أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يوليو السنة 2009
الابن الضال
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

وصلنا في تأملنا في مثل الابن الضال إلى اللقاء العجيب الذي تم بين الأب وابنه، وكيف ركض الأب لاستقبال ابنه الراجع، وكيف ووقع على عنق ابنه وقبله، وكيف قال لعبيدة أخرجوا الحُلة الأولى وألبسوه، واجعلوا خاتمًا في يده.  ونواصل في هذا العدد بقية المثل الجميل الذي ذكره الرب في لوقا 15الحذاء الذي أُعطي لرجليه:

«وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ» (ع22).

ها نحن مرة أخرى مُرغمين على القول، بأن هذا المثل المُصوَّر كاملٌ بطريقة بديعة.  فهنا نرى تسديد لكل احتياج المؤمن. «قُبْلاَت» المصالحة لتؤكد له الترحيب الحبي؛ «الْحُلَّةَ الأُولَى» بدل ثيابه الرثة؛ «الخَاتَم» الذي وُضع على يده يشهد أنه ينتمي لتلك العائلة الكريمة، ويدل على أن عمله من الآن فصاعدًا يجب أن يكون منضبطًا بقوة الروح القدس. والآن «حِذَاءً» لرجليه يتكلم عن إمداد الله للسلوك اليومي.

عندما أخذ موسى التعليمات بخصوص الاستعداد للفصح، قال الرب: «وَهَكَذَا تَأْكُلُونَهُ: أَحْقَاؤُكُمْ مَشْدُودَةٌ وَأَحْذِيَتُكُمْ فِي أَرْجُلِكُمْ، وَعِصِيُّكُمْ فِي أَيْدِيكُمْ» (خر12: 11).  فهم لم يكونوا مستعدين ليبدأوا رحلتهم إلى أن أصبحت «أَحْذِيَتهم» في أرجلهم.  ويا لها من عاقبة جميلة! فبعد أربعين سنة ذكَّرهم موسى بأن الرب سار بهم في البرية حتى أنه: «لمْ تَبْل ثِيَابُكُمْ عَليْكُمْ، وَنَعْلُكَ لمْ تَبْل عَلى رِجْلِكَ» (تث29: 5). وأيضًا عندما أرسل الرب الاثني عشر أوصاهم أن «يَكُونُوا مَشْدُودِينَ بِنِعَالٍ» (مر6: 9). وفي أفسس 6 حيث يحث الرسول المؤمنين أن يلبسوا «سلاح الله الكامل» تأتي إحدى المواصفات: «حَاذِينَ أَرْجُلَكُمْ بِاسْتِعْدَادِ إِنْجِيلِ السَّلاَمِ».  فلن نكون مستعدين للذهاب بإنجيل نعمة الله للعالم الهالك قبل أن تحتذي أرجلنا. وكم هو جميل أن نفارق بين هاتين الآيتين: «أَرْجُلُهُمْ (الأشرار) إِلَى الشَّرِّ تَجْرِي، وَتُسْرِعُ إِلَى سَفْكِ الدَّمِ الزَّكِيِّ» (إش59: 7)؛ «مَا أَجْمَلَ عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَيِ الْمُبَشِّرِ الْمُخْبِرِ بِالسَّلاَمِ، الْمُبَشِّرِ بِالْخَيْرِ، الْمُخْبِرِ بِالْخَلاَصِ» (إش52: 7).

العجل المسمن ذُبح وأُكل:

«قَدِّمُوا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ وَاذْبَحُوهُ، فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ» (ع23).

يجب أن نلاحظ أولاً الفرق بين كلمات الأب بالارتباط بالحلة الأولى، وهنا بالارتباط بالْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ. في المرة الأولى كانت كلمة: ”أَخْرِجُوا“ (bring forth)، والتي توضح أن الابن الضال كان خارجًا.  ولكن الآن بعدما ارتدى الحلة الأولى، وأصبح لائقًا لحضرة الأب – في هذا يقول الرسول: «شاكرين الآب الذي أهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِي النُّور» (كو1: 12) - فهو الآن داخل بيت الأب فتأتي كلمات الأب «قَدِّمُوا» (bring hither).  يا لها من دقة رائعة!

«الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ» يتكلم عن المسيح نفسه في كل سجاياه، وهو أيضًا أُعطي بواسطة الآب.  ويُكلّمنا ذبح الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ عن موت المخلص عنَّا، حتى يتسنى للخطاة أن يتصالحوا مع إله قدوس. ولكن «الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ» لم يكن يُذبح فقط، بل كان أيضًا يُؤكل مثل خروف الفصح، والأكل هنا يكلمنا عن الشركة.  ولاحظ هنا كلمات الأب، فهو لم يقل “فيأكل” بل «فَنَأْكُلَ». فها الآب مع الخاطئ الذي صولح الآن يأتيان معًا، ويشتركان معًا في ذلك الذي يكلمنا عن المسيح.  فذبيحة المسيح هي أساس شركتنا مع الآب.

