أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد ديسمبر السنة 2005
أسئلة أيوب الثلاثه والإجابات عليها
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

السؤال الأول

«لماذا أخرجتني من الرحم ؟» (أو ”لماذا ولدت“ حسب ترجمة داربي) (أيوب10: 18).

 كان أول سؤال لأيوب : لماذا أعطاني الله حياة، ثم يصيبني بهذه الآلام الآن؟ وهي لغة الإنسان الطبيعي في تمرده ضد خالقه. وهو يحاج الله كأنه يريد أن يعلِّمه (انظر أيوب 2:40). وهو يلعن الماضي، ويسب الحاضر، وقد فقد كل أمل في المستقبل، كما حدث مع إرميا (إر20: 14-18 )، فهو لا ينوح على آلامه فقط، بل يتحسر على وجوده نفسه . فيا لها من حالة محزنه!

 ولكن كل من أيوب وإرميا كانا من رجال الله الأمناء المكرسين . فكيف نسيا وضعهما؟ وماذا دفع بهما إلى اليأس من قوة الله وصلاحه ولو للحظة من الزمن؟

 أولاً: هذان الرجلان مرا بامتحان غير عادي للنفس. وبدا لهما أن كل البركات قد تحولت إلى لعنات، وبدلاً من أن يسمعا كلمات التعزية والتعاطف، انهالت عليهما كلمات التوبيخ والتعيير. فأعز الأصدقاء قد حجبوا عنهما تعاطف المحبة، بل الأسوأ من هذا أنهما هما نفسهما لم يعودا يفهمان لماذا يتعرضان للألم، وخفي عن عيونهما الهدف منه والفائدة من ورائه. وانتهيا إلى الاستنتاج، كما حدث مع ”آساف“ في مزمور 13:73 «حقًا قد زكيت قلبي باطلاً، وغسلت بالنقاوة يَدَيَّ»، وقالا مع الحكيم، وأنظارهما إلى ظاهر الأشياء فقط: ”الكل باطل“. والسبب الأصلي لهذا اليأس له جذور أعمق. فلو أن المخلوق لم يبتعد منذ البداية عن خالقه، لما وصل إلى هذه النتيجة المحزنة، وهي أن يلعن وجوده. وحقيقة أن رجلين مثل أيوب وإرميا بلغت بهما الجرأة أن يلعنا يوم مولدهما، إنما يبرهن على مقدار ابتعاد الإنسان عن الله. فطالما تسير الأمور على ما يرام، لا يظهر تمرد القلب البشري ونكرانه، ولكن التجارب هي التي تظهرها. ولذلك فإن الصعوبات والامتحانات نافعة وضرورية، ليس لكي يكشف الله عما في قلب الإنسان (فكل خفايا القلب مكشوفة لديه، وكل ما يخرج من هذا القلب لا يزيد علمه)، بل لكي يعرف الإنسان نفسه. فحسب الطبيعة، كما سبق أن قلنا، الإنسان متمرد على الله، وحتى عند الولادة الجديدة تظل الطبيعة العتيقة تظهر نفسها عند التجربة. وعلى المؤمن ألا يظن أنه يستطيع أن يتحمل التجارب بصورة أفضل مما حدث مع أيوب، ونجد في كلمة الله التحذير: «من يظن أنه قائم، فلينظر أن لا يسقط» (1كو12:10).

 ومع أن أيوب في مرارة روحه نطق بكلمات صعبة، فقد آل كل شيء لمجد الله ولبركة عبده. وكثير من الأسئلة التي سألها في كآبته، أصبحت واضحة له أثناء محاجته مع الله مدافعًا عن نفسه، وبعض الأسئلة أجاب عليها ”أليهو“، وأجاب الله على البعض منها في الريح العاصفة بأسئلة مضادة.

 وكل سؤال ممكن أن يُسأل بطريقتين، إما باتضاع وبرغبة صادقة في التعلم، أو بتمرد وقح على الإجابة، مهما كانت هذه الإجابة. ففي الحالة الأولى يأخذ السائل مكان المتعلم المخلص، وهذا هو الوضع السليم له؛ أما في الحالة الثانية فهو يفترض مسبقًا أنه ليس هناك إجابة مرضية أو قاطعة. فالإنسان إما أن يتقدم أمام الله بإخلاص وبالصلاة التي علمها ”أليهو“ فيما بعد لأيوب «ما لم أبصره فأرنيه أنت» (أي ”علمني أنت إياه“ - حسب ترجمة داربي) (أي 34: 32)؛ أو يسأل في تمرد: ”لماذا تسير الأمور دائمًا بعكس المفروض أن تكون؟“.

