أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
نوافذ على الفردوس ديفيد جودنج أي رجاء يُمكن أن يُقدّمه الرب يسوع المسيح لأُناس شوَّهتهم الحياة، أو رفضهم المجتمع؟ هل في إنجيله أجوبة عن أسئلة بشأن الوجود والموت والحياة الآتية؟ يقول إن له الحق في الحُكم، ولكن أي نوع من الملوك هو؟ وما الفرق الذي تُحدثه مملكته في العالم الآن؟ يُقدِّم لوقا في إنجيله مشاهد من حياة غير مُنصفة، مُظهرًا المسيح كالبطل الذي يَهُبّ إلى نجدة المنبوذين والمظلومين، الذي جاء ليطلب المُحتاجين المعوزين ويستردهم، ويجعلهم له إلى الأبد. يقول لوقا إن الأسئلة بشأن الوجود والموت والحياة الآتية، تجد إجابتها في المسيح، ويُوضِّح أنه وجد في المسيح الشخص الجدير بإدارة حياته ومصيره. من خلال جمع العتيد من هذه المشاهد معًا، يُقدِّم ”ديفيد جودنج“ نظرة عامة على المحاور الرئيسية في إنجيل لوقا، كل قصة في حد ذاتها، تُظهر أن إنجيل المسيح لا يتجاهل حقائق الواقع الصعبة. والنظر للمشاهد مُجتمعة، يُظهِر أن الفردوس الذي تحدَّث عنه المسيح حقيقي أكثر مما نتخيل، وأن الذي وعدنا بالحياة والراحة هو أمين فوق كل ما يُمكننا أن نرجوه. والكتاب في ١٨١ صفحة ومتوافر في مكتبة الإخوة نشجعك على اقتنائه ودراسته
 
 
عدد نوفمبر السنة 2023
خطية مريم وردّ نفسها
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

إن أحداث رحلة شعب إسرائيل من مصر إلى كنعان، تحتوي على دروس ثمينة عديدة لكنيسة الله في التدبير الحاضر. فنحن أيضًا شعبٌ غريبٌ، لكننا في طريقنا إلى وطن أفضل أي سماوي (عب١١: ١٦). في سفر الخروج نقرأ عن خلاص بني إسرائيل وتحريرهم من مصر، بينما يصف سفر العدد رحلتهم من جبل سيناء إلى عبر الأردن وامتلاكهم شرق الأردن. وسفر العدد يتحدث تحديدًا عن فشل شعب الله أثناء رحلتهم في البرية؛ لقد فشل إسرائيل في الاستماع إلى كلمة الله، وفشل في الخضوع لسلطة موسى، كما فشل في امتلاك أرض الموعد ... إلخ.

وفي هذا الصدد، كان التقرير الذي نطق به الله في سفر العدد ١٤: ٢٢ مذهلاً: «جَرَّبُونِي الآنَ عَشَرَ مَرَّاتٍ وَلمْ يَسْمَعُوا لِقَوْلِي». وعاقب الله هذا الشعب المتذمر مرارًا وتكرارًا، لكن دون جدوى. وهكذا قضى الرب أنه في القفر، تسقط جثث كل الَّذِينَ تَذَمَّرُوا عَلَيه، من هذا الجيل، مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا. وهكذا مات هؤلاء ميتة تعسة في البرية، باستثناء يشوع وكَالَب. وبالتالي كل الذين دخلوا أرض الموعد كانوا جيلاً جديدًا. الإنسان في الجسد، الذي امتحنه الناموس، لم يستطع أن يُرضي الله، وكان عليه أن يُولد ثانيةً. كل قارئ منتبه لأقوال الكتاب المقدس لا بد أن يصل إلى هذه الخلاصة، وهذا - بلا شك - واحد من الدروس الهامة التي يريد الله أن يعلمنا إياها هنا.

