أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2011
داود وشمعى 10 - رجلاً حسب قلب الله
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة
(10)

داود وشمعي

«وَلَمَّا جَاءَ الْمَلِكُ دَاوُدُ إِلَى بَحُورِيمَ إِذَا بِرَجُلٍ خَارِجٍ مِنْ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَةِ بَيْتِ شَاوُلَ، اسْمُهُ شَمْعِي بْنُ جِيرَا، يَسُبُّ وَهُوَ يَخْرُجُ، وَيَرْشُقُ بِالْحِجَارَةِ دَاوُدَ وَجَمِيعَ عَبِيدِ الْمَلِكِ دَاوُدَ وَجَمِيعُ الشَّعْبِ وَجَمِيعُ الْجَبَابِرَةِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ.  وَهَكَذَا كَانَ شَمْعِي يَقُولُ فِي سَبِّهِ: اخْرُجِ! اخْرُجْ يَا رَجُلَ الدِّمَاءِ وَرَجُلَ بَلِيَّعَالَ! قَدْ رَدَّ الرَّبُّ عَلَيْكَ كُلَّ دِمَاءِ بَيْتِ شَاوُلَ الَّذِي مَلَكْتَ عِوَضًا عَنْهُ، وَقَدْ دَفَعَ الرَّبُّ الْمَمْلَكَةَ لِيَدِ أَبْشَالُومَ ابْنِكَ، وَهَا أَنْتَ وَاقِعٌ بِشَرِّكَ لأَنَّكَ رَجُلُ دِمَاءٍ» (2صم16: 5-8).

تُعد هذه القصة من النقط المضيئة في حياة داود، وإن كان الاقتباس المذكور عاليه لا يوحي بذلك.  فهو يحكي عن شمعي وهو يسب داود ويصفه بـ “رجل الدماء” و “رجل بليعال”، ويقذف داود وعبيده بالحجارة.  ولكن الرجل الذي بحسب قلب الله أظهر رحمة تجاه شمعي وسامحه.
شمعي يسب داود
كان شمعي من عائلة شاول، وخرج لمقابلة الملك المُطارَد وهو هارب من ثورة ابنه أبشالوم، وبدأ فجأة في إهانة داود وقذفه بالشتائم واللعنات، ورشقه هو وعبيده بالحجارة.  ولقَّب داود بألقاب رهيبة، واتهمه بأنه السبب في كل دماء بيت شاول، وأضاف أن الرب سلَّم المملكة ليد أبشالوم.
كان تصرف شمعي في هذا الموقف في منتهى الدناءة، وذلك لعدة أسباب:
أولاً: كان هذا عصيان لوصية الله الصريحة: «لاَ تَلْعَنْ رَئِيسًا فِي شَعْبِكَ» (خر22: 28). كما قال الجامعة: «لاَ تَسُبَّ الْمَلِكَ وَلاَ فِي فِكْرِكَ» (جا10: 20).
ثانيًا: كم هو حقير أن يلعن شمعي داود وهو في مثل هذا الموقف هاربًا من تمرد ابنه أبشالوم، غير مراعيًا لظروفه بل مضيفًًا حزنًًا على حزنه.
ثالثًا: كان اتهام شمعي بأن داود هو المسئول عن “كُلَّ دِمَاءِ بَيْتِ شَاوُلَ” ليس له أي أساس من الصحة بل هو اتهام ظالم، لأن داود لم يأخذ المملكة من شاول بسفك الدماء، ولا ثأر كالمعتاد عندما أصبح في مركز القوة. بل بالعكس، قابل الشر بالخير، وأظهر كل حب لمن بقيَ من بيت شاول.
لقد حافظ داود على حياة شاول مرتين، عندما كان في قدرته أن يقتله، كما أظهر لطفًًا لمفيبوشث ابن يوناثان وحفيد شاول.  ولم يكن داود مسئولاً عن مقتل شاول ويوناثان، اللذان قتلا في الحرب مع الفلسطينيين. كما كان داود بريئًا على حد سواء من مقتل كل من أبنير وإيشبوشث.
ولكن داود رأى شيئًا آخر في لعنات شمعي وبوصفه “رَجُلَ الدِّمَاءِ”، فلابد أن دماء أوريا التي سفكها داود اُستُحضرت فجأة إلى ذهنه.  فإن لم تكن دماء شاول على داود، فدماء أوريا التصقت به.  وكان داود يعلم ذلك جيدًا، فانحنى تحت قضاء الله العادل، ولم يؤذي شمعي.
