذي يكون في تلك الأيام (عد ٣٥: ٢٥، ٢٨).

هذه المشابهة جعلتني أفكر في تلك الشريعة، وأود الآن أن أشرحها باختصار لنستخلص منها الدروس الروحية والعبر الكتابية لنا:

خطورة جريمة القتل

لم تكن مدن الملجأ مفتوحة لمرتكبي كافة المخالفات أو الحماقات، بل كانت للذين ارتكبوا واحدة من أبشع الجرائم، هي جريمة القتل.

يذكر لنا الوحي المقدس أن خطية القتل كانت أول خطية وقع فيها الإنسان خارج الجنة، عندما قام قايين على أخيه هابيل وذبحه (تك ٤). وفي الأصحاح نفسه نرى كيف صارت هذه الخطية مدعاة للفخر، عندما شاع وجود الطغاة في تلك الأيام. وكان لامك، السابع من آدم عن طريق قايين القاتل، مثالاً لذلك، عندما نظم قصيدة شعرية، وجهها لزوجتيه، وكان لامك هو أول من أدخل تعدد الزوجات في العالم، بحسب ما يذكر لنا الكتاب المقدس (تكوين ٤: ١٩، ٢٣، ٢٤). قال لزوجتيه مفتخرًا: «إني قتلت رجلاً لجرحي، وفتي لشدخي». والله بعد أن أهلك بالطوفان العالم القديم، بجبابرته وطغاته (تك ٦: ٤)، وأسَّس الحكومات، سَنَّ التشريع: «سافك دم الإنسان، بالإنسان يُسفك دمه» (تك ٩: ٦).

الله وحده واهب الحياة، وهو وحده الذي من حقه أن يأخذها متى أراد. فالرب يُميت ويحيي (١صم ٢: ٦). ولقد كان الغرض الرئيسي لإقامة الحكام أن يكونوا خدام الله في هذا الأمر بالذات، ليردعوا المفترين حيثما وُجدوا. ولكن الحكام أنفسهم كم افتروا! التاريخ المقدس يذكر لنا ماذا فعل داود مع أوريا الحثي (٢صم ١١)، وأخآب مع نابوت اليزرعيلي (١مل ٢١)، وهيرودس مع يوحنا المعمدان (مر ٦)، .... ثم إن التاريخ الوضعي قديما وحديثًا، يحدثنا كم جاوز الظالمون المدى. لا ننسى محاولة استئصال شأفة اليهود قديمًا أيام أحشويرش (إس ٣)، وحديثًا أيام هتلر. على أنه غني عن البيان أن أبشع جريمة قتل ارتُكبت من بداية التاريخ وحتى نهايته، كانت خطية قتل المسيح ابن الله!

إله المراحم

لقد فكر إله المراحم في شريعة يُنجي بها القاتل نفسًا سهوًا، وهو غير متعمد ولا راغب في قتله. فرتَّب شريعة مدن الملجأ ليهرب إليها القاتل سهوًا، فلا يدركه ولي الدم ويقتص منه. وكانت هذه الشريعة تشمل كلاً من الوطني والغريب. ولعل هذا يجاوب جزئيًا على تطاول البعض في اتهام إله العهد القديم بأنه إله متحيز لشعبه ضد الشعوب الأخرى، فهذه الشريعة تنطبق على بني إسرائيل، كما وعلى الغرباء والمستوطنين في وسطهم (عد ٣٥: ١٥).

وإذا كان الله يهمه سلامة الإنسان وحياته على الأرض، مع أنها محدودة وقصيرة جدًا، بالمقابلة مع لانهائية الآخرة، (انظر أيوب ٨: ٩؛ مزمور ٣٩: ٥)، فكم بالحري يهتم الله بأبديتنا! من هنا ندرك لماذا رتب الله العظيم خلاصًا هذا مقداره للإنسان، ولماذا هو يـتأنى على الخطاة، وهو لا يشاء أن يهلك أناس، بل أن يُقْبِل الجميع إلى التوبة.

لقد كانت مدن الملجأ هي مدن للاويين، واللاويون هم خدام الرب، وهم دارسوا الكلمة، والمنوط بهم تعليم الشعب الشريعة (تث ٣٣: ٨-١٠؛ ملا ٢: ٤-٨). وأعتقد أن الشخص الذي يهرب إلى واحدة من مدن الملجأ ما كان سيعيش أيامه عاطلاً بلا عمل، بل كان سيشارك اللاويين في خدمتهم، ويتعلم منهم كلمة الله. وبذلك فإن الله كعادته يُخرج من الشر خيرًا. وهكذا الآن، على كل مؤمن عُفي عنه من عقوبة الموت الأبدي التي يستحقها، أن يقضي بقية عمره في خدمة الرب الذي فداه، وأن ينمو في معرفته (تي ٢: ١١-١٤).