في سفر العدد ١٢، يبدو أن روح التمرد التي سيطرت على الشعب قد تحكمت في مريم وهارون أيضًا، أخت موسى رجل الله وأخوها، اللذان استخدمهما الله، ولعبا دورًا هامًا في الخروج من مصر. ظاهريًا ساهمت مريم أكثر في هذا التمرد ضد موسى، لكن هارون كان على استعداد تام ليستمع لها، وبالتالى جاء اعترافهما بصيغة الجمع: «فَقَال هَارُونُ لِمُوسَى: أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي لا تَجْعَل عَليْنَا الخَطِيَّةَ التِي حَمِقْنَا وَأَخْطَأْنَا بِهَا» (ع١١). ما سبب اغتياب مريم لموسى؟ نحن نقرأ: «تَكَلَّمَتْ مَرْيَمُ وَهَارُونُ عَلَى مُوسَى بِسَبَبِ الْمَرْأَةِ الْكُوشِيَّةِ الَّتِي اتَّخَذَهَا، لأَنَّهُ كَانَ قَدِ اتَّخَذَ امْرَأَةً كُوشِيَّةً*» (ع١). وهل التحدث عن زيجة أخ غير مسموح به؟ بالطبع مسموح، لكن المهم هو الطريقة التي تتحدث بها! لقد فعلت مريم ذلك بطريقة سلبية، وبالتالى أذنبت بالوشاية. لقد استنكرت زواج موسى، وبالتالى نالت من مقامه وسمعته. لم يذكر هذا في كلمات كثيرة لكن يمكننا استنتاجه من السرد.

هذا يعني أن مريم قاومت طريق أفعال موسى، وبالتالي تحولت لهارون ليدعمها. فقالا معًا «هَل كَلمَ الرَّبُّ مُوسَى وَحْدَهُ؟ أَلمْ يُكَلِّمْنَا نَحْنُ أَيْضًا؟» (ع٢). ويقول الكتاب: «فَسَمِعَ الرَّبُّ». دعونا نتذكر هذا عندما نشعر أننا نريد أن نقول شيئًا عن إخوتنا ! هناك شاهد يسمع أحاديثنا، ويعرف أفكارنا، بل ويعرف ما في داخل قلوبنا، ولا يمكننا أن نُخبئ شيئًا عنه. لذلك ليس بلا سبب يحذرنا الرسول يعقوب بجدية من مخاطر اللسان الذي يمكن أن يكون «مَمْلُوٌّ سُمًّا مُمِيتًا. بِهِ نُبَارِكُ اللهَ الآبَ، وَبِهِ نَلْعَنُ النَّاسَ الَّذِينَ قَدْ تَكَوَّنُوا عَلَى شِبْهِ اللهِ» (يع٣: ٨، ٩). إنه شر خطير؛ وعندما يتمسك به شخص، يقوده ذلك في النهاية إلى العزل، لأن الشتامين يجب أن يستبعدوا من بيننا كأشرار (١كو٥: ١١- ١٣). يقول الرسول بولس في ١كورنثوس٦: ١٠ إن الشتامين من ضمن أولئك الذين لن يرثوا ملكوت الله، ويُعتبروا من بين أولئك ”الَّذِينَ مِنْ خَارِجٍ“. للأسف ربما تصل الأمور إلى هذا الحد عندما لا يضع الشخص لسانه تحت سيطرة قوة الروح القدس. إن التعفف وضبط النفس هو أيضًا من ثمر الروح (غل٥: ١٩- ٢٣).

تُحْجَزُ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ

هذا ما حدث مع مريم كما نرى كمثال في هذه القصة. فهي لم تتردد في أن تتكلَّم ضد موسى، وبالتالي كان عليها أن تُحْجَز، بَرْصَاء، خَارِجَ الْمَحَلَّةِ. في سفر العدد كان ”خَارِجَ الْمَحَلَّةِ” هو مكان لجميع النجسين (عد٥: ١-٤)؛ والْبُرْصُ منهم هم المذكورين أولاً. نفس الأمر في لاويين ١٣، ١٤ حيث نجد الشرائع الخاصة بالْبَرَص، وتطهير الذين شُفوا منه. كان الأَبْرَصُ نجسًا طالما كان عنده الداء: «كُلَّ الأَيَّامِ الَّتِي تَكُونُ الضَّرْبَةُ فِيهِ يَكُونُ نَجِسًا. إِنَّهُ نَجِسٌ. يُقِيمُ وَحْدَهُ. خَارِجَ الْمَحَلَّةِ يَكُونُ مُقَامُهُ» (لا١٣: ٤٦).

