أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
نوافذ على الفردوس ديفيد جودنج أي رجاء يُمكن أن يُقدّمه الرب يسوع المسيح لأُناس شوَّهتهم الحياة، أو رفضهم المجتمع؟ هل في إنجيله أجوبة عن أسئلة بشأن الوجود والموت والحياة الآتية؟ يقول إن له الحق في الحُكم، ولكن أي نوع من الملوك هو؟ وما الفرق الذي تُحدثه مملكته في العالم الآن؟ يُقدِّم لوقا في إنجيله مشاهد من حياة غير مُنصفة، مُظهرًا المسيح كالبطل الذي يَهُبّ إلى نجدة المنبوذين والمظلومين، الذي جاء ليطلب المُحتاجين المعوزين ويستردهم، ويجعلهم له إلى الأبد. يقول لوقا إن الأسئلة بشأن الوجود والموت والحياة الآتية، تجد إجابتها في المسيح، ويُوضِّح أنه وجد في المسيح الشخص الجدير بإدارة حياته ومصيره. من خلال جمع العتيد من هذه المشاهد معًا، يُقدِّم ”ديفيد جودنج“ نظرة عامة على المحاور الرئيسية في إنجيل لوقا، كل قصة في حد ذاتها، تُظهر أن إنجيل المسيح لا يتجاهل حقائق الواقع الصعبة. والنظر للمشاهد مُجتمعة، يُظهِر أن الفردوس الذي تحدَّث عنه المسيح حقيقي أكثر مما نتخيل، وأن الذي وعدنا بالحياة والراحة هو أمين فوق كل ما يُمكننا أن نرجوه. والكتاب في ١٨١ صفحة ومتوافر في مكتبة الإخوة نشجعك على اقتنائه ودراسته
 
 
عدد نوفمبر السنة 2023
يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيّ سِيَادَة الله ومسؤولية الإنسان ٢٤٠
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

سِيَادَةٍ الله تعني سمو الله، وملكوت الله، وألوهية الله. أن تقول إن الله مُتسيد هو أن تعلن أن الله هو الله. أن تقول إن الله مُتسيِّد هو أن تعلن أنه العلي «وَهُوَ يَفْعَلُ كَمَا يَشَاءُ فِي جُنْدِ السَّمَاءِ وَسُكَّانِ الأَرْضِ، وَلاَ يُوجَدُ مَنْ يَمْنَعُ يَدَهُ أَوْ يَقُولُ لَهُ: مَاذَا تَفْعَلُ؟» (دا٤: ٣٥). أيضًا أن تقول إن الله مُتسيِّد هو أن تعلن أنه القادر على كل شيء، وصاحب كل سلطان في السماء والأرض، ولا أحد يستطيع أن يُبطل مشوراته، أو يُحبط مقاصده، أو يُقاوم مشيئته (مز١١٥: ٣). وأن تقول إن الله مُتسيِّد هو أن تُعلن أنه «هُوَ الْمُتَسَلِّطُ عَلَى الأُمَمِ» (مز٢٢: ٢٨)، الذي يُقيم ممالك، ويُطيح بإمبراطوريات، وهو الذي يُعيِّن مسار السلالات الحاكمة بحسب مسرته. وأن تقول إن الله مُتسيِّد هو أن تُعلن أنه «الْعَزِيزُ الْوَحِيدُ: مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ» (١تي٦: ١٥). هذا هو إله الكتاب المقدس.

إن سِيَادَة إله الكتاب المقدس هي سيَادة مُطلَقة، غير قابلة للمقاومة، وغير محدودة. حين نقول إن الله متسيِّد، فنحن نؤكد حقه في أن يحكم ويدير الكون الذي خلقه لمجده تمامًا بحسب مسرته، وأن حقه هذا هو حق الفخاري على طينته، أي أنه يمكنه أن يشكل هذا الطين لأي صورة يختارها «أَنْ يَصْنَعَ مِنْ كُتْلَةٍ وَاحِدَةٍ إِنَاءً لِلْكَرَامَةِ وَآخَرَ لِلْهَوَانِ» (رو٩: ٢١). وأيضًا أنه لا يخضع لأي حكم أو قانون خارج إرادته وطبيعته، وأن الله هو قانون في ذاته، وأنه ليس تحت اي إلزام، ولا يعطي حسابًا عن شؤونه لأحد.

