أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد فبراير السنة 2007
موت المسيح في الأنجيل - الراعي الصالح (يو10) - دراسات في إنجيل يوحنا
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

«أَمَّا أَنَا فَإِنِّي الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَأَعْرِفُ خَاصَّتِي، وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي، كَمَا أَنَّ الآبَ يَعْرِفُنِي وَأَنَا أَعْرِفُ الآبَ. وَأَنَا أَضَعُ نَفْسِي عَنِ الْخِرَافِ.  وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَظِيرَةِ يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضاً فَتَسْمَعُ صَوْتِي، وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَرَاعٍ وَاحِدٌ.  لِهَذَا يُحِبُّنِي الآبُ لأَنِّي أَضَعُ نَفْسِي لآخُذَهَا أَيْضاً.  لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضاً. هَذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي» (يو10: 14-18).

****

بعد أن قال المسيح في ع11 إنه ”الراعي الصالح“، الذي ”يبذل نفسه عن الخراف“، فإننا نجد هنا في هذه الأعداد التي ندرسها الآن، عبارة أخرى مشابهة لها، هي:

المسيح يضع نفسه
تتكرر هذه العبارة في الأعداد التي أمامنا أربع مرات، منها مرة يقول فيها إنه يضع نفسه عن الخراف، وثلاث مرات يقول فقط إنه يضع نفسه.

إذًا فنحن في هذا الأصحاح نقرأ أن المسيح يبذل نفسه، وأنه يضع نفسه. وفي أماكن أخرى من الوحي نقرأ أنه ”أخلى نفسه“، وأنه ”وضع نفسه“ (أي أخذ مركز الاتضاع)، وأنه ”أسلم نفسه“، وأنه ”لم يُرضِ نفسه“، وفي العهد القديم يقول: ”سكب للموت نفسه“ (إش53: 12). سبعة تعبيرات رائعة تدل على كمال البذل التطوعي والاختياري!

وإن كان المسيح قد ذكر في ص8 أن اليهود الأشرار هم الذين سيرفعونه فوق الصليب (8: 28)، فإنه هنا في أصحاح 10 يؤكد أنه هو الذي سيُقدِّم نفسه.  فكطابع إنجيل يوحنا الذي يتكلم عنه باعتباره ابن الله، والذي يحدثنا أيضًا عنه كالمحرقة، التي كانت تقدمة اختيارية لا إجبارية، فإنه يقول ”ليس أحد يأخذها مني“. 

وما أبعد المباينة بينه، تبارك اسمه، وبين هؤلاء اليهود الأشرار! هم قتلة يأخذون الحياة (8: 28 قارن مع أعمال 2: 23)، وهو راع يبذل الحياة (10: 11، 15)!

ثم ما أجمل ما يرد في العددين 14، 15، إذ يحدثنا المسيح عن العلاقة المتبادلة بينه وبين خرافه!  ويوضح أنها علاقة محبة، إذ إن المعرفة التي بينه وبين الخراف، هي من نوع معرفته بالآب، ومعرفة الآب به. من ثم يعود المسيح في الآية 15 ليتحدث عن وضع نفسه عن الخراف. ولا عجب فلا يوجد برهان أعظم من هذا على محبة الراعي لخرافه، أو بالحري محبة المسيح لخاصته.  ولقد علق المستر وليم كلي على ذلك بالقول: ”لا يوجد ما يقوي المؤمنين، وأيضًا ما يقودهم للاتضاع، ولا شيء يمجد الله، ولا شيء يُعتبر الأساس لبركة الكون كله، مثل هذه الحقيقة العظمى“.

لي خراف أخر
إذ أشار المسيح في ع15 إلى موته فوق الصليب، فإن هذا فتح الباب للحديث عن ”الخراف الأخر“.  والمقصود بالخراف الأخر هو الأمم.  ولم يسبق للمسيح قبل هذا الفصل أن تحدث صراحة عن دعوة الله للأمم، ولكنه تحدث عنها هنا لأول مرة. ونلاحظ أن الحديث عنها جاء بعد حديثه عن موته.  وليس فقط أشار إلى دعوة الأمم، التي ما كان ممكنًا لها أن تتم لولا موت الصليب، بل أشار أيضًا إلى وحدتهم مع المؤمنين من اليهود، الخراف التي من الحظيرة. وهو ما يتفق مع كلام الرسول بولس في رسالة أفسس، فبعد الحديث عن موت الصليب، أشار إلى أن الله «جعل الاثنين (أي اليهود والأمم) واحدًا» (أف 2: 14-16).  ويقول المسيح هنا إنه لا بد أن يأتي بهؤلاء الخراف الأخر أيضًا، ليكونوا جميعًا رعية واحدة لراع واحد.