الجدير بالملاحظة أنه في حالة مريم يبدو أن نوع الْبَرَص كان في مرحلة متقدمة. لقد حمى غضب الرب على مريم وهارون ووقفت مريم هناك «بَرْصَاءُ كَالثَّلْجِ» (ع١٠). هذا البياض التام كان بحسب لاويين١٣: ١٣ هو تحديدًا الحالة التي يُحكم فيها بطهرها! هذا يعني أن مريم ضُربت بقضاء من الله، لكن مع برهان فوري على نعمته التي وضعت رد نفسها في الاعتبار. كانت بَرْصَاء تمامًا، لا شك في ذلك فكان لا بد أن تخرج خارج المحلة كنجسة وتصرخ: ”نَجِسةٌ ... نَجِسةٌ“ (لا١٣: ٤٥)، لكن ليس إلى الأبد، بل أراد الله أن يستعيدها ثانية، بعد أن تكون قد ”حُجِزَتْ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ“ (ع١٤).

أعتقد أن فترة السبعة أيام، التي كانت مطلوبة أيضًا في بعض طقوس التطهير الأخرى (سفر العدد ١٩)، تشير إلى كمال مقياس التوبة المطلوبة للاستعادة الإلهية. بالمثل كان لابد من حدوث الندم والتوبة مع الشخص المعزول في كورنثوس قبل أن يُقبل ثانية وسط المؤمنين (٢كو٢: ٧)، ”لأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ أَنْشَأَ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ» (٢كو٧: ١٠)؛ توبة في قلبه، كما في قلوب الكورنثيين الذين تساهلوا قبلًا مع المُخطئ فيما بينهم.

إن عزل المُخطئ من بين المؤمنين، وإخراج الأَبْرَص خارج مَحَلَّة طاهرة، لا بد أن يتم دائمًا على أمل ردّ نفسه. فالملاحظة والعناية الكهنوتية ضرورية للتمكن من تحديد مرحلة الْبَرَص، ومدى انتشاره. الْبَرَص الذي هو رمز مُميَّز للخطية في صورتها الواضحة. ولكن شَرِيعَةَ الأَبْرَصِ تقول: «إِنْ كَانَ الْبَرَصُ قَدْ أَفْرَخَ فِي الْجِلْدِ، وَغَطَّى الْبَرَصُ كُلَّ جِلْدِ الْمَضْرُوبِ مِنْ رَأْسِهِ إِلَى قَدَمَيْهِ حَسَبَ كُلِّ مَا تَرَاهُ عَيْنَا الْكَاهِنِ، وَرَأَى الْكَاهِنُ وَإِذَا الْبَرَصُ قَدْ غَطَّى كُلَّ جِسْمِهِ، يَحْكُمُ بِطَهَارَةِ الْمَضْرُوبِ. كُلُّهُ قَدِ ابْيَضَّ. إِنَّهُ طَاهِرٌ» (لا١٣: ١٢، ١٣). وعندما يُغَطَّى الْبَرَصُ كل جِلْدِ الأَبْرَصِ تمامًا، فالدرس المطابق هو أن الشخص المعزول لا يتوقع أي شيء من نفسه، ويعلم أن ليس شيء صالح يسكن في جسده (رو٧: ١٨). وبكلمات أخرى يمكن ملاحظة عمل الندم والتوبة فيه. وطالما حدث ذلك يمكن للشخص المعنى أن تُردّ نفسه، ويُعاد إلى مكانه الأول بين المؤمنين.

بعد سبعة أيام سُمح لمريم أن تعود إلى الْمَحَلَّةِ، فقد قال الرب: «تُحْجَزُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ**، وَبَعْدَ ذلِكَ تُرْجَعُ» (ع١٤)، وهكذا اُرْجِعَت مريم (ع١٤). فهذا مثال واضح لشخص معزول، لكن أيضًا لردّ نفس المُخطئ. لا يمكننا التعامل باستخفاف مع الخطية. فالله يريد تطبيق التأديب، لكن في الوقت ذاته - في نعمته - يريد أن يُعد الطريق لإستعادة تامة. كان على مريم أن تبقى سبعة أيام خارج المحلة، قبل أن يُسمح لها بالدخول أيضًا. لكن من المذهل أن نقرأ أن الشعب في الْمَحَلَّةِ انتظر سبعة أيام حتى انضمت إليهم: «وَلَمْ يَرْتَحِلِ الشَّعْبُ حَتَّى أُرْجِعَتْ مَرْيَمُ» (ع١٥). لقد انتظرت خارجًا، كما انتظر الشعب في الداخل، حتى تم عمل رد النفس!