قال شمعي: «قَدْ دَفَعَ الرَّبُّ الْمَمْلَكَةَ لِيَدِ أَبْشَالُومَ ابْنِكَ» (2صم16: 8).  وكم هو غريب أن يُنطق اسم الرب المقدس من فم رجل شرير كشمعي، بل أكثر من ذلك، اجترئ شمعي بوضعه فرضيات في معاملات الله مع داود، وأخذ على عاتقه تفسير هذه المعاملات الإلهية مع داود. ليت الله يعطي قديسيه نعمة لكي يحفظهم من حماقة وشر المحاولة في التعليق على معاملات الله تجاه الآخرين.
أبيشاي يقترح
قتل شمعي
«فَقَالَ أَبِيشَايُ ابْنُ صَرُويَةَ لِلْمَلِكِ: لِمَاذَا يَسُبُّ هَذَا الْكَلْبُ الْمَيِّتُ سَيِّدِي الْمَلِكَ؟ دَعْنِي أَعْبُرْ فَأَقْطَعَ رَأْسَهُ» (2صم16: 9).  ولكن داود رفض الاستماع للاقتراح الشرير الذي اقترحه أبيشاي، بل وبخه على ذلك.  كان شمعي يستحق الموت، وما هي إلا كلمة يقولها داود فيفارق شمعي الحياة.  ففي تلك الأيام كان للملك سلطة مطلقة على رعاياه.  فلا توجد محكمة أو محامي.  فداود قد سبق وقتل كثيرين من قبل: عندما أمر أحد عبيده بقتل العماليقي الذي قتل شاول (2صم1: 15). كما أمر بقتل ركاب وبعنة، الرجلان اللذان قاما بقتل ايشبوشث، ابن شاول (2صم4: 12).  كما قتل أيضًا أوريا، زوج بثشبع.  فما كان أسهل على داود قتل شمعي!
جواب داود على سب شمعي
عندما اقترح أبيشاي قتل شمعي، منعه داود قائلاً: «دَعُوهُ يَسُبَّ لأَنَّ الرَّبَّ قَالَ لَهُ: سُبَّ دَاوُدَ.  وَمَنْ يَقُولُ: لِمَاذَا تَفْعَلُ هَكَذَا؟ ... هُوَذَا ابْنِي الَّذِي خَرَجَ مِنْ أَحْشَائِي يَطْلُبُ نَفْسِي، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الآنَ بِنْيَامِينِيٌّ؟ دَعُوهُ يَسُبَّ لأَنَّ الرَّبَّ قَالَ لَهُ.  لَعَلَّ الرَّبَّ يَنْظُرُ إِلَى مَذَلَّتِي وَيُكَافِئَنِي الرَّبُّ خَيْراً عِوَضَ مَسَبَّتِهِ بِهَذَا الْيَوْمِ» (2صم16: 10-12).
كان رد فعل داود على شتائم شمعي مبارك وجميل، إذ رأى يد الله في هذه التجربة.  وهذا هو دائمًا علامة الإيمان الروحي الخارق للطبيعة، الذي مصدره وسنده هو الله وحده، فهو دائمًا يرى يد الله في ساعة التجربة. فذكر داود “الرب” 4 مرات في جوابه.  لقد أدرك أن شمعي ما هو إلا أداة في يدي الرب، واعترف أنه يستحق السب.  كان قانعًا بأن يترك الأمر في يدي الرب الذي ربما أخبر شمعي أن يسب داود.  فرضيَ داود أن يقبل هذا كجزء من  قضاء الله على خطاياه تجاه بثشبع وزوجها.
رأى داود الله في كل الظروف، واعترف به بروح خاضعة منكسرة.  فلم يكن داود ينظر للأسباب الثانوية.  فبالنسبة له لم يكن شمعي شيئًا، بل الله الذي يتكلم إليه من خلال شمعي. بعكس أبيشاي الذي لم يرَ سوى شمعي في المشهد، وعليه طلب أن يتعامل معه من هذا المنطلق.  ولكن داود نظر إلى ما وراء الآلة المستخدمة، نظر إلى الله؛ «الرَّبَّ قَالَ لَهُ: سُبَّ دَاوُدَ» وكان هذا كافيًا بالنسبة له.  وهنا نرى داود رمزًا لربنا يسوع المسيح الذي لم يرّ هؤلاء الذين تآمروا عليه وصلبوه: “بيلاطس، قيافا، يهوذا واليهود”، لقد رأى فقط الكأس من يدي الآب (يو18: 11).
