أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يونيو السنة 2008
ومن فم الرب لم يسألوا - ومن فم الرب لم يسألوا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

تأملنا داود في الحلقات السابقة وهو يسأل الرب في سبع مناسبات، يطلب منه المشورة والحكمة، فيتصرف كما يليق برجل الله. لكننا نتحوَّل الآن من هذه الصور المضيئة والرائعة، لنأتي إلى صور أخرى من حياته، حيث نجده للأسف يستبدل الرب كالمصدر الأوحد لتساؤلاته، والذي منه يأخذ المشورة والرأي، بمصادر لا يمكن بأي حال أن تؤتمن، ويوثق بها. وسوف نتحدث عن ثلاثة مواقف لداود، لم يسأل فيها الرب: مرة خاطب قلبه، ومرة شاور قواده والرؤساء، ومرة ثالثة تكلَّم مع نبي الرب ناثان.

 (1)

 وقال داود في قلبه: إنِّي سأهلك يومًا بيد شاول، فلا شيء خيرٌ لي من أن أفلت إلى أرض الفلسطينيين، فييأس شاول مني، فلا يُفتِّش عليَّ بعد في جميع تخوم إسرائيل، فأنجو منه (1صم27: 1)

 ها نحن أمام أُولى مواقف داود حينما تحوَّل عن الرب. وها نحن نراه يستعيض عن الرب بقلبه. وما أخطر النتائج التي تترتب على ذلك، فمتى كان القلب يؤتمن ويُوثق به؟ ماذا يقول إرميا النبي عن القلب؟ «القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس من يعرفه» (إر17: 9). فليس هناك ما هو أخدع من القلب. والعجيب أنَّنا نرى أنْ ليس داود وحده الذي خاطب قلبه، بل نجد ابنه سليمان يسير في ذات الدَّرب، وكأنَّه أراد أن يتشبَّه بأبيه، فنجده في أكثر من مرة في سفر الجامعة يُخاطب قلبه (جا2: 1، 3؛ 3: 17، 18؛ 9: 1).

 ودعونا نقترب من داود، ونستمع إلى حُجته التي على أساسها اتَّخذ قراره في الذهاب إلى أرض الفلسطينيين.

 "إنِّي سأهلك يومًا بيد شاول": إن هذا القول في حدّ ذاته مغلوط. وكان حريٌّ بداود أن يفطن لذلك، فهل حقًّا سيموت يومًا بيد شاول؟ ألم يمسحه صموئيل، بحسب أمر الرب ملكًا على إسرائيل؟ فهل يمكن أن يموت دون أن يُحقِّق الرب ما قصده له في أن يملك؟ ألم يقرأ كلمات الرب التي نطق بها على فم بلعام: «ليس الله إنسانًا فيكذب. ولا ابن إنسان فيندم. هل يقول ولا يفعل؟ أو يتكلَّم ولا يفي؟» (عد23: 19). ألا يتذكَّر ما قاله له يوناثان بن شاول، والذي يُعتبر ولي العهد، والذي كان شاول ينتظر أن يخلفه في المُلك (1صم20: 30، 31)، عندما تقابل معه سرَّا من وراء أبيه، وشدَّد يده بالله قائلاً له: «لا تخف، لأنَّ يد شاول أبي لا تجدك، وأنت تملك على إسرائيل، وأنا أكون لك ثانيًا، وشاول أبي أيضًا يعلم ذلك» (1صم23: 17). أولم يُقر شاول نفسه بهذه الحقيقة على مسمع منه، واعترف قائلاً: «الآن علمت أنَّك تكون ملكًا وتثبُت بيدك مملكة إسرائيل» (1صم24: 20)؟ أوليس هذا ما أكَّدته له أيضًا أبيجايل، تلك المرأة الحكيمة، حينما لاقته لتردَّ غضبه على زوجها نابال، وتمنعه من أن ينتقم لنفسه، قائلةً له: «لأنَّ الرب يصنع لسيدي بيتًا أمينًا ... ويكون عندما يصنع الرب لسيدي حسب كل ما تكلَّم به من الخير، من أجلك، ويُقيمك رئيسًا على إسرائيل، أنَّه لا تكون لك هذه مصدمة ومعثرة قلبٍ لسيدي، أنَّك سفكت دمًا عفوًا أو أنَّ سيدي قد انتقم لنفسه» (1صم25: 28، 30، 31). وهذا ما تأكَّد فعلاً لداود بالبرهان العملي، ففي أكثر من مناسبة حاول شاول أن يُمسك به، لكن ما مِن مرَّة نجح في ذلك، وهكذا يأتي التقرير الإلهي: «وكان شاول يطلبه كل الأيام ولكن لم يدفعه الله ليده» (1صم23: 14). فهل بعد كل هذا يقول داود في قلبه: «إني سأهلك يومًا بيد شاول»؟! ويا للعجب من القرار الذي اتَّخذة نتيجة لفكره الخاطئ هذا!

 "فلا شيء خيرٌ لي من أن أفلت إلى أرض الفلسطينيين". يا له من قرار مخزٍ ومخجل! هل يجوز لصاحب الانتصار العظيم على ذلك الجبَّار الفلسطيني؛ جليات، أن يلجأ إلى الفلسطينيين، ليحفظ حياته من الموت؟!