دعونا أيضًا نلاحظ توَّجه موسى الذي نتعلَّم منه الكثير. بلا شك أن موسى حزن بسبب خطية مريم وهارون. من المؤكد أن هارون - باعتباره الأخ الأكبر - كان يعرف أكثر من مريم، لكنه أيضًا لعب دورًا مشينًا في قصة العِجل الذهبي. فماذا إذًا كان رد فعل موسى تجاه عمل التمرد هذا ضد سلطانه، كرجل الله؟ ظل صامتًا، وسلَّم لمَن يقضي بعدل (١بط٢: ٢٣). فقط نقرأ عنه: «وَأَمَّا الرَّجُلُ مُوسَى فَكَانَ حَلِيمًا جِدًّا أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ» (ع٣).

بالطبع، لم يكن موسى بالطبيعة حليمًا متواضعًا، لكنه تعلم هذا الاتضاع في مدرسة الله. كان بالطبيعة رجلاً حاد الطبع، «فَقَتَلَ الْمِصْرِيَّ وَطَمَرَهُ فِي الرَّمْلِ» (خر٢: ١٢). وحتى في شيخوخته ثارت حدته مرة أخرى، عندما في سخطه على الشعب المتمرد، ضرب الصخرة بدلًا من أن يُكلّمها (عد٢٠: ٨-١٢). غير أن موسى هنا يُذكرنا بمن قال لتلاميذه: «تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ» (مت١١: ٢٩). كتلاميذ المسيح، وكمُتعلِّمين ننمو في مدرسته، علينا أن نسلك هكذا عندما نتعرض للافتراء.

هكذا ينبغي أن يكون توجهنا الشخصي، بالرغم من أنه في هذه الحالة هناك مسؤولية عامة على الكنيسة حسب متى ١٨: ١٥-٢٠. بل حتى هنا نرى أن موسى يصلي من أجل أخته من منطلق أن يرد نفسها: «فَصَرَخَ مُوسَى إِلَى الرَّبِّ قَائِلاً: اللّهُمَّ اشْفِهَا» (ع١٣).

دروس نبوية

نحن نرى موسى هنا كرمز للمسيح الذي صلى من أجل أعدائه، وحتى من أجل الذين قاوموه وسخروا منه: «يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ» (لو٢٣: ٣٤). تمامًا كما رُدت مريم على أساس شفاعة موسى، هكذا أُظهِرَت الرحمة لشعب إسرائيل، بسبب صلاة المسيح على الصليب. وفي سفر الأعمال نرى كيف أظهر طريق الخلاص ورد النفس لإسرائيل «وَالآنَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنَا أَعْلَمُ أَنَّكُمْ بِجَهَالَةٍ عَمِلْتُمْ، كَمَا رُؤَسَاؤُكُمْ أَيْضًا» (أع ٣: ١٧).

لكن هناك المزيد من الدروس النبوية في هذه القصة؛ كان موسى رمز للمسيح كالنبي العظيم، والرسول والمُعلِّم لشعبه (تث١٨: ١٥؛ يو٥: ٤٦؛ أع٣: ٢٢؛ عب٣: ١- ٦). حسنٌ، إن كان موسى رمز للمسيح فماذا يقول لنا زواجه من امرأة أجنبية؟ الإجابة واضحة: لقد اتخذ المسيح عروسًا أممية. زوجة موسى الكوشية كانت غريبة- لم تكن تنتمي لشعب الله، إلا أن تلك المرأة الأممية صارت عروسًا لموسى. وبالمثل الكنيسة التي هي الآن عروس المسيح، تتكون بالأكثر من مؤمنين من الأمم. ويُمكننا أيضًا أن نرى صفورة كرمز للكنيسة، وبالمثل أيضًا ”أَسْنَاتَ بِنْتَ فُوطِي“ زوجة يوسف المصرية. إن نعمة الله ومحبته التي ظهرت في المسيح، لم يكن مُمكنًا أن تُحد لليهود. وقلب الإنجيل هو أن جميع الناس متساوون أمام الله؛ جميعهم خطاة، لكن الله يريد أن يمنح نعمته للكل. فاليهود والأمم متشابهون «أَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتًا بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا» (أف٢: ١)، والله أحيانا معًا مع المسيح، وخلق إنسانًا جديدًا من الاثنين. هذه هي الكنيسة جسد وعروس المسيح، مسكن الله بالروح.

