أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2008
موت المسيح - محاكمة المسيح أمام بيلاطس (1) - دراسات في إنجيل يوحنا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

بخلاف الأناجيل الإزائية (متى ومرقس ولوقا)، لا يركز إنجيل يوحنا على المحاكمات أمام رئيس الكهنة أو مجمع السنهدريم، بل على محاكمة المسيح أمام بيلاطس.  ولم يتحدث أي بشير باستفاضة عن هذه المحاكمة  كما فعل يوحنا في إنجيله، الذي ينفرد بذكر العديد من الإشارات التي لا ترد إلا فيه.

ويخبرنا البشير أن قادة الأمة أتوا من عند قيافا إلى دار الولاية وكان صبح. وهذا معناه أنهم قضوا الليل كله في محاكمة المسيح، وها هم يواصلون في اليوم التالي، ومن بدايته، العمل على صلبه.  ويا للأسف! فبينما لم يقدر التلاميذ أن يسهروا مع المسيح ساعة واحدة (مت26: 40)، فإن أعداءه لم يناموا ساعة واحدة.  وهكذا دائمًا، هناك نشاط وغيرة لدى الإنسان لكل ما هو شرير، أكثر بكثير من النشاط لما هو صالح!

وعداء اليهود من نحو مسياهم، ابن الله وحمل الله، يُرى في محاكمته بعد منتصف الليل، والتبكير صباحًا لاستصدار الحكم، ثم الذهاب إلى الوالي، والإصرار على إدانته وموته، وتفضيل باراباس عليه، وأخيرًا صرختهم المجنونة: ”دمه علينا وعلى أولادنا“!

والأرجح أن اليهود الذين قرروا قتل المسيح بعد عيد الفصح خوفًا من الشعب الذي كان يحب يسوع، لما تطورت الأحداث سريعًا، واضطروا إلى قتله في يوم العيد بالذات، فإنهم أرادوا الاحتماء بالوالي من غضبة الشعب. هذا جانب، والجانب الآخر أنهم أرادوا قتله بالصلب، موت العار والاحتقار، إمعاناً في الازدراء به. ولهذا فقد مضوا به إلى الوالي.
كان يمكن لليهود أن يرجموا يسوع كما حاولوا أن يفعلوا قبل ذلك مرارًا، وكما فعلوا بعد ذلك مع الشهيد الأول في المسيحية، استفانوس (أع7). لكن هذا لم يحدث. وهناك العديد من الأسباب لذلك، لكن يوحنا يركز على سبب مباشر وجوهري، وهو أن المسيح قال ذلك.

فهو أولاً قال إنه سوف يُسَلَّم إلى أيدي الأمم، ولن يكون اليهود بمفردهم مسؤولين عن قتله.  فهذا العمل لم يكن المقصود منه اليهود فقط بل كل العالم (1: 29؛ 3: 16)، فلا غرابة أن يشترك العالم كله في صلبه.

وثانيًا قال المسيح إنه سيموت مصلوبًا. ويعلق يوحنا: «ليتم قول يسوع الذي قاله مشيرًا إلى أية ميتة كان مزمعًا أن يموت» (ع32 انظر أيضًا 3: 14؛ 8: 28؛ 12: 32، 33؛ متى 20: 19).  وموت الصلب لم يكن في سلطة اليهود، بل كان يتحتم إصدار الأمر به من الوالي الروماني.

وينفرد يوحنا بالإشارة إلى أن قادة الأمة لم يدخلوا إلى دار الولاية (أي مقر الحاكم الروماني) لئلا يتنجسوا فيمكنهم أن يأكلوا الفصح (ع28).  قمة الرياء!  فهم كان عندهم تحفظ لدخول بيت رجل أممي، ولكن ليس عندهم مشكلة في استحضار شهود الزور لقتل القدوس البار. كانوا يخشون الدنس الطقسي، وأما القتل والدم، دم ابن الله فلا مشكلة عندهم.  حقًا إنهم – كما وصفهم المسيح نفسه - يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل (مت23: 24)!

ونحن هنا نرى الديانة في أسوإ مظاهرها. وإلى هذا المدى يمكن أن يسير الشر والتدين معًا جنبًا إلى جنب. وإلى هذا المدى يمكن للإنسان أن يخدع نفسه.  نعم فهل هؤلاء المتدينون الأردياء خدعوا الله بتصرفهم هذا؟  محالٌ. 