«وَقَالَ دَاوُدُ لأَبِيشَايَ وَلِجَمِيعِ عَبِيدِهِ: هُوَذَا ابْنِي الَّذِي خَرَجَ مِنْ أَحْشَائِي يَطْلُبُ نَفْسِي، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ الآنَ بِنْيَامِينِيٌّ؟ دَعُوهُ يَسُبَّ لأَنَّ الرَّبَّ قَالَ لَهُ» (2صم16: 11).  لقد هدَّأ داود نفسه في هذه التجربة الأصغر - تجربة سب شمعي - بأن ذكَّر نفسه بالتجربة الأكبر وهي ثورة أبشالوم ضده.  لقد بحث عن التعزية في فرضه أن الرب قد يحوِّل هذه التجربة لبركته في النهاية.  كما أنه عزى نفسه بعدما فكر أن خطاياه تستحق عقابًا أشد مما كان يتقبله.  فنظر إلى ما هو بعد الآلة المؤلمة، نظر إلى يدي الله البارة.  كما أنه مارس الرجاء بأن الله سوف يخرج خيرًا من الشر، كما هو مذكور في رومية 8: 28 «أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ».
شمعي يقابل داود للمرة الثانية
«وَسَقَطَ شَمْعِي بْنُ جِيْرَا أَمَامَ الْمَلِكِ ... وَقَالَ لِلْمَلِكِ: لاَ يَحْسِبْ لِي سَيِّدِي إِثْمًا، وَلاَ تَذْكُرْ مَا افْتَرَى بِهِ عَبْدُكَ يَوْمَ خُرُوجِ سَيِّدِي الْمَلِكِ مِنْ أُورُشَلِيمَ، حَتَّى يَضَعَ الْمَلِكُ ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ، لأَنَّ عَبْدَكَ يَعْلَمُ أَنِّي قَدْ أَخْطَأْتُ، وَهَأََنَذَا قَدْ جِئْتُ الْيَوْمَ أَوَّلَ كُلِّ بَيْتِ يُوسُفَ، وَنَزَلْتُ لِلِقَاءِ سَيِّدِي الْمَلِكِ.  فَأَجَابَ أَبِيشَايُ ابْنُ صَرُويَةَ وَقَالَ: أَلاَ يُقْتَلُ شَمْعِي لأَجْلِ هَذَا، لأَنَّهُ سَبَّ مَسِيحَ الرَّبِّ؟  فَقَالَ دَاوُدُ: مَا لِي وَلَكُمْ يَا بَنِي صَرُويَةَ حَتَّى تَكُونُوا لِيَ الْيَوْمَ مُقَاوِمِينَ؟ آلْيَوْمَ يُقْتَلُ أَحَدٌ فِي إِسْرَائِيلَ؟ أَفَمَا عَلِمْتُ أَنِّي الْيَوْمَ مَلِكٌ عَلَى إِسْرَائِيلَ؟ ثُمَّ قَالَ الْمَلِكُ لِشَمْعِي: لاَ تَمُوتُ.  وَحَلَفَ لَهُ الْمَلِكُ» (2صم19: 18-23).
بعدما انتهت الحرب الأهلية بين داود وأبشالوم، عاد داود إلى أورشليم واستعاد عرشه. فأسرع شمعي لمقابلة الملك في محاولة منه لإنقاذ عنقه.  وندم عن خطيته بسبه داود وطلب الغفران.
لقد غير أسلوبه الأرعن، فنراه يتكلم مع داود بكل وقار داعيًا إياه “سَيِّدِي الْمَلِكِ”، مُعترفًا أمام الجميع بجرم ما أرتكبه من إهانة، وطالبًا عفو الملك.  بل أكثر من ذلك، إذ ألقى بنفسه عند قدمي داود، مُظهرًا رغبته في الخضوع لسلطانه الملكي.
وقال أبيشاي – ابن أخت داود- مرة أخرى إن شمعي يستحق الموت لأنه سب مسيح الرب.  ولكن داود وبخه، ولم يلبي طلبته الشريرة.  صرح داود أنه ليس الوقت المناسب لقتل أي رجل، إذ أعطاه الرب انتصارًا، ونجاه من مخطط أبشالوم الإجرامي.  كان راضيًا بالوضع الذي أرجعه فيه الله ملكًا على إسرائيل.
وهنا نرى داود رمزًا لربنا يسوع المسيح مرة أخرى.  فالحق الأساسي في الإنجيل هو أن المسيح يقبل الخطاة ويغفر لهم عندما يتوبوا معترفين بخطيتهم، ملقين أنفسهم على نعمته الوافرة.  وهذا ما فعله شمعي.  لقد قرر أن يكون في سلام مع داود، فوقع عند رجليه، فأظهر داود رحمة وسامحه.  وهذا ما يفعله المسيح لكل من يتوب، مؤمنًا به.
موريس بسالي

موريس بسالي