 هل يجوز لمن غنَّت له النساء: «ضرب ... داود ربواته» (1صم18: 7)، أن يطلب الأمان لنفسه وسط أعداء شعب الرب؟! وهل حقًّا هناك خيرٌ يمكن لداود أن يرجوه في أرض الغُلف؟!

 ويا للأسف، فهكذا اتَّخذ داود قراره، وهكذا ذهب هو ورجاله إلى أخيش ملك جت يلتمس منه موضعًا يسكن فيه، هو ومن معه، قائلاً له: "إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك، فليعطوني مكانًا في إحدى قرى الحقل فأسكن هناك ... فأعطاه أخيش في ذلك اليوم صِقلغ» (1صم27: 5، 6).

 أيمكن أن ينحدر داود إلى هذه الدرجة؟ أيمكن أنَّ الممسوح ملكًا من الرب يستجدي من أخيش الأغلف، مجرَّد قرية يمنّ بها عليه ملك جت ليسكن فيها؟ ولكن هذه هي النتيجة الطبيعة لمن يخاطب قلبه.

 وما هو تاريخ صِقلغ حسب ما تُعلمنا كلمة الله؟ عندما قَسَم يشوع الأرض على الأسباط كانت صقلغ من نصيب سبط يهوذا (يش15: 1، 31). وحيث إن قضاء الرب على سبط شمعون أن يكون متفرقًا وسط الأسباط (تك49: 5-7)، فلقد صارت صقلغ ضمن نصيبه من بين المدن التي أخذها من سبط يهوذا (يش19: 1، 5). غير أنَّه لضعف حالة الشعب ها نحن نرى صقلغ في أيام حكم شاول الملك تحت يد الفلسطينيين، وعندما نعرف أن داود من سبط يهوذا (تك38: 29؛ را4: 18-22)، وأنَّ صقلغ هي من نصيب سبط يهوذا كما قصد الرب، فكم هو أمر مخزٍ جدًّا أن يستجدي داود من أخيش ما كان من حقِّه أن يمتلكه شرعًا من الله؟!

 ودعنا نتعرَّف على حال داود وهو ساكن في صِقلغ:

 • نرى داود مسيح الرب، محط أنظار الشعب، مخلِّص إسرائيل، ومن يطلب على الدوام سلامتهم وأمنهم، قد صار ”رئيس غزاة“، وبتعبير أيامنا الحاضرة ”رئيس عصابة“، لا عمل له سوى السطو والنهب على كل من هم حوله!!

 • نرى داود، مرنم إسرائيل الحلو، رجل الشركة، مُخادعًا وكاذبًا، بل ودمويَّا، قاسيَّا!! فكان عندما يصعد هو ورجاله ليغزو، كان يختار الشعوب الوثنية: الجشوريين والجرزيين والعمالقة، لكن عندما كان يسأله أخيش عن الأماكن التي غزاها كان يدَّعي كذبًا أنه غزا جنوبي يهوذا، وبذلك يؤكد لأخيش أنَّه لم يعد له ولاء لشعبه، وأنه صار مكروهًا منهم، ولكي يُثبِّت كَذبه، كان عندما يغزو تلك الشعوب الأممية لا يستبقي منهم أحدًا، كان يقتل كل إنسان، حتى لا يذهب أحدٌ منهم ويُخبر أخيش (راجع1صموئيل 27: 8-12)؟!

 • نرى مسيح الرب، المُكرَّم في عيني الرب، يقول عنه أخيش بكل تبجّح وغطرسة: ”يكون لي عبدًا إلى الأبد“ (1صم27: 12).

 • نرى قاتل جليات، والذي قطع رأسه، مُمسكًا بها في يده، يقول أخيش له: ”أجعلك حارسًا لرأسي كل الأيام“ (1صم28: 2).

 • نرى من قالت عنه أبيجايل: «لأنَّ سيِّدي يُحارب حروب الرب» (1صم25: 28)، كاد أن يتوَّرط ويحارب شعب الرب، فعندما قال له أخيش: «اعلم يقينًا أنَّك ستخرج معي في الجيش أنت ورجالك»، نسمعه يُجيب بكل خنوع ورياء: «لذلك أنت ستعلم ما يفعل عبدك» (1صم28: 1، 2), لولا تدخُّل الرب، الذي جعل أقطاب الفلسطينيين يرفضون وجوده وسطهم (1صم29: 3-7)، بل عندما أخبره أخيش عن رفض أقطاب الفلسطينيين أن يحارب معهم، نسمعه يقول لأخيش كلمات ما كنا نود أن تخرج من رجل كداود: «فماذا فعلت؟ وماذا وجدت في عبدك من يوم صرت أمامك إلى اليوم حتَّى لا آتي وأحارب أعداء سيدي الملك؟» (1صم29: 8)!! أهكذا يُمكن للقلب أن يفعل بصاحبه عندما يلتمس منه المشورة عوضًا عن الرب. ليتنا نُدرك يقينًا أنَّ الرب، والرب وحده هو الذي نأخذ منه كل مشورة ورأي. يتبع

عاطف إبراهيم