أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد مايو السنة 2019
موسى ودلالة العلامات
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

بعد ٤٠ سنة قضاها موسى فيما وراء البرية، نجد أن الله يزوره، ويُعلِن له صراحة عن قصده بأن يُرسله إلى فرعون، وليُخْرِج شعب الله من مصر (ع ١٠). وبدلاً من أن نجد موسى ينحني في شكر وتعجب لتنازل الله وتكرُّمه بإرساله في مهمة عظيمة مثل هذه، نجده يرد: «مَنْ أَنَا حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَحَتَّى أُخْرِجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ؟» (ع ١١). ولكن الله يقنع موسى بأنه سيكون معه (ع ١٢). ولكننا نجد موسى يعود للتساؤل مرة أخرى عن أي اسم لله، يُخاطب به إسرائيل (ع ١٣). وهنا نرى الله يُعلِن نفسه باعتباره “يَهْوَهْ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ” (ع ١٥)، ويعده الله بأنه سوف يُخلِّص شعبه من معاناة مصر، ويُحضرهم إلى أرض كنعان. ويأمر الله خادمه بالظهور أمام فرعون ليُخبره بأن يسمح للعبرانيين بأن يمضوا سفر ثلاثة أيام في البرية، ليذبحوا للرب إلههم (ع ١٨). ويُطلعه الله بأنه يعلم أن فرعون لن يوافق على طلبه، ومع ذلك سوف يُريه الله عجائبه التي تجعله في النهاية يُطلقهم (ع ٢٠). وليس هذا فقط، ولكنه يُعطي شعبه نعمة في عيون المصريين، فلا يمضون فارغين (ع ٢١). وعلى الرغم من كل هذه التأكيدات الكريمة، يستمر موسى في وضع الصعوبات والاعتراضات «فَأَجَابَ مُوسَى وَقَالَ: وَلَكِنْ هَا هُمْ لاَ يُصَدِّقُونَنِي وَلاَ يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي، بَلْ يَقُولُونَ: لَمْ يَظْهَرْ لَكَ الرَّبُّ» (خر ٤: ١). والأصحاح الرابع يستأنف سرد القصة الإلهية من هذه النقطة.

وفي رد الله على هذه الصعوبة الثالثة التي وضعها موسى، وَهبَ الله خادمه المتردد، القوة ليقوم بعمل ثلاث عجائب أو علامات، وهي التي كان من المنتظر أن يقوم بإجرائها أمام شعبه، لإقناعهم بأن موسى هو المُفوَّض من قِبَل الله. ولكن هناك معاني عميقة لهذه الثلاث علامات، وقد صُمِّموا لكي يُعلِّموا دروسًا عميقة لكل مِن موسى وإسرائيل، ولنا أيضًا. ففي بداية تاريخ إسرائيل كانت وسيلة الله للتعليم بالعلامات والرموز، أكثر من التعليمات الرسمية الصريحة. والحقيقة الهامة أيضًا أن هذه الثلاث علامات كانت أول علامات تُسجَّل في الكتاب، مما يُعطي لها أهمية خاصة في دراستنا هذه.

«فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: مَا هَذِهِ فِي يَدِكَ؟ فَقَالَ: عَصًا. فَقَالَ: اطْرَحْهَا إِلَى الأَرْضِ. فَطَرَحَهَا إِلَى الأَرْضِ فَصَارَتْ حَيَّةً، فَهَرَبَ مُوسَى مِنْهَا. ثُمَّ