أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مارس السنة 2009
خواطر في سفر هوشع - 2 - خواطر في سفر هوشع
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

قارئي العزيز، يا مَنْ تتابع معنا الدراسة في نبوة هوشع، يا مَنْ يستعر قلبك بالشوق للمزيد من الاغتراف من نبع الكلمة، ويا مَنْ تحب أن تجلس على مجاري المياه، مياه الراحة وعلى ضفافها، أَتعلَم أنك في هذا تعيش أثمن أوقات العمر؟ أَتعلَم أنك بذلك تواكب مسيرة الشرفاء؟ ولماذا الشرفاء؟

إنني لا أسوق لك لفظةً بلاغيةً مشجعةً من وجهة نظر شخصية، ولكن هذا هو رأي وإعلان الوحي، فأثناء مسيرة الشعب قديمًا في البرية، وصل الشعب إلى مكان يُدعى “بئر” وعندما وصلوا إلى هذا المكان، ترنَّم الشعب بكلمات في غاية الروعة، توضح لك عمق وثِقَل معنى الكلمات التي استخدمها “مسيرة الشرفاء”.

«ومن هناك إلى بئر. وهي البئر، حيث قال الرب لموسى: اجمع الشعب فأُعطيهم ماءً. حينئذٍ ترنَّم إسرائيل بهذا النشيد: اصعدي أيتها البئر، أجيبوا لها. بئر حفرها رؤساء، حفرها شرفاء الشعب بصولجان، بعصيهم. ومن البرية إلى متَّانة» (عد21: 16-18).

إن البئر التي من مياهها قصد الرب أن يروي ظمأ وغليل شعبه، التي عندها ترنَّم الشعب، هي كناية عن كلمة الله بكل روعتها وعجائبها، التي من شأنها أن تستبدل تذمرات وأنين البرية بالإنشاد والترنُّم. ولكن مَنْ الذي حفر هذه البئر؟ أليس الشرفاء؟ أليس هذا هو الشرف عينه الذي به اتصف أهل بيرية؟ الذين كُتِب عنهم: «وكان هؤلاء أشرف من الذين في تسالونيكي فقبلوا الكلمة بكل نشاط، فاحصين الكتب كل يوم هل هذه الأمور هكذا» (أع17: 11).

صديقي يا له من شرف، لا يُدانيه شرف في هذه الحياة، أقصد شرف مَنْ يعلن لهم “الروح القدس الذي يفحص كل شيء حتى أعماق الله” ويكشف لهم مخبوءات الكلمة وكنوزها.

عرفنا في المرة السابقة، خلال تأملاتنا في نبوة هوشع، أن هوشع هو نبي الأسباط العشرة أي مملكة إسرائيل، وكانت نبوته عام 790- 722 ق.م، أي قبل السبي الأول، السبي الأشوري، الذي بدد المملكة الشمالية وشتت هذه الأسباط، وكان هذا بينة على قضاء الله العادل على شعبه.  استعرضنا في المرة السابقة فرط جنوحهِ في الارتداد عن الرب بل وفرط تهورهِ في دياجير مسالك ظلمة الوثنية والخلاعة. وعرفنا أيضًا أن موضوع نبوة هوشع، هو القضاء الذي كان وشيكًا أن ينصب على أفرايم (الأسباط العشرة) والبركة المستقبلية المخزونة لهم في قلب الرب، عندما سيعود فيرحمهم، ويجمعهم مع يهوذا ويملك عليهم، وبذلك نكون خلال دراستنا السابقة، قد عرفنا التوقيت الذي كُتب فيه سفر هوشع والموضوع المحوري لنبوته.

أما في هذه المرة، أود أن أستوضح لك المزيد عن الفكرة السابقة، وهي فكرة شر هذه الأُمة ولكن من خلال مناظر تصويرية كثيرة أو تشبيهات، اتصف بها الأسباط العشرة خلال هذا السفر، نذكر منها:

  1. امرأة زنى: (1: 2؛ 3: 1)
  2. بقرة جامحة: (4: 16)
  3. فخًا وشبكة: (5: 1)
  4. جماعة لصوص: (6: 9)
  5. تنور محمى من الخباز: (7: 4)
  6. خبز مَلَّة لم يُقلَب: (7: 8)
  7. رجل أشيب: (7: 9)
  8. حمامة رعناء بلا قلب: (7: 11)
  9. قوس مخطئة: (7: 16)
  10. إناء لا مسرة فيه: (8: 8)
  11. حمار وحشي معتزل بنفسه: (8: 9)
  12. جفنة يُخرج ثمرًا لنفسه: (10: 1)
  13. عجلة متمرنة: (10: 11)
  14. ابن غير حكيم: (13: 13)