لما وصل رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب بالمسيح إلى دار الولاية، ولم يدخلوا إلى داخل خوفًا من التنجس، خرج بيلاطس البنطي إليهم.  وقال: «أية شكاية تقدمون على هذا الإنسان؟  أجابوا وقالوا له: لو لم يكن فاعل شر لما كنا قد سلمناه إليك» (18: 29، 30).  كأنهم يقولون لقد فحصنا الأمر بمعرفتنا، ووصلنا إلى قرار بأنه يستحق الموت، ونحن لم نأت هنا إلا للحصول على التصديق بقتله.  لكن بيلاطس رفض أن يستصدر حكمًا على المسيح بدون فحص.  فاضطروا أن يقدموا تهمًا ضد المسيح.  والذين طلبوا شهادات الزور عليه لما كانوا قضاته، لم يكن صعبًا عليهم أن يشهدوا هم بالزور لما تحولوا إلى شاكين.
ومن بين سبع تهم قُدمت على المسيح بحسب البشائر الأربع، ذكر لنا يوحنا ثلاثًا كالآتي:

  1. فاعل شر (يو18: 30).
  2. يقول إنه ملك (يو18: 33-39؛ 19: 12، 14، 15).
  3. جعل نفسه ابن الله (يو19: 7).

هل المسيح فاعل شر؟!  أ لم يتحَدَ الجميع قائلاً: «من منكم يبكتني على خطية؟» (8: 46).  ألم يفشلوا طوال محاكمة الليل حتى في اتفاق شهادتي زور على شر عمل؟!  إنه - تبارك اسمه - ليس فقط لم يعمل شرًا، بل لقد جال يصنع خيرًا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس (أع10: 38).  وأخيرًا استصدروا الحكم عليه، ليس لأنه فاعل شر، بل لأنه اعترف أنه ابن الله وابن الإنسان صاحب السلطان على كل الكون، فلماذا الكذب يا حضرات أصحاب القداسة الوهمية الزائفة، تلك القداسة التي لا تنطلي إلا على السذج، ولا تخدع سوى الملتوين نظيركم؟

وبيلاطس في محاكمته للمسيح وجه إليه - بحسب البشير يوحنا - سبعة أسئلة، كالآتي.

  1. «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟»
  2. «أَلَعَلِّي أَنَا يَهُودِيٌّ؟
  3. أُمَّتُكَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ. مَاذَا فَعَلْتَ؟»
  4. «أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟»
  5. «مَا هُوَ الْحَقُّ؟».
  6. «مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟»
  7. «أَمَا تُكَلِّمُنِي؟ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أَنَّ لِي سُلْطَاناً أَنْ أَصْلِبَكَ وَسُلْطَاناً أَنْ أُطْلِقَكَ؟»

أول سؤال من بيلاطس وجهه للمسيح: «أانت ملك اليهود؟» ونلاحظ أن أول سؤال في العهد الجديد، سأله مجوس أتوا من المشرق: «أين هو المولود ملك اليهود؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق، وأتينا لنسجد له» (مت2: 2). ولكن بينما الأمم عرفوه واعترفوا به، فإن شعبه لم يعرفوه، أو بالأحري عرفوه ولكنهم لم يقبلوه؛ مع أن الأصحاح الأول من هذه البشارة يحدثنا كيف عرفه نثنائيل الذي كان مترددًا أولاً، واعترف به بأنه ”ملك إسرائيل“ وأنه ”ابن الله“.

ولقد أجابه الرب يسوع بالقول: «أ من ذاتك تقول هذا، أم آخرون قالوا لك عني؟»

لماذا لم يجب الرب يسوع بنعم، أو لا، على سؤال بيلاطس؟  لسببين على الأقل.  أولاً: لأن بيلاطس كان يسأل سؤاله هذا بمفهوم معيَّن، على اعتبار أن يسوع، بقوله إنه ملك، يناوئ القيصر ويتمرد على روما.  وثانيًا: لكي يكشف المسيح شر تلك الأمة التي أحبها وخدمها، وهذا ما اتضح من إجابة بيلاطس على المسيح بسؤاليه الثاني والثالث، إذ قال له: «أَلَعَلِّي أَنَا يَهُودِيٌّ؟» قالها على الأرجح في نغمة احتقار وتعالٍ، كأنه يقول له: أنا نبيل روماني، لا علاقة لي بالأحلام والخيالات التي تعيشونها أنتم أيها اليهود.  ثم قال له: «أُمَّتُكَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ. مَاذَا فَعَلْتَ؟». وبهذه العبارة فقد أثبت الذنب على الأمة اليهودية، وهو ما سيؤكده المسيح في أصحاح 19.