ونلاحظ أن الرب في ع16 يذكر «ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة، ينبغي أن آتي بتلك أيضًا».  وهذا معناه أنهم - في نظره – خراف، وأنهم له، حتى قبل إتيانهم إليه.  فبحكم اختيارهم الأزلي من الله، هم ”للمسيح“، حتى قبل خلاصهم.  ولقد قال الرب عن المؤمنين الذين في كورنثوس، وقبل إيمانهم بالمسيح: «لأن لي شعبًا كبيرًا في هذه المدينة» (أع18: 10). 
وهنا يقول المسيح عن هذه الخراف إنها لا بد أن تسمع صوت الراعي. وهذا يُعتَبر بمثابة نبوة ووعد.  وهو يذكرنا بقول المؤرخ الإلهي: «آمن جميع الذين كانوا معينين للحياة الأبدية» (أع13: 48).

المسيحية ليست حظيرة
ولاحظ جيدًا قول المسيح عن تلك الخراف: «لي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة»، أي ليسوا من الشعب اليهودي.  والكتاب المقدس لا يعترف سوى بحظيرة واحدة، وهي على أي حال ليست المسيحية.  وعليه فإننا عندما نشير أحيانًا إلى أشخاص، ونقول عنهم إنهم من الحظيرة الأخرى، نرتكب غلطتان: الأولى هو أننا نعتبر المسيحية حظيرة، وهي ليست كذلك. والغلطة الثانية، أن نعتبر أن هناك حظائر مختلفة، بمعنى أن كل ديانة أو قومية هي حظيرة، مع أن الكتاب يقول صراحة إن الأمم لم يكونوا ضمن الحظيرة ”الوحيدة“ التي يعترف الرب بها.

ولقد كان من آثار تهويد المسيحية أن اعتُبرت المسيحية حظيرة، والحقيقة إنها رعية. إن تعبير الحظيرة تعبير يناسب اليهودية، فالحظيرة يحيطها سياج، وعادة لا يكون الراعي داخلها، وأما الرعية فإنها تأخذ فكرنا في الأساس إلى وجود الراعي في وسط الرعية.  لا توجد حرية لمن هم داخل الحظيرة، وهذا لا ينطبق على المسيحية، ليس فقط بحسب تعليم الكتاب بصفة عامة (ارجع إلى غلاطية 5: 1)، بل أيضًا بحسب تعليم المسيح في هذا الجزء، الذي قال فيه: «إن دخل بي أحد فيخلص، ويدخل ويخرج (هذه هي الحرية المسيحية)، ويجد مرعى» (ع 9). 

أضع نفسي لآخذها
عندما يقول المسيح ”إني أضع نفسي“، فهو بهذا يشير إلى موته، وعندما يقول ”آخذها أيضًا“ فهو يشير إلى قيامته.  عندما وضع نفسه، كفَّر عن خطايانا، وعندما أخذها فقد بررنا. وبهذا فقد تمتعنا بكل من ”كفارة الإثم“، و ”البر الأبدي“ (دا 9: 24).  ثم إنه في موته ظهرت المحبة التي بذلت الحياة لخلاص الخراف، وفي القيامة ظهرت القوة اللازمة لحفظ هذه الخراف.
وعن أول ذكر لخروف المحرقة فإننا نقرأ عن كبش ممسك في الغابة بقرنيه. وفي الرمز يشير هذا إلى أن المسيح في مجيئه الأول لم يستخدم قوته.  ويجب أن نتيقن من أن المسيح لم يُجبَر على شيء، ولكنه بمحض إرادته رفض أن يستعمل قوته، لكي يُمَجِّد الله ولكي يخلص أحباءه؛ ولكنه سيستخدم قوته الفائقة في مجيئه الثاني، إذ نقرأ لا عن قرنين، بل عن سبعة قرون (رؤ5: 6).