والآن هلم معي، لنرجع ولنقف قليلاً أو كثيرًا أمام بعضٍ من هذه الأوصاف الشنيعة، التي وُصِف بها أفرايم في هذا السفر:

1) امرأة زنى:

«أول ما كلم الرب هوشع، قال الرب لهوشع: اذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى، لأن الأرض قد زنت زنىً تاركةً الرب» (هو1: 2)

«وقال الرب لي: اذهب أيضًا أحبب امرأةً حبيبة صاحبٍ وزانيةً كمحبة الرب لبني إسرائيل وهم ملتفتون إلى آلهة أخرى ومُحبون لأقراص الزبيب» (هو3: 1)

من الآيات السابقة نفهم أن الرب كلم هوشع وأمره أن يرتبط «بامرأة زنى»، فذهب النبي وأخذ جومر بنت دبلايم، ثم حبلت المرأة منه، وهنا أطرح عدة أسئلة ومن الإجابة عنها نستطيع أن نفهم المعنى الذي قصده الروح القدس من سرد هذه الحادثة على صفحات الوحي.

  • مَنْ هي جومر بنت دبلايم؟
  • ما معنى اسمها واسم أبيها؟
  • ما هي قيمتها في زناها؟ وما هي نظرة النبي لها رغم شرها؟

أ) جومر بنت دبلايم هي “امرأة زنى” أمر الرب النبي هوشع أن يرتبط بها!!! “امرأة زانية” أم “امرأة زنى”؟ وهل هناك فرق بين التعبيرين؟ نعم، فالتعبير الأول يعني أن هوشع عندما ارتبط بهذه المرأة كانت قد زنت، وأما الثاني فيعني، أن روح الزنى كان مخفيًا في هذه المرأة ومستترًا في باطنها، وأما زناها الفعلي فكان لاحقًا لزواج النبي منها، وهذا هو المعنى الصحيح للكلام. ولهذا السبب، هجرها هوشع، ففي الأصحاح الثاني يقول: «حاكموا أُمكم حاكموا لأنها ليست امرأتي وأنا لست رجلها لكي تعزل زناها عن وجهها وفسقها من بين ثدييها» (هو 2: 2)

وأما محبة هوشع لامرأته فظلت ثابتة، طالبًا ردها، وعودتها إلى الحالة الأدبية، والكرامة اللائقة به لكي تصير له مرةً ثانية، وهذا هو حديث الأعداد الثلاثة الأولى من الأصحاح الثالث.

ب) أما معنى اسمها فهو يُطابق حالتها الأدبية والأخلاقية تمامًا:

فجومر معناه كمال أو تتميم، ودبلايم معناه قرصا تين. إذًا فمعنى جومر بنت دبلايم كمال بنت قرصي التين أو تتميم بنت قرصي التين، وأي كمال هذا، يمتلئ به هذا المشهد الذي أمامنا؟ والذي يشرحه لنا الوحي من خلال اسم هذه المرأة الداعرة؟
اعتاد الناس عندما يسهبون في شرح فكرةٍ بأمثلةٍ عديدة أن يقولوا: “حدِّث ولا حرج” وأما أنا فأقول لك: “سأُحدِّث وبكل حرج” إنه كمال الشر، وتتميم المعصية.