ونحن نقتبس كلمات بيلاطس نفسها ونوجهها لأمته ورؤساء الكهنة قائلين: ماذا فعلتم أنتم؟
وبعد أن كشف المسيح شر أمته، فقد صحح المفهوم الخاطئ الذي كان عند بيلاطس إذ «أجاب يسوع مملكتي ليست من هذا العالم.  لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي  يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود.  ولكن الآن ليست مملكتي من هنا»
ياله من رد قصير ومجيد!  ولاحظ هذه الأمور الثلاثة في رد المسيح:

  • أولاً: إن المسيح قال «مملكتي ليست من هذا العالم»، ولم يقل «ليست على هذا العالم».  أي إنها لا تستمد حقها في الوجود من العالم بل من السماء.  إنها مملكة أصلها من السماء وليس الأرض (انظر مزمور 2: 8؛ لوقا 19: 12).
  • ثانيًا: إن المسيح قال: «لكن الآن ليست مملكتي من هنا».  وكلمة ”الآن“ أي بعد أن رفضني شعبي وأسلمني للأمم، فقد تأجَّل الملك.  لكن في يوم قادم سيستلم المسيح ملكه على كل العالم، عندما يظهر باعتباره ”ملك الملوك، ورب الأرباب“ (انظر رؤيا 11: 15؛ دانيآل 7: 13، 14).
  • ثالثًا: يشرح المسيح الطابع الحقيقي لملكه الحاضر،  فهو الآن مَلك روحي على القلوب، ومملكته لا تزاحم روما، وليس لها جنود يحاربون بالسيوف، أو موظفون يجمعون الضرائب.  إنها مملكة سماوية، جنودها جنود حق لا جنود حرب؛ سيفها هو كلمة الله المجيدة لا سيف القتل والإماتة؛ وهي تمارس سلطانها على القلوب لا على الرقاب، وأسلحة محاربتها روحية قادرة بالله على هدم حصون وظنون، وكل علو يرتفع ضد معرفة الله.  وطوبى لمن يخضع بكل قلبه، لا بمجرد انتسابه، لذلك الملك.

وعندما سمع بيلاطس المسيح يكرر كلمة ”مملكة“ ثلاث مرات في جوابه قال له: «أ فأنت إذًا ملك؟  أجاب يسوع: أنت تقول إني ملك.  لهذا قد وُلدت أنا ولهذا أتيت إلى العالم لأشهد للحق».  وهي عبارة مجيدة، تدل على عظمة شخصه.  فليس فقط أن المسيح وُلد، كباقي البشر، بل أيضًا أتى إلى العالم، بمعنى أنه كان له وجود سابق لمولده.  لا يقال عن واحد فينا إنه أتى إلى العالم، لأننا قبل مولدنا لم نكن موجودين على الإطلاق، أما المسيح فهو الأزلي كما يعلن لنا بداية الإنجيل (1: 1-3)؛ وهو السماوي (يو3: 31).  والمسيح هنا يشير إلى بشريته التي شاركنا فيها عندما قال: «لهذا وُلدت أنا». كما يشير أيضًا إلى كينونته السابقة الأزلية عندما يقول: «ولهذا أتيت إلى هذا العالم».

ثم إن أقوال المسيح العظيمة هنا تعلن لنا أحد أغراض تجسد ابن الله ومجيئه إلى العالم: أن يشهد للحق.  وأمام الوالي، الذي يفتخر شعبه (أي الرومان) بأنهم يعرفون الحق، وأنهم حُماته، يعلن المسيح أن العالم ما زال يتخبط في الضلال، وأنه لهذا جاء إلى العالم، ليشهد للحق.  ثم أردف قائلاً: «كل من هو من الحق يسمع صوتي».  بمعنى أن كل أمين ومخلص وصادق مع نفسه، ومع الله، يسمع لي.  نعم إن كل من ولد من الله، يسمع للمسيح (قارن 8: 47).

«قال له بيلاطــس: ما هو الحــق؟  ولما قال هذا خـرج ... إلى اليهــود»، دون أن ينتظر ليسمع الإجابة.  ولو كان بيلاطس جادًا في سؤاله، ولو كان حقًا ظامئًا إلى الحق،أما كان بوسعه أن يعرفه؟  ما أعظم الفرصة التي كانت لبيلاطس! لكنه بالأسف أهدرها.  لقد التقى وجهًا لوجه مع المسيح، ذاك الذي أتى إلى العالم ليشهد للحق، لكنه لم يستفد!!