إن صفة السيادة تميز كيان الله بأكمله، فهو متسيِّد في كل صفاته، ومتسيِّد في ممارسة قوته. فإنه يمارس قوته كما يريد، ومتى يريد، وأينما يريد. هذه الحقيقة واضحة بالبراهين والأدلة في كل صفحة من صفحات كلمة الله. وقد تبدو هذه القوة خاملة لفترة طويلة، ثم فجأة تظهر بقدرة لا تُقاوَم. فقد تجرأ فرعون على منع إسرائيل من الخروج لعبادة يهوه في البرية، فماذا حدث؟ لقد مارس الله قوته، وخلَّص شعبه وقتل مسخريهم القساة. ثم بعد وقت ليس بكبير، تجرأ العمالقة على الهجوم على هذا الشعب نفسه في البرية، وماذا حدث؟ هل أظهر الله قوته في هذا الموقف وشمر عن ذراعه كما فعل عند البحر الأحمر؟ هل تم الإطاحة بأعداء شعبه هؤلاء واهلاكهم في الحال؟ لا، بل على العكس، أقسم الرب أنه سوف يكون له «حَرْبٌ مَعَ عَمَالِيقَ مِنْ دَوْرٍ إِلَى دَوْرٍ» (خر١٧: ١٦). ومرة أخرى، حين دخل شعب إسرائيل أرض كنعان، استعلنت قوة الله على نحو بارز. وحين أعاقت مدينة أريحا تقدمهم، ماذا حدث؟ لم يسحب إسرائيل قوسًا، ولم يضربوا ضربة واحدة، بل مد الرب يده فسقطت الأسوار في مكانها في الحال. لكن لم تتكرر المعجزة ثانية أبدًا! ولم تسقط أي مدينة أخرى بنفس هذه الطريقة، بل كان لا بد من احتلال كل المدن الأخرى بعد ذلك بالسيف!

يمكننا الاستشهاد بالكثير من المواقف الأخرى لتوضيح الممارسة السيادية لقوة الله. لنأخذ بعض الأمثلة الأخرى: فقد أظهر الله قوته ونجا داود من جليات العملاق، أيضًا سد الله أفواه الأُسُودِ وأخرج دَانِيآلَ دون أن يُصاب بأذى، وطُرح الرفاق الثلاثة العبرانيون في أتون النار المشتعلة، فخرجوا غير مصابين بأي أذى ولا خدش. لكن قوة الله هذه لم تتدخل دائمًا لخلاص شعبه، اذ نقرأ: «آخَرُونَ تَجَرَّبُوا فِي هُزُءٍ وَجَلْدٍ، ثُمَّ فِي قُيُودٍ أَيْضًا وَحَبْسٍ. رُجِمُوا، نُشِرُوا، جُرِّبُوا، مَاتُوا قَتْلاً بِالسَّيْفِ، طَافُوا فِي جُلُودِ غَنَمٍ وَجُلُودِ مِعْزَى، مُعْتَازِينَ مَكْرُوبِينَ مُذَلِّينَ» (عب١١: ٣٦-٣٧). لكن لماذا؟ لماذا لم ينجُ رجال الإيمان هؤلاء مثل الآخرين؟ أو لماذا لم يتألم أولئك الرجال حتى الموت مثل هؤلاء؟ لماذا تتدخل قوة الله لإنقاذ البعض وليس البعض الآخر؟ لماذا سمح الله برجم استفانوس حتى الموت، ثم خلص بطرس من السجن؟ الإجابة على كل هذه الأسئلة هي أن الله مُتسيِّد في ممارسة صفاته.

ولكن هناك صعوبة رئيسية يواجهها البعض بخصوص تحديد نقطة التقابل بين سِيَادَة الله ومسؤولية الإنسان. ويتساءل هؤلاء: كيف يمكن لله أن يقضي بأن البشر لا بد وأن يرتكبوا خطايا معينة، ثم يُحملهم مسؤولية ارتكابها، ويحكم عليهم أنهم مذنبون بسبب ارتكابهم إياها؟

