أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2007
المحبة (2)
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

لا عائق يقف في طريق محبة الله نحو البشر؛ فهي تخترق الزمان والمكان، وتثبت في الظروف كافة: في الآلام والوئام، والموجعات والتعزيات، وفرح الحياة وترحها. شعاعها لا ينكسر، حتى يستقر في كيان الانسان، في قلبه.

 لكنَّ طبيعة الشر في الإنسان، أثَّرت على سريان المحبة إليه، والآخرين. وتبدَّت عوائق، منعت وصول المحبة غرضها؛ نذكر منها ثلاثة: التقتير، التغيير، التقدير.

1. التقتير: المحبة بذل دون مقابل… سخاء لا يتوقف… نبع فياض لا ينضب. لا تتغيّر طبيعتها، ولا يتسلل إليها نقص أو بخل أو تقتير. وعندما أراد الله أن يُظهر محبته للبشر، أعطى ابنه الوحيد بديلاً عنهم «هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو3: 16). «الله بيَّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رو5: 8).

كذا الابن أراد أن يُجسِّد محبته، تخلى عن مجده الذاتي؛ فكان أعظم تخلٍ، وأسمى صيرورة، فسطعت المحبة كمالاً وجمالاً على الصليب (في2: 6-8؛ يو1: 1، 14).

المحبة الالهية أعطت الذات كلَّها، وتخطَّت كل تخبير وتعبير وتقدير. أما محبتنا نحن فلن تصل الكمال، ويعتورها النقص، ويشوبها الضعف، ولا تسمو على المنفعة الذاتية والمصلحة الشخصية، وحساب الربح والخسارة. لذلك يحرِّضنا الكتاب في أماكن عديدة على المحبة، والثبات فيها في القلب. كما وهي الوصية الجديدة، التي أوصانا الرب يسوع بها، والعلامة الفارقة الوحيدة، التي تظهرنا أحباء المسيح وتعكس صورة المسيح (1بط1: 22؛ 4: 8؛ 1كو13؛ يو15: 12، 17؛ 1يو4: 20-21) عندما تُقتِّر المحبة، لن تكون محبة؛ لأن المحبة تعطي الكل، ولا تطلب شيئًا.

2. التغيير: المحبة معدن سماوي، من صنع الله الحنَّان، منبثقة من قلبه، مندمجة بذاته «لأن الله محبة» (1يو4: 8، 16). وهي ثابتة بثباته. وكما أن «يسوع المسيح هو هو، أمسًا واليوم وإلى الأبد» (عب13: 8)، كذا محبته عاملة أمسِ واليوم وأبديًا؛ لأنها الأعظم في المسيحية، والأفضل في انتشار رسالة المسيح. ولا يشوبها تغيَّر، أو تبدل، أو تحوَّل. وتغلب في الفشل والنجاح، والتمرد والطاعة، القبول والرفض، وفي الرفعة الروحية والانخفاض – فالأب يرحب بابنه الضال معانقًا (لو15: 20).

المسيح يغفر لصالبيه مسامحًا (لو23: 34). والملك داود يبكي ابنه الثائر عليه مفجوعًا (2صم18: 33). ومحبة المسيح التي انسكبت في قلوبنا، لن تفصلنا عنها أية قوة في الكون (رو8: 35 – 39).

أما محبة الإنسان فمترجّحة، غير ثابتة. والرسول بطرس بعد أن وعد الرب وأصرَّ أمام المسيح، بأنه لن يتركه أبدًا (مت16: 22). لكن أمام الخدم والجواري، يُقسِم ويلعن ويحلف أنه لا يعرفه. وعندما تكلم على جسده طعامًا، ودمه شرابًا، تخلى عنه التلاميذ ولم يعودوا يمشون معه (يو6: 66). وفي دخوله أورشليم على جحش ابن اتان، فرش الجمع الأرض بثيابهم، ووضعوا أغصان الشجر (مت21: 25). هذا الجمع نفسه صرخ بصوت عالٍ في محاكمة الرب أمام بيلاطس، مُصِّرًا على صلب المسيح، وإطلاق اللص القاتل بارباس (مت27: 21).