صورة تبشيرية

في شريعة مدن الملجأ لنا صورة تبشيرية رائعة. وبداية نلاحظ أن الرب في رحمته لم يحدِّد مدينة واحدة كمدينة ملجأ، بل ست مدن، ثلاثًا منها في شرق الأردن، وثلاثًا في عبر الأردن، بحيث كانت المسافة بين أي نقطة في الأرض إلى مدينة الملجأ القربى، لا تزيد عن سفر يوم واحد. وما كان على الهارب أن يعبر حاجزًا مائيًا، إذ كانت هناك ثلاث مدن على كل جانب من جانبي الأردن، وكل ذلك كان يصب في صالح وصول القاتل في أسرع وقت إلى مدينة الملجأ، فالتأخير في وصول القاتل سهوًا إلى مدينة الملجأ قد يُكلفه حياته. وبحسب التقليد اليهودي كانت الطرق إلى مدن الملجأ يتم إصلاحها سنويًا، لتكون خالية من الحفر أو المرتفعات أو العراقيب (تث ١٩: ٣). وهكذا اليوم في نور العهد الجديد يريد الرب من خدامه أن يجعلوا الطريق إلى المسيح المخلص سهلاً وميسورًا. لما قال اللص الجاني المصلوب إلى جوار المسيح: «اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك». لم يقل له المسيح: إن سجلك في الإجرام كبير، وليس بهذه السهولة يمكنك أن تخلص، بل قال له: «الحق أقول لك إنك اليوم تكون معي في الفردوس» (لو ٢٣: ٤٣). ولما وَجَّه سجان فيلبي سؤاله إلى بولس: «ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص؟»، لم يقل له الرسول بولس: إن هذا أمر معقد ولا يمكنني في عبارة واحدة أن ألخص لك المسألة، بل قال له: «آمن بالرب يسوع المسيح فتخلص أنت وأهل بيتك» (أع ١٦: ٣١).

مشابهات ومفارقات

الخاطئ هو مثل القاتل، ليس أمامه إلا الموت. ولكن هناك مدينة ملجأ، من يدخل فيها يتمتع بالأمان. وكانت مدينة الملجأ تقبل الجميع: لا فرق بين يهودي وأممي، متعلم وأمي، غني وفقير، وسيم ودميم. كل من يحتاج إلى الحمى والستر، فليذهب إلى مدينة الملجأ وسيجد القبول، وهكذا المسيح أيضًا، الذي وجه دعوته إلى الجميع، والذي يقول: «أنا هو الباب، إن دخل بي أحد فيخلص» (يو ١٠: ٩).

كان الطريق إلى مدن الملجأ سهلاً ومختصَرًا، بوسع قاتل النفس سهوًا أن يبلغ إلى الحمى في اليوم ذاته. وهكذا المسيح أيضًا، مع هذا الفارق، فإن كانت مدن الملجأ قريبة، فإن المسيح أقرب. إنك لا تحتاج إلى سفر يوم لتصل إليه، بل إنه هو الذي وصل إليك، بل إنه واقف على باب قلبك يقرع. كل ما عليك أن تسمع وتفتح الباب له. وكلمة الخبر التي نكرز بها قريبة منك، في فمك وفي قلبك، لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت (رو١٠: ٨، ٩). فلا يوجد ما هو أسهل من الخلاص الذي يقدِّمه المسيح بناء على عمله الذي أكمله لأجلنا على الصليب. لذا إذا وقعت هذه الصفحات في يد شخص غير متأكِّد بعد من خلاصه، أناشدك من قلبي أن تقبل المسيح في هذه اللحظة، فتنجو من الهلاك الأبدي.

مدن الملجأ كانت مفتوحة على الدوام وباستمرار. سبعة أيام في الأسبوع، ٢٤ ساعة في اليوم، وهكذا المسيح، من لحظة صعوده إلى السماء بعد إكمال عمل الفداء، كم من نفوس دعت باسم الرب وخلصت. وفي كل ساعة من ساعات الليل والنهار هناك من يلجأون إلى المسيح وينالون الخلاص الأبدي. فهل أنت واحد منهم؟

لكن المدينة ما كانت لتقبل إلا الأبرياء الذين قتلوا دون قصد، وأما المسيح فلا يُوجد شخص مهما كان شره إلا ويرحب به، ويستطيع دمه المسفوك تطهيره من الخطية، ولو كانت في لون القرمز، أو في ثبات صبغة الدودي.

المسيح هو الكل

في هذه الشريعة هناك شخصيات مختلفة لها أدوار متباينة، بينما في المرموز إليه تتلخص القصة كلها في المسيح وأنا. أنا الجاني، بل أنا القاتل، فلقد شاركنا جميعنا، بصورة أو بأخرى، في صلب المسيح. والمسيح هو الذي قُتل. قال الرسول بطرس لليهود الذين أتوا من كل أمة تحت السماء ليُعَيِّدوا عيد الخمسين: «بأيدي أثمة صلبتموه وقتلتموه» (أع ٢: ٢٣؛ ٣: ١٧)، مع أنه ربما الكثير منهم لم يكن في أورشليم يوم الصليب على الإطلاق.