لا تظن إذًا – عزيزي القارئ – أن المسيح لم يكن بوسعه إلا أن يتحمل ما تحمل، كلا كان يستطيع لو أراد، ولكنه بذل نفسه حبًا، وخضع للآب طوعًا.  وعليه فلم تكن خيانة يهوذا، ولا جحود اليهود، ولا حسد القادة، ولا مؤامرات السنهدريم، ولا الجنود المدججين بالسلاح، مع كثرتهم، ولا جبن بيلاطس وتردده، هي سبب الصليب. هذه كلها أظهرت نوع البشر الذين أتى المسيح ليخلصهم، ولكن مجيء المسيح كان لأجل هذه الغاية عينها، سواء ظهرت هذه المعطيات أم لم تظهر.

نعم لقد كان الصليب تدبيرًا أزليًا، ولم يكن قط وليد الصدفة. وهنا يقول المسيح عن هذا العمل التكريسي الأعظم إنه ”وصية“، قبلها في الأزل، وأتى في ملء الزمان لينجزها، كقوله أيضًا: «ها أنذا جئت .. أفعل مشيئتك يا إلهي سررت» (مز 40: 7، 8).
ولأنه هنا يتحدث عن شخصه كالمحرقة، فإنه يذكر بتكرار لافت أنه هو الذي سيبذل نفسه، وهو الذي سيضع نفسه.  وسيفعل ذلك ليس فقط عن الخراف (ع15)، بل أيضًا طاعة للآب وإتمامًا لوصية تلقاها منه (ع18).  وموت المسيح بهذا الاعتبار أوجد باعثًا جديدًا لمحبة الآب له. ليس لأن الابن وضع حياته عن الخراف، بل من أجل البذل في ذاته، ومن أجل أنه وضع نفسه من ذاته.

قال رجل الله داربي: ”المحبة والطاعة هما قوانين حاكمة للحياة الإلهية، ويتضح ذلك بالنسبة لنا من رسالة يوحنا الرسول الأولى. وعلامة أخرى على وجودها في الشخص هي الاتكال على الله، وقد ظهر هذا كله كاملاً في يسوع كالإنسان“.

اللاهوت والناسوت
يستطرد المسيح قائلاً: «لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضًا». وكلمة ”سلطان“ تفيد القدرة والحق معًا. الخالق وحده له الحق في وضع الحياة، وله وحده القدرة على استردادها بعد وضعها، وأما المخلوق فليس من حقه وضع حياته، ولا قدرة له على أن يستردها بعد وضْعِها.

ونظرًا لخطورة هذا الحق وأهميته فإن يوحنا، كعادته عند الحديث عن أمور هامة - وما أكثر ما تحدث إلينا هذا الرسول الحبيب عن أمور مجيدة وعظيمة - فإنه يذكر الحق سلبيًا كما يذكره إيجابيًا.

وبعد أن يؤكد المسيح على قدرته وحقه، مما يعني أنه هو الله، فإنه – في اتضاع عجيب وخضوع مذيب - يقول: «هذه الوصية قبلتها من أبي».  كما قال في مناسبة أخرى: «لأني قد نزلت من السماء، ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني» (يو 6: 38).

ويا له من اتحاد يفوق المدارك للاهوت بالناسوت! ففي الأقوال السابقة نجد اللاهوت واضحًا، إذ يؤكد المسيح أن ليس أحد يأخذها منه، وأنه له سلطان أن يضعها وله سلطان أن يأخذها أيضًا.  ولكن نجد الناسوت أيضًا واضحًا، سواء في قابليته للموت، وفي قبوله له طاعة لوصية  تلقاها من الآب.  ويا له أيضًا من مزيج عجيب من السلطان والخضوع!
على أن بقية الأعداد ترينا أنه وإن كان في الصليب ظهر الاتفاق الكامل بين الآب والابن، فإن الصليب عينه أوجد انقسامًا بين البشر (قارن ع19، 20).  لقد كان الصليب، وسيظل إلى حين عودة المسيح ثانية إلى الأرض، هو حجر العثرة الأعظم أمام عدم الإيمان.

(يُتبَع)

يوسف رياض