3. التقدير: إن أكبر عائق لانسكاب المحبة في قلب الانسان، وثباتها فيه، هو ألاّ تلقى صدى من المحبوب. تعيش المحبة بخبز التقدير والتبادل، وحفر صورة المحب في قلب المحبوب «نحن نحبه، لأنه هو أحبنا أولاً» (1يو4: 19). وتنمو اضطرادًا في الفضاء الروحي، وتذبل متلاشية حيث لا جواب ولا تقدير.

لقد اضرمت المحبة قلب المجدلية، وشغفت نفسها، فردت بتقدير حياتي كبير سامٍ، تجلَّى في مواقف تنطق تضحية وتفانيًا تقتحم الصعاب، وتسبق الفجر دون غياب، وتفتح المصاريع والأبواب.

1. بعد أن اعتقها الرب من شياطين سبعة، الذين سحقوها عبودية، ودمروا حياتها؛ لبستها محبته المطلقة، ووقفت تشهد نزاعه الرهيب، تروي قصة المحبة وبذل الذات. وتقدير عمق الآلام الجسدية والنفسية. لذا وضعت حياتها… إمكاناتها… أحوالها عند قدميه.

2. يوم الأحد، أول الأسبوع، سبقت الفجر مسرعة إلى القبر. امرأة تشق الليل وحيدة. تُصعِّد في شعوبات الجلجثة، حاضنة أبلغ تعبير، وأروع تقدير…، طيوبًا، تنثرها عرفانًا على قبر الحبيب. دفعها لهف المحبة إلى حيث دفن لتكرمه، بعمل أخير ووداع مؤثر. لم ترهب حراسًا، ولم تخشَ رؤساء، ولم تحفل برجال.

3. رجعت المريمات من القبر… عاد الرسل إلى أورشليم… تفرَّق الأحباء،.. اختبأ الأقرباء… ابتعد الأشقَّاء. لكنها هي هي، مسمرة في المكان، متعلقة لا بالقبر، إنما بالذي يحتويه القبر.

تعيش المجدلية ضياع ذات وتعب نفس، قلبًا يُسحَق حزنًا على أحب حبيب: أحنّ من الأم، ألصق من الأب، أقرب من الاخ. تهيم في عالمها، لأن هذا العالم لا يلفتها. تريد سيدها، ولا تتحمل غيابه. أنا آخذه… قالت – هو لي… ملكي… وأنا ملكه. إن الحزن المفرط قد غيَّب العقل، والفراغ المحُرق عطَّل الفكر، والألم المبرِّح أوهن الوعي. لكنه في تقدير محبتها الغالية، ظهر، لينعش حياتها ويسكب الغبطة والعزاء في قلبها، مُخففًا قسوة الآمها. ناداها، بصوته الأرقّ، وكلماته العذاب، من ثغره الأطيب، وندائه الحنين.

عرفته، فأفاقت من غيبوبتها، وصرخت: ربي… إلهي… مخلصي… حبيبي. تكحلت عيناها بوجهه القدسي النوراني، وبعد حديثه المسكوب نعمة على شفتيه، رجعت، قافزة… طافرة… مليئة فرحًا وابتهاجًا، تحمل أجمل خبر وأثمن بشارة، قيامة الرب من الأموات. (لو8: 2-3؛ مر15: 47؛ 16: 1، 9؛ يو19: 25؛ 20: 1-18).

أخي الحبيب، أختي العزيزة
إن محبة الرب لا ولن تُقِّتر، لا ولن تُغيِّر؛ وهي عظيمة ودائمة التقدير!!
أين نحن من هذه المحبة؟؟

عندما تذهب إلى مائدة الرب لا تأخذ قلبًا فارغًا لتملأه، بل قلبًا ممتلئًا لتسكبه.

حنا الحلو