هذه النعمة التي أُظهرت للأمم أحدثت تصدعًا مع شعب إسرائيل تمامًا كما كسرت محبة موسى لعروسه الأممية – مؤقتًا - الروابط التي بينه وبين مريم. لقد رُفض المسيح من خاصته، أقربائه حسب الجسد (يو١: ١١). كان عليه أن يتحمل هذه العداوة من الخطاة (عب١٢: ٣)، لكنه تحملها بوداعة وصبر. لقد تصرف تمامًا كموسى الذي نحى نفسه بعيدًا عن مقاومة أقربائه، وترك الأمر في يد الله. إن رفض إسرائيل لعبد يهوه الكامل، نتج عنه تنحية الأمة جانبًا، كما فعل تمرد مريم على موسى، الذي كان عبد الرب (ع٨)، الأمر الذي أدى إلى عزلها خارج المحلة. بسبب رفضهم المسيا رفض الله – مؤقتًا - إسرائيل كشعبه، فمد يده الآن للأمم، وارتبط الرب يسوع بروابط المحبة مع عروسه الأممية.

في هذه المسألة التي بين مريم وموسى نطق الله بنفسه بالحكم. وبسبب خطيتها أُخرجت خارجًا لفترة زمنية. كذلك صارت إسرائيل ”لُوعَمِّي ... لَسْتُمْ شَعْبِي“ (هو١: ٩). وكما ارتفعت سحابة حضور الله عن الخيمة عندما تكلَّم مع هارون ومريم (ع٩، ١٠)، هكذا احتجب الله عن شعبه. لقد ترك مجد الرب شعب إسرائيل ليعود فقط عند بداية ملك السلام (حز٤٣). فحُجزت مريم خارج الْمَحَلَّةِ، خارج مكان البركة في حضور الله. بالمثل جاء الغضب على إسرائيل كشعب متمرد، وبركة حضور الله توجد الآن في وسط الكنيسة.

«فَحُجِزَتْ مَرْيَمُ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، وَلَمْ يَرْتَحِلِ الشَّعْبُ حَتَّى (إِلَى أَنْ - until) أُرْجِعَتْ مَرْيَمُ» (ع١٥). لكن هناك ”إِلَى أَنْ - until“ مجيدة وكريمة أخرى «فَإِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْهَلُوا هذَا السِّرَّ، لِئَلاَّ تَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ حُكَمَاءَ: أَنَّ الْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيًّا لإِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ مِلْؤُ الأُمَمِ، وَهكَذَا سَيَخْلُصُ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ» (رو١١: ٢٥، ٢٦). فرفض إسرائيل ليس نهائيًا وقصة خطية مريم لم تنتهِ برسالة حزينة عن استبعاد مريم، بل باستعادتها. كان ممكن لغضب الله أن ينصب صرفًا على إسرائيل، أي نهائيًا، إلا أنه منعم، وحتى في غضبه يذكر الرحمة (١تس٢: ١٦؛ حب٣: ٢). فهو يحدد مدى وقياس معاناة إسرائيل، كما حدد أيضًا مدة ”السبعة أيام“ لاحتجاز مريم. وسيكون رحيمًا بإسرائيل، ويُعزي شعبه، عندما ينتهي جهاده ويعفو عن إثمه (إش٤٠: ١، ٢). هذه القصة الحزينة إذًا لها نهاية سعيدة. وكما أُرجعت مريم (ع١٤)، وطهرت من برصها، كذلك إسرائيل سيعود ثانية كشعب الله، بعد اختطاف الكنيسة، ويُطهَّر من كل فجوره.