وما زال السؤال عن الحق هو السؤال الأكثر ترددًا، حتى بعد مجيء المسيح إلى العالم ليشهد للحق.: مما يذكرنا بقول الرب قديمًا: «شعبي عمل شرين: تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آبارًا آبارًا مشققة لا تضبط ماء» (إر2: 13).
وعندما ”خرج بيلاطس إلى اليهود“ قال لهم: «أنا لست أجد فيه علة واحدة، ولكم عادة أن أطلق واحدًا في الفصح. أ فتريدون أن أطلق لكم ملك اليهود؟ فصرخوا أيضًا جميعهم قائلين ليس هذا بل باراباس. وكان بارباس لصًا».

يا لتردد الحاكم!  طالما أنه لا يجد فيه علة واحدة، فما معنى أن يطلقه في الفصح؟ المفروض أن يقول بناء على الفحص فقد تقرر إطلاق المسيح حرا.  ولكن يبدو أنه دخل مع اليهود في مناورة سياسية، بأن يثبت الذنب على يسوع، ثم يطلقه!  يثبت عليه الذنب إرضاء لليهود، ويطلقه إرضاء للعدالة. ولكن لأن المسيح بحسب هذا الإنجيل هو الفصح الحقيقي، كان ينبغي أن يحدث العكس.

لقد صُلب المسيح في يوم الفصح بالذات، وسنرى بعد قليل أن عظمًا لم يُكسر منه، ليتم قول الكتاب إن حمل الفصح لا يُكسر عظمه (19: 36؛ خر12: 46).  والفصح كان يُذبح فقط لو ثبت أنه خالٍ من العيوب، ولو به عيب ما كان يصلح ليكون ذبيحة.  ولهذا كله كان ينبغي أن يحكم الوالي ببراءة المسيح ثم يحكم بصلبه. وهو ما حدث فعلاً.  

لقد فشلت خطة بيلاطس الشريرة لأن اليهود الذين هم أشر منه لم يرضوا بها، ولكن لم يكن ممكنًا لها أن تنجح لأنها كانت ضد مخطط الله الأزلي.

عندما قدم بيلاطس عرضه بأن يطلق يسوع كهدية الفصح ما كان يخطر على باله قط أن تميل الكفة ناحية باراباس، وإلا ما كان قدَّم هذا العرض أصلاً.  ويُقال إن بارباس هو النطق اليوناني لكلمة أرامية مركبة من مقطعين ”بار أبا“ أي ابن الأب أو ابن أبيه.  وهو بلا شك من أب هو إبليس (8: 44).  لكن ما أبعده عن المسيح ابن محبة الآب!  إنه التقليد الشيطاني للمسيح.  فيا للعجب أن يُفضِّل الإنسان باراباس ويرفض المسيح!  أن يختار الإنسان التقليد الشيطاني ويرفض الأصل الإلهي.

وباراباس خاطئ أثيم، ويسوع هو قدوس الله.  باراباس مدبر فتن ويسوع رئيس السلام.  باراباس إرهابي ويسوع هو الوديع والمتواضع القلب.  باراباس هدام ويسوع مقيم الرميم.  باراباس لص ويسوع هو الراعي الصالح.  بارباس قاتل وسافك دماء ويسوع هو رئيس الحياة.

إن الصليب الذي أعلن محبة الله التي بلا حدود للبشر (رو5: 8)، أعلن شيئًا آخر رهيبًا، أعلن كراهية البشر لله التي تمثلت في تفضيلهم بارباس على المسيح.  هذا ما واجه به الرسول بطرس شعب اليهود بكل قوة حسبما ورد في سفر الأعمال أصحاح3: 14، 15 «أنتم أنكرتم القدوس البار، وطلبتم أن يوهب لكم رجل قاتل، ورئيس الحياة قتلتموه»

يتساءل الكثيرون متحيرين: لماذا الرذيلة في العالم منتصرة؟  ولماذا الشر أكثر رواجًا من الخير؟  والهدم أكثر من البناء؟  وآلاف الأسئلة الأخرى عن المآسي والفواجع؛ لكن شرور العالم كلها تجسمت، وغباء البشر كله تركز في صرخة واحدة سُمعت يوم الصلب «ليس يسوع بل باراباس».  أرهب صرخة سُمعت في كل التاريخ، لقد اختاروا رجلاً إرهابيًا ورفضوا الوديع.  ومن وقتها صار الإرهاب والقتل نصيبهم، حتى يكتمل مكيال إثمهم بقبول الآتي باسم نفسه.  والذين زرعوا الريح لا بد أن يحصدوا الزوبعة.

(يُتبَع)

يوسف رياض