دعونا نتناول قضية ”يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيِّ“، فنحن نُدرك جيدًا أنه من الواضح في كلمة الله أن الله قد قضى منذ الأزل أن يَهُوذَا كان لا بد أن يُسلِم الرب يسوع. إن تحدى أي شخص هذا التصريح سوف نوجهه إلى نبوة زكريا والتي من خلالها أعلن الله أن ابنه سيباع بثمن ”ثلاثين من الفضة“ (زك١١: ١٢). والله في النبوة يُعلِمنا بما سوف يكون، وفي إعلامنا بما سوف يكون فهو يكشف لنا عما قد عيَّن أنه لا بد وأن يكون، ولا حاجة للجدال بشأن كون يَهُوذَا هو الشخص الذي تمت من خلاله نبوة زكريا أم لا، لكن السؤال الذي علينا مواجهته الآن هو: هل كان يهوذا كائنًا مسؤولًا في تتميمه لهذا القضاء؟ نجيب على هذا بنعم، فإن المسؤولية تتعلق بشكل رئيسي بالدافع والقصد للشخص المُرتكب للفعل، وهذا مُتعارف عليه لدى الجميع. فإن القانون البشري يًفرِّق بين ضربة وُجهت دون عمد (أي دون قصد شرير)، وضربة ”مع سبق الإصرار والترصد“ أو تخطيط مسبق. لنطبق اذًا هذا المبدأ نفسه على حالة يَهُوذَا، ماذا كان دافع وقصد قلبه حين تفاوض مع الكهنة؟ من الواضح أنه لم تكن لديه أية رغبة واعية في تتميم أي حكم من أحكام الله، وعلى الرغم من جهله بهذا، إلا أنه كان في الحقيقة يفعل هذا. لكن على النقيض، كان قصده شريرًا فقط، ولذلك، وعلى الرغم من أن الله قضى بهذا التصرف ووجه فعله، إلا أن نيته وقصده الشرير جعلاه مذنبًا بعدل، كما اعترف هو لاحقًا بنفسه: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَمًا بَرِيئًا» (مت٢٧: ٤). ينطبق الأمر عينه على صلب المسيح، فالكتاب المقدس يعلن بوضوح أنه كان «مُسَلَّمًا بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ» (أع٢: ٢٣)، وأنه على الرغم من أنه قد «قَامَ مُلُوكُ الأَرْضِ، وَاجْتَمَعَ الرُّؤَسَاءُ مَعًا عَلَى الرَّبِّ وَعَلَى مَسِيحِهِ»، إلا أن هذا لم يكن سوى «لِيَفْعَلُوا كُلَّ مَا سَبَقَتْ فَعَيَّنَتْ يَدُكَ وَمَشُورَتُكَ أَنْ يَكُونَ» (أع٤: ٢٦، ٢٨). وتُعلِّم هذه الأعداد ما يتعدى مجرد سماح من قبل الله، مُعلنة أن الصلب وكل تفاصيله كانت مُعيَّنة من قبل الله. ومع هذا، فإن سَيِّدنا صُلِب وقُتِل «بِأَيْدِي أَثَمَة» (أع٢: ٢٣)، وليس بمجرد ”أيدي بشر“. وقد كانوا ” أَثَمَة“ لأن دافع وقصد صالبيه كان فقط شريرًا.

لكن قد يظهر اعتراض يقول إنه إن كان الله قضى بأن يَهُوذَا لا بد وأن يُسلِم المسيح، وأن اليهود والأمم ينبغي أن يصلبوه، فإنهم لم يكن في مقدورهم تغيير هذا وعمل غيره، ولذلك فهم لم يكونوا مسؤولين عن مقاصدهم. الإجابة هي أن الله قضى بالفعل بأنهم سيقومون بالأفعال التي قاموا بها، لكنهم كانوا مُذنبين حقًا في ارتكابهم الفعلي لهذه الأفعال، لأن مقاصدهم في فعلها كانت فقط شريرة.

دعونا نقول بشكل قاطع أن الله لا يُنشئ الميول الخاطئة في داخل أي من خلائقه، على الرغم من أنه قد يكبحها ويوجهها لتتميم مقاصده، وهكذا فهو ليس خالق ومصدر الخطية ولا يوافق عليها. وهذا التمييز قد عبر عنه أغسطينوس هكذا: ”كون البشر يخطئون فهذا ينبع من داخلهم، وكونهم بينما يخطئون يقومون بهذا الفعل أو ذاك، فهذا ينبع من قوة الله الذي يقسِّم الظلمة كما يشاء“. لذلك مكتوب: «قَلْبُ الإِنْسَانِ يُفَكِّرُ فِي طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ يَهْدِي خَطْوَتَهُ» (أم١٦: ٩). ما نريد أن نصر عليه هنا هو أن أحكام الله ليست هي السبب المستوجب لخطايا البشر، لكنها هي القيود والتوجيهات المعيَّنة مسبقًا والمنصوص عليها عند الله لأفعال البشر الخاطئة. وفيما يتعلق بخيانة المسيح، فإن الله لم يقضِ بأنه لا بد أن يُسلّم من قبل واحد من خلائقه، ثم بعد هذا تملك على شخص صالح، وغرس داخل قلبه شهوة شريرة، وهكذا أجبره على تتميم هذا العمل الرهيب لأجل تنفيذ قضائه. لا، فلا تعرض الكلمة الأمر هكذا، بل تقول إن الله قضى بحدوث الفعل ثم اختار الشخص الذي كان عليه إتمامه، لكنه لم يجعل منه شريرًا كي يُتمّم هذا القضاء، بل على العكس، كان الخائن ”شريرًا” بالفعل في وقت اختيار الرب يسوع له كواحد من الاثنا عشر تلميذًا (يو٦: ٧٠)، وهو أظهر الأفعال التي كانت متوافقة تمامًا مع قلبه الشرير المتدني، والتي تمت بأكثر المقاصد شرًا. وهو ما تم فعلاً في موضوع الصلب.

آرثر بنك