كان الرسول بولس الذي قاسى كثيرًا من اليهود، إذ بشر بإنجيل نعمة الله للأمم، هو من كشف لنا السر الإلهي لرجوع إسرائيل «أَنَّ الْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيًّا لإِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ مِلْؤُ الأُمَمِ، وَهكَذَا سَيَخْلُصُ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ» (رو١١: ٢٥-٢٧). في هذه الفقرة نجد ”إِلَى أَنْ - until“ المُنعِمَة، وهو ذكر لوقت حدَّده الله، فيه يستعيد نصيب شعبه.

وكما أن الرب - كمن يشفي شعبه - تصرف لصالح مريم وشفاها، هكذا سيُنقذ شعبه الأرضي، في يوم قادم، وسيُخلّصهم، ليس فقط من أعدائهم الذين يضايقونهم من الخارج، بل أيضًا من خطاياهم التي تُذنّبهم داخليًا. لقد نزع الْبَرَص عن مريم، وهكذا سينزع الفجور عن يعقوب، وسيقبل شعبه؛ سيُقيمهم روحيًا من الموت إلى الحياة. إن رفض إسرائيل يعني مصالحة الأمم، لأن الله مدَّ يده لكل البشرية، ووصّل كلمة المصالحة لكل من اليهود والأمم. «لأَنَّهُ إِنْ كَانَ رَفْضُهُمْ هُوَ مُصَالَحَةَ الْعَالَمِ، فَمَاذَا يَكُونُ اقْتِبَالُهُمْ إِلاَّ حَيَاةً مِنَ الأَمْوَاتِ؟» (رو١١: ١٥)؟ ومثلما قُبِلَت مريم ثانية إلى الْمَحَلَّةِ كإنسانة طاهرة، هكذا ستُقبل إسرائيل أيضًا من الله كأمة قد أقيمت من سبات موتها، وطهرت من المرض الذي وسمها «فَلاَ تَكُنْ كَالْمَيْتِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ رَحِمِ أُمِّهِ قَدْ أُكِلَ نِصْفُ لَحْمِهِ» (ع١٢).

يُذكَر عن مريم «تُحْجَزُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ، وَبَعْدَ ذلِكَ تُرْجَعُ» (ع١٤)؛ والمعنى الأصلي لكلمة ”تُرْجَعُ“ هو ”تُجمَع“ أو ”تُضم“، وهو أيضًا معنى كلمة ”اقْتِبَالُهُمْ“ في رومية١١: ١٥. سيجمع الله الشعب لنفسه مرة ثانية، الأمة التي كان عليه أن يشيح بوجهه عنها، لفترة زمنية معينة، سيأتي بهم أيضًا إلى مكان البركة في محضره، وهو ما يعني بداية جديدة، صحوة روحية: حياة من الموت (حز٣٧).

دعونا الآن كجزء من الكنيسة، أن نسهر حتى لا نقع في ذات الخطأ، ونتمرد على المسيح موسانا العظيم. إن مقاومة كل من سلطانه وكلمته وروحه هي سمات الأيام الأخيرة التي ستأتي حتمًا بدينونة الله (رسالة يهوذا).

بوتر


* يرى بعض المفسرين أن المرأة الكوشية التي تزوجها موسى هي بعينها صفورة بنت كاهن مديان. فصفورة، بعد حادث المنزل (انظر خروج ٤)، صرفها موسى إلى بيت أبيها، وظلت هناك حتى تلك اللحظة (خر ١٨: ١- ١٢)، الأمر الذي أثار غيرة مريم منها. وليس غريبًا أن المديانية تدعى كوشية، والعكس، فمن كلمة الله نعرف أن هناك علاقة وثيقة بين كوش ومديان (انظر حب ٣: ٧). (المجلة)

** كانت الْمَحَلَّةِ مكان سكنى شعب الله كما يراها الله. كان في وسطهم كالقدوس البار، وخيَّموا حول مُقدَّس الله كشعب مُقدَّس ومُبرَّر. بمجرد أن تنجست الْمَحَلَّةُ بالأوثان، كان مكان الأمناء - مع موسى - هو «خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ الَّتِي خَارِجَ الْمَحَلَّةِ» (خر٣٣: ٧). وبالمثل بعد رفض المسيح، كان مكان المؤمنين العبرانيين مع ربهم «خَارِجَ الْمَحَلَّةِ» (عب١٣: ١٣).