لكن كيف أمكن تطبيق القتل سهوًا في حق الذين بأيدي أثمة صلبوا المسيح وقتلوه؟ الإجابة نجدها في صلاة المسيح التي نطق بها من فوق الصليب، عندما قال للآب: «يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لو ٢٣: ٣٤)، وهو بذلك فتح أمام التائبين مدينة الملجأ، إذ اعتبرهم قاتلين سهوًا (عب ٦: ١٨-٢٠).

لكن المسيح هو أيضًا ولي الدم: فهو بعد أن مات، قام في اليوم الثالث، مقدِّمًا فرصة الخلاص لكل من يؤمن به، وفي الوقت نفسه، فإن من يحتقر صليبه وموته وقيامته فهو بنفسه سيجري نقمته الرهيبة عليه (انظر عبرانيين ١٠: ٢٨، ٢٩؛ إشعياء ٦٣: ١- ٤؛ رؤيا ١٩: ١١- ١٦). لقد ارتُكبت الجريمة ضد المسيح، وليس سواه من يحمي ويستر من تلك الجريمة البشعة. ومن لا يبادر ويحتمي فيه، فسيكون المسيح بنفسه هو الولي الذي يقتص من الآثمين غير التائبين.

والمسيح – بالإضافة إلى كل ذلك – هو أيضًا الكاهن العظيم الذي بموته يمكن للقاتل سهوًا أن يرجع إلى أرضه وملكه، وهو ما أريد أن أتوقف عنده هنيهة. فهذا القاتل سهوًا، المقيم في مدينة الملجأ، رغم أنه كان يعيش في أمان، ويعيش معززًا في مدينة اللاويين، لكنه يحس بأنه غريب، ويحن إلى أن ينضم إلى عائلته، ويرجع إلى وطنه. لكن هذا غير ممكن إلى أن يموت الكاهن العظيم الذي يكون في تلك السنة.

أليس هذا هو ما نحس به بالفعل في هذه الأيام؟ فمع أننا نسكن في ستر العلي، ونبيت في ظل القدير، لنا حمايته من الأضرار والأخطار، لكننا نشعر عميقًا بأننا محرومون من ديار الحبيب، ونَحِنُّ إلى أن يلتئم شمل العائلة. فمتى سيتم ذلك؟ أليس عند سماعنا صوت البوق، فيُقام الأموات عديمي فساد، ونحن نتغير، ثم نخطف جميعًا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء، وهكذا نكون كل حين مع الرب (١تس ٤: ١٣-١٨)؟

موت الكاهن العظيم

أشرنا في ما سبق أن هناك مشابهات وهناك مفارقات في شريعة مدن الملجأ. وأعتقد أن مسألة موت الكاهن العظيم هي من ضمن المفارقات، وذلك لأن المسيح لم يصبح الكاهن العظيم إلا بعد قيامته من بين الأموات، وهو إذ قام يستحيل أن يموت ثانية (انظر رومية ٦: ٩، ١٠). وفي الرسالة إلى العبرانيين عندما تَحَدَّث عن كهنوت المسيح على رتبة ملكي صادق يرد القول: «وذلك أكثر وضوحًا أيضًا إن كان على شبه ملكي صادق يقوم كاهن آخر (الرب يسوع المسيح)، قد صار ليس بحسب ناموس وصية جسدية، بل بحسب قوة حياة لا تزول» (عب ٧: ١٥، ١٦).

وإن كان المسيح رئيس الكهنة العظيم لا يمكن أن يموت، لكن - على أي حال - ستنتهي خدمته، الخدمة الكهنوتية. الموت كان ينهي خدمة الكاهن، ولكن لأن المسيح استلم خدمته الكهنوتية بعد القيامة من الأموات، وهو لا يمكن أن يموت مرة ثانية، لذا فإن الرمز هنا يشير إلى شيء آخر يمكن أن يكون الموت تعبيرًا بسيطًا عنه. فنحن عندما نذهب إلى المجد، لن نكون في حاجة بعد إلى خدمة المسيح الكهنوتية، من رثاء ومعونة وإنقاذ. صحيح، سيظل المسيح يخدمنا في المجد (لو ١٢: ٣٧)، لكن خدمته هناك تتناسب مع أجواء المجد والكمال الذي سندخل فيه، وليس حالة الضعف والمعاناة التي نعيش فيها الآن.

في نظرة شمولية يمكننا أن نقول إن المسيح سوف يخرج من الأقداس السماوية، وسوف تنتهي خدمته الكهنوتية المرتبطة بالغربة والبرية والضعف والرثاء، فهذا كله سينتهي إلى غير رجعة. وعندما يصبح المسيح - بحسب زكريا ٦ - كاهنًا على كرسيه، عندئذ سيعود إسرائيل المشتَّت في كل بقاع الدنيا، بسبب خطية قتلهم للمسيا، سيرجعون إلى أرض ميراثهم، أما نحن فقبلها سنكون قد وصلنا إلى ميراثنا السماوي، لنتمتع به إلى أبد الآبدين.

يا رب قَرِّب هذا الوقت السعيد! آمين.

يوسف رياض