لقد ألقينا في المرة السابقة، نظرة واسعة على تعبير ورد في الأصحاح التاسع من نبوة دانيال وهو “تكميل المعصية”، وأما في هذه المرة، أستلفت نظرك أيها القارئ، أن تعبير “تتميم” أو “تمام المعصية”، هو لغة كتابية أيضًا. ففي الأصحاح الثامن من سفر دانيآل، رأى دانيآل رؤيا بعد التي رآها في الابتداء، نقصد أنها رؤياه الثانية، وقد رآها في السنة الثالثة من مُلك بيلشاصر الملك، وكانت هذه الرؤيا خاصة بالممكلة الثانية والثالثة من ممالك أزمنة الأُمم، أي مملكة مادي وفارس ثم المملكة اليونانية، ولقد رأى في رؤياه كبشًا ذا قرنين، ينطح غربًا وشمالاً وجنوبًا، لم يقف حيوانٌ قدامه، ولم يكن منقذٌ من يدهِ، ثم رأى تيسًا من المعز، له قرنٌ معتبرٌ بين عينيه، وهو قد جاء من المغرب على وجه كل الأرض ولم يمس الأرض، فاستشاط هذا الأخير على الكبش، وطرحه إلى الأرض وداسه وكسر قرنيه، وبعد أن اعتز القرن العظيم، انكسر وطلع عوضًا عنه أربعة قرونٍ معتبرةٍ نحو رياح السماء الأربع، ومن واحدٍ منها خرج قرن صغير، وعظم جدًا نحو الجنوب ونحو الشرق ونحو فخر الأراضي، وتعظَّم حتى إلى جند السماوات، فطرح بعضًا من الجند والنجوم إلى الأرض وداسهم. وعندما جاء جبرائيل ليشرح لدانيال ما تعنيه هذه المناظر التصويرية، أخبره أن الكبش ذا القرنين هو ملوك مادي وفارس، والتيس العافي هو ملك اليونان، والقرن المعتبر الذي بين عينيه هو الملك الأول، الذي إذ انكسر قامت أربعة ممالك من الأُمة عوضًا عنه، ومن واحدة من هذه الممالك خرج القرن الصغير الذي تاريخيًا كان هو أنيوخس أبيفانوس، منجس الهيكل سنة 175- 163 ق.م، ونبويًا هو ملك الشمال الذي قال عنه جبرائيل في حديثه: « وفي آخر مملكتهم، عند تمام المعاصي، يقوم ملك جافي الوجه وفاهم الحيل» (دا8: 23). وهنا يا صديقي، عند سرد هذا العدد، أتمنى أن أكون قد وصلت إلى مرادي. فأسألك: معاصي مَنْ؟ ومَنْ هم الذين سيُتممون معاصيهم؟ لقد قصدت أن أستحضر أمامك منظر هذه الغابة، المليئة بالشراسة، المزدحمة بمَنْ ينطحون ويبطشون وينتهكون، لأسألك في النهاية: أهي معاصي الكبش النطَّاح؟ أتظن أنها معاصي التيس العافي؟ أم الملك الأول الذي أظهر تعطشًا شديدًا ليحسو دماء الآخرين؟ أتحسبها معاصي القرن الصغير، “الملك جافي الوجه وفاهم الحيل”؟ ولكن بكل أسف، ليس هذا هو قصد جبرائيل بالوحي، فمَنْ يقصد إذًا؟ أعود فأُحدثك بكل حرج. هي معاصي الأُمة أو “تمام معاصي الأُمة” فهذا ما نفهمه من معنى اسم جومر كمال الشر. تكميل المعصية. تمام المعاصي.

أما “دبلايم” فهي كلمة تعني كما ذكرنا: قرصي التين ولماذا المثنى؟

في الأصحاح الرابع والعشرين من نبوة إرميا، رأى النبي في رؤياه سلتي تين موضوعتين أمام هيكل الرب، في السلة الواحدة تين جيد جدًا كالتين الباكوري، وفي السلة الأخرى تين رديء جدًا لا يؤكل من رداءته. ومن حيث إن نبوة إرميا ليست كنبوة هوشع في موضوعها، فبينما يتنبأ هوشع، كما عرفنا للأسباط العشرة، فإن إرميا تنبأ للسبطين. وبالتبعية، بينما كان هوشع يذيع بالنبوة للأسباط العشرة خبر السبي الأشوري، الذي كان سيرسله الرب عليهم على يد شلمنأسر، كان إرميا يذيع للسبطين خبر السبي البابلي بكل تهاويله، الذي كان سيرسله الرب على يهوذا على يد نبوخذراصر ملك بابل.
فماذا تعني رؤيا إرميا التي ذكرناها؟ لم يترك الروح القدس مجالاً للاجتهاد لتفسير هذه الرؤيا، ولكن الرب “إله إسرائيل” أدلى لإرميا بالمعنى مباشرة وهو يرى الرؤيا فقال له: «... كهذا التين الجيد هكذا أنظر إلى سبي يهوذا، الذي أرسلته من هذا الموضع إلى أرض الكلدانيين للخير، وأجعل عيني عليهم للخير، وأُرجعهم إلى هذه الأرض وأبنيهم ولا أهدمهم، وأغرسهم ولا أقلعهم، وأُعطيهم قلبًا ليعرفوني أني أنا الرب، فيكونوا لي شعبًا وأنا أكون لهم إلهًا، لأنهم يرجعون إليَّ بكل قلبهم. وكالتين الرديء الذي لا يؤكل من رداءته، هكذا قال الرب: هكذا أجعل صدقيا ملك يهوذا ورؤساءه وبقية أورشليم الباقية في هذه الأرض، والساكنة في أرض مصر» (إر24: 5-8) ومما سبق نفهم أن التين الجيد يمثل مَنْ سيخضعون للقضاء، ويتواضعون “تحت يد الله القوية” ويرتضون الخضوع لرُبط وأنيار ملك بابل، وأما التين الرديء، فيمثل مَنْ سيحاولون الفِرار من القضاء والاستنجاد بالمعونات البشرية، دون أن يندموا عن شرهم “جاعلين قلوبهم على طرقهم فراجعًا وصاعدًا” وهكذا فإننا قبيل السبي البابلي نجد تينًا جيدًا وتينًا رديئًا. وأما قبيل السبي الأشوري فنجد “جومر بنت دبلايم” أي كمال الشر بنت قرصي التين، فلا نجد جيدًا ورديئًا بل رديئًا ورديئًا، فها الشر والفساد أفسد قرصي التين. أليس هذا ما قاله هوشع في السفر موضوع تأملنا!