الفرح الناتج:

«فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ. لأَنَّ ابْنِي هَذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ. فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ» (ع23، 24).

 يا له من وضع مبارك يفوق الوصف! يا لها من ذروة مجيدة! فها الضال، الآن ابن على مائدة الأب، فأصبح له مكان الآن - ليس بين ”الأجرى“ بل - بين عائلة الأب.  وهم يشتركون معًا في ذلك الذي يُكلّمنا عن المسيح الكامل، الذي ذُبح لأجلنا.  وما هي نتيجة تلك الشركة؟ أ ليس فرح، بهجة قلب لا يعرف عنها شيئًا هذا العالم المسكين.  ولاحظ مرة أخرى صيغة الجمع: فليس فقط «ابتدأ يفرح» أي الابن، بل «فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ».  فالأب وجد مسرته، إذ يتغذى مع أولاده على المسيح الابن!

وهو فعلاً مدهش إذا قابلنا المشهد الذي أمامنا الآن في لوقا 15، بمشهد آخر في العهد القديم؛ شاول المرتد وعرافة عين دور (1صم28).  لا يمكننا أن نتخيل تضاد أكثر من هذا!  هناك أيضًا نقرأ عن عِجْل مُسَمَّن يُذبح، ولكن يا له من اختلاف شاسع! «وَكَانَ لِلْمَرْأَةِ عِجْلٌ مُسَمَّنٌ فِي الْبَيْتِ، فَأَسْرَعَتْ وَذَبَحَتْهُ وَأَخَذَتْ دَقِيقًا وَعَجَنَتْهُ وَخَبَزَتْ فَطِيرًا، ثُمَّ قَدَّمَتْهُ أَمَامَ شَاوُلَ وَأَمَامَ عَبْدَيْهِ فَأَكَلُوا. وَقَامُوا وَذَهَبُوا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ» (1صم 28: 24، 25). نعم، إنهم «َأَكَلُوا» ولكن لاحظ أنه لم يُذكَر عنهم شيئًا مرتبطًا بالفرح.  في الحقيقة إنهم يُمثِّلون الجمع الهائل الذي يوجد وسط هؤلاء الذين يعترفون ظاهريًّا بالله متخذين اسم المسيح على شفاههم، ومع أنهم يتخذون شكل الشركة مع الله، إذ يأتون إلى ”مائدة“ عظيمة. ولكنه في النهاية مجرد تظاهر، أداء روتيني. فقلوبهم ليست فيه، ونفوسهم لا تتغذي على المسيح!

لاحظ مفارقة أخرى مدهشة. قيل عن شاول وعن عبديه: «فَأَكَلُوا. وَقَامُوا وَذَهَبُوا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ» (1صم28: 25). فها المعترف الشكلي ”يقوم“ عن المائدة و”يذهب“، تاركًا ذلك الذي يُكلّمنا عن المسيح؛ ذاهبًا بنفس الكآبة والفراغ اللذين جاء بهما؛ ذاهبًا إلى ”الليل“ المظلم الذي لن ينتهي أبدًا!

ولكن ما نقرأه هنا، عن الضال الذي صُولح، مختلف تمامًا! فهو مع أبيه جالسين معًا ليأكلا الْعِجْلَ الْمُسَمَّنَ، و«ابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ»، ويُختم المشهد على هذه الصورة! فلا يقال شيئًا عن ”الذهاب“ ولا هناك أي ذكر لـ ”الليل“.  و«ابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ»، وما هذا الفرح إلا البداية.  مبارك الله، فالفرح لن ينتهي.  معًا مع الآب، نجد فرحنا في المسيح، وسوف نفرح دائمًا وإلى الأبد.