 والذي لا يريد أن يجلس عند أقدام السيد ويقول: ”أسألك فتعلمني“، يأخذ مكان القاضي الذي يُحاسب الله. وهنا يقول الوعاء للفخاري: ”ماذا صنعت؟“، ومع أنه سؤال أحمق، نجده يتردد كثيرًا على ألسنة بني آدم، جيل المرتدين (الناسين الله). وأسئلة ”النقد العالي“ المزعوم، التي أضرت بالمسيحية أكبر ضرر، تندرج كلها تحت الطريقة الأخيرة. وفي أيامنا هذه، عندما يفتح روح الاستقلال الباب إلى كل المجالات، ويرغب جميع الناس أن يكونوا أحرارًا أن يفكروا ويتصرفوا على هواهم ، يتفشى هذا الخطأ الجسيم في العالم كله. والمؤمنون أنفسهم يجب أن ينتبهوا لئلا يتأثروا بروح العصر. كما أنه ليس هناك جديد تحت الشمس. وفي الحقيقة، أن الرجال في أيام أيوب كان عليهم أن يحلوا نفس المشكلات التي تشغلنا إليوم، فقط مع هذا الفارق الكبير، هو أن مشورة الله اليوم قد كُشِفت بوضوح أكثر عما كانت عليه من قبل. ربما كان هناك عذر لأيوب أن يتحاجج مع الله، ولكن بالنسبة للدارس المسيحي الذي يمتلك كلمة الله كامله، فإنه أمر رهيب أن يشكك في حكمة الله ورعايته المحبة.

 وكان أول الأسئلة الكبرى لأيوب يتضمن الشك في هدف الله من وجود الإنسان، وينسحب هذا أيضًا على حكمة الخالق. وهذه إهانة موجهه إلى الله نفسه، يجيب عليها في نهاية السفر، بسلسلة من الأسئلة المضادة. عندئذ يخضع أيوب، وتجد أسئلته التي تعذبه إجابات مرضية في قدرة الله وصلاحه. ولكن بالنسبة إلى الإنسان الذي بدون إله وبدون مُخلص، ليس هناك فعلاً إجابة كافية على سؤال أيوب: «لماذا أخرجتني من الرحم؟» (لماذا ولدت ؟)

فما هو معنى الكلمات الرهيبة التي نطق بها الرب يسوع بالنسبة للخائن يهوذا «خير لذلك الإنسان لو لم يولد»، بالنسبة للملايين الذين سلكوا نفس مساره؟ وهل المجدفون والمستهزئون مثل ”توم باين“ و ”فولتير“ وغيرهم في مكان العذاب سيظلون يلعنون يوم مولدهم طوال الأبدية؟ نعم، بالتأكيد، فالذي لم يخضع لحكم الله، ويقبل المسيح فاديًا له، لن يصله النور أبدًا عن قصد الله في وجود الإنسان وعن الخليقة كلها. وفقط عند ”أزمنة رد كل شيء“ (أع3: 21)، التي وعد بها الله، والتي تتحقق على أساس الصليب، ستحل مشكلة الألم التي نعاني منها اليوم. وفقط عندما تعتق الخليقة من عبودية الفساد (رو8: 21)، ستوجد الإجابة الكافية على كل الأسئلة. وقد كُشفت لأيوب بشكل مجازي في اختباره.

 إلا إنه في العهد الجديد فقط، كشف الله عن خطته للإنسان. وفقط منذ أن نزل الروح القدس من السماء، فقد كشف للأمم عن طريق ما كتبه الرسول أن «آلام الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا». وفي زماننا فقط، أعلن لمن يسمع ويؤمن، أننا أصبحنا - طبقًا لمشورة الله - ورثه لمجده بالمسيح يسوع. والروح القدس، الذي يسمى أيضًا روح الموعد القدوس، هو عربون ميراثنا (أف1: 14،13).

 ولذلك فبصيرة المسيحي لا يمكن أن تكون مظلمة كنظرة أيوب. لقد رأى أيوب من بعيد فقط، وتلمس طريقه في الظلام، ولكننا نحن صرنا قريبين لله في المسيح، ونسير في النور، ألا ينبغي علينا إذًا، بمقدار هذا، أن نقي أنفسنا من تبني أفكار التشكيك، ومن الجدل بروح الكبرياء مع الله القدير والحكيم. حقًا، يمكننا أن نسأل بكل تواضع عن الهدف من حياتنا، ولكن لنحترص من روح التمرد ومن لغة الكبرياء والصلف.

 ومن الجيد أيضًا للمؤمن أن يذكر نفسه كل يوم بالهدف الأسمى لحياته، وعندما يفعل ذلك في روح الشركة مع الرب، يستطيع أن يصل إلى نقطة ”الافتخار في الضيق“.

 ولكن عندما يلعن الإنسان الشرير وجوده بسبب عدم تمكنه من التمتع بغرور الأرضيات، أو عندما يفقد المسيحي الاسمي - في وقت التجربة - إيمانه الظاهري، ويجادل الله، عندئذ يضيف التمرد إلى خطاياه. فروح الاستقلال تتطور إلى تمرد مُعلن، وحالته الفكرية التي كانت مخفاة سابقًا تُظهر نفسها في الأفعال.

 ليت الرب يمنح كل ابن لله أن يضع الهدف من حياته وغاية مسيرته أمام عينيه دائمًا، لكي ينجو من جرأة أيوب في محاجاته مع العلي. وإذا كان هناك واحد من القراء لم يقبل بعد إجابة الله على سؤال أيوب، فليطرح عنه عدم المبالاة ويهرب من زمرة المتمردين العصاة قبل أن يفوت الأوان. لا تسعى للحصول على الإجابة بكبرياء المتمرد، ولا بعناد المتشكك، بل بقلب خاضع متواضع. عندئذ فقط في معرفة المسيح ستجد الراحة لنفسك.

 (يُتبَع)

هـ.ل.روسييه