«اسمعوا قول الرب يا بني إسرائيل. إن للرب محاكمة مع سكان الأرض لأنه لا أمانة ولا إحسان ولا معرفة الله في الأرض. لعنٌ وكذبٌ وقتلٌ وسرقةٌ وفسق. يعتنفون ودماء تلحق دماء» (هو4: 1، 2)

ج) وأما عن قيمة “جومر بنت دبلايم” امرأة زنى. يقول النبي: «فاشتريتها لنفسي بخمسة عشر شاقل فضة وبحومر ولثك شعير» (هو3: 2) ويا للخزي! هل سمعت عن فضيحة كهذه؟ هل سمعت عن مهانةٍ وبخاسةٍ أبشع من هذه؟ امرأة تباع في سوق العبيد، بخمسة عشر شاقل فضة وبحومر ولثك شعير! أليست هذه هي الأُمة التي كان عليها أن تمثل عرش يهوه على الأرض، مُحاطة بكل أنواع الوقار والمهابة؟ أليست هذه الأُمة آخذة الشريعة؟ متميِّزة عن سائر الشعوب حولها؟ ألم ينتظر منهم كمال البصيرة لا كمال الشر؟ اسمع ما يستنكر به النبي إشعياء على هذه الأُمة في نبوته قائلاً: «أيها الصُّم اسمعوا، أيها العمي انظروا لتبصروا. مَنْ هو أعمى إلاَّ عبدي وأصمُّ كرسولي الذي أرسله. مَنْ هو أعمى كالكامل وأعمى كعبد الرب. ناظرٌ كثيرًا ولا تلاحظ. مفتوح الأُذنين ولا يسمع . الرب قد سُرَّ من أجل بره. يُعظِّمُ الشريعة ويكرمها. ولكنه شعبٌ منهوبٌ ومسلوبٌ قد اصطيد في الحُفر كله، وفي بيوت الحبوس اختبأوا. صاروا نهبًا ولا مُنقذ وسلبًا وليس مَنْ يقول رُدَّ» (إش42: 18-22).

قارئي العزيز أتلاحظ الكلمة الواردة في العدد التاسع عشر من هذا الاقتباس؟ أقصد كلمة “الكامل”؟ وهل تلاحظ أيضًا الكلمة الواردة في العدد الحادي والعشرين: “يُعظِّم الشريعة ويكرمها”؟ فانتظر الرب من هذا الشعب السلوك الكامل، فلم يجد منهم إلاَّ كمال الشر، وانتظر منهم “تعظيم الشريعة وإكرامها”، ولم يجد منهم إلاَّ انتهاكًا متبجحًا لكل حقوق يهوه.
“خمسة عشر شاقل فضة وحومر ولثك شعير” بكل أسف هذا الثمن ليس هو ثمن عبد، فمن خروج 21: 32 نعرف أن قيمة العبد في القديم كانت ثلاثين من الفضة. فهذا الثمن هو ثمن نصف عبد. وماذا تعني هذه الكلمة، أقصد. نصف عبد؟ أيباع العبيد أنصافًا أم كوامل؟ لا يوجد ما يسمى بنصف عبد، لكن قصد الروح القدس أن يؤكد لنا حقيقة، وهي أن: «إنسانٌ في كرامةٍ ولا يفهم، يشبه البهائم التي تُباد» (مز49: 20) ولقد توطد هذا المعنى ببقية ثمن هذه المرأة الزانية. أقصد “حومر ولثك شعير”.

ومن كلمة الله نفهم أن الشعير ليس هو طعام الناس، إلاَّ إذا انحطت بهم الحالة المادية وعبثت بهم الأقدار، أو إذا انحطت حالتهم الأدبية، وألمت بهم الأوزار، بل هو طعام الحيوانات والبهائم التي تُباد، أليست هذه هي تقدمة المرأة الزائغة التي لم تكتف بسيدها وزاغت من تحت رجُلها، جالبة لنفسها الفضيحة وشر الانحدار؟ «عشر الإيفة من طحين الشعير لا يصب عليه زيتًا ولا يجعل عليه لبانًا» (عد5: 15). هذه هي قيمة الأمة في عنادِها وبعادها عن يهوه وهذا هو الإنسان بصفةٍ عامة في بعده عن الله.

 

لو كان غيرك سيدي
من أين كنت سأُرحمُ
  لو كنت منه أُقيم
وبذا المقام أُكرَمُ؟
بطرس نبيل