ربما من المناسب الآن أن تكون الكلمات الختامية بخصوص «الابن الأكبر».  قد يبدو غريبًا لنا أن كثيرين وجدوا صعوبة هنا في معرفة مَن هو المقصود بالابن الأكبر؟ جاءت الإجابات كثيرة جدًّا تكاد لا تنتهي، ولكنني شخصيًا مقتنع بأن الابن الأكبر يُمثِّل نفس الفئة التي يُمثلها كل من ”التسعة والتسعين خروفًا“ و”التسعة دراهم“.  وهذا يُصوِّر ”الكتبة والفريسيين“ الذين تذمروا على المخلِّص أنه يقبل خطاة ويأكل معهم (ع2).  فالمثل بأجزائه الثلاثة صُمِّم بواسطة المسيح ليوضح كيف يذهب الله وراء الخاطىء، وما هو النصيب المبارك الذي يحصل عليه الخاطىء منه.  ثم أبرز الفرق بين هذا الخاطىء وهؤلاء الكثيرين الذين - لأنهم يحسبون أنفسهم أبرارًا - يرفضون أن يأخذوا مكان الخاطىء أمامه.  فواجههم في نفس الأرضية التي يزعمونها، ولذلك شبههم بالـ ”خراف“ وبـ ”الابن الأكبر“. ولكن آه على نصيبهم.

في الجزء الأول من المثل، صُوِّر الأبرار في أعين أنفسهم والمحتقرين لنعمة الله كمن تُركوا في البرية (ع4)، بينما في الجزء الأخير من المثل نراه خارج بيت الأب.  وإن كانت هذه الصورة التي رسمها المسيح عن الفريسيين صحيحة ودقيقة من جانب،  إلا أنها مأساوية من الجانب الآخر.

«وَكَانَ ابْنُهُ الأَكْبَرُ فِي الْحَقْلِ. فَلَمَّا جَاءَ وَقَرُبَ مِنَ الْبَيْتِ سَمِعَ صَوْتَ آلاَتِ طَرَبٍ وَرَقْصًا، فَدَعَا وَاحِدًا مِنَ الْغِلْمَانِ وَسَأَلَهُ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟» (ع25، 26). نعم، إنه لا يعرف الفرح الذي لهؤلاء الذين في شركة مع الله.  فهو لا يعرف لماذا هم في هذا الفرح الغامر، ولهذا كان عليه أن يسأل: «مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا؟». وعندما شُرح له، نقرأ عنه: «فَغَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُلَ» (ع28). بل أكثر من ذلك: «فَخَرَجَ أَبُوهُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ. فَقَالَ لأَبِيهِ: هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هَذَا عَدَدُهَا، وَقَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ، وَجَدْيًا لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي» (ع28، 29). لقد تكلم عن ”خدمته“ للأب لأن هذا هو كل ما يعرف.  إنه يفتخر بطاعته، وهو بالتالي اعترف أنه أبعد من يتكلم عن الشركة.  وكم فضح نفسه إذ قال: «وَجَدْيًا لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي»، وليس ”لأفرح معك“!  ولا بد أن تُفسَّر هذه الكلمات الختامية للأصحاح في ضوء السياق كله: «أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ».  هنا وَضَعَ المسيح في فم الابن الأكبر ما كان يفتخر به الفريسيون المتكبرون، ولكن يجب أن نلاحظ بانتباه أن الابن الأكبر طوال الوقت مُصوَّر وهو خارج البيت (انظر ع 28 بالأخص).

ولكن دع كلماتنا الأخيرة تكون عن ”الضال“.  ما أبرز الاختلاف بين حالته الأولى وحالته وهو مع أبيه، إذ نراه في الحالة الأولى: «ابْتَدَأَ يَحْتَاجُ» (ع14)، أما مع أبيه «فَابْتَدَأُوا يَفْرَحُونَ» (ع24)!

والآن عزيزي القاري، هل هذا مفهوم لك، أم كنت أتكلم بلغة غير معروفة؟! هل شعرت بالجوع الشديد الذي في هذا العالم؟ هل بدأت تحتاج؟ هل نفسك تصرخ طالبة ما يُشبعها؟ هل رجعت إلى نفسك، أو إلى وعيك، واكتشفت أن الخطية خاطئة جدًّا؟ إذا كانت الإجابة: نعم، ألا ترجع إلى الله  وتأخذ مكان الخاطىء الضال أمامه؟ ألا تُلقي بنفسك على نعمته المطلقة وتمتلك لنفسك هذا الإمداد المدهش الذي أعده الله للخطاة المستحقين الجحيم؟ إذا فعلت هذا، فستعرف بركة الانتماء لعائلة الله.  وإذا كنت لم تفعل هذا بعد، فيمكنك أن تأتي إلى الله الآن كما أنت معترفًًًا بشرك العظيم وبعدم استحقاقك، ملقيًا نفسك على نعمته المجانية، فسوف تلقى أنت أيضًا ترحيبًا حبيًا؛ قبلة المصالحة؛ ثوب البر، ومكان حيث الشركة مع الله نفسه. «تَعَالَ لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ» (لو14: 17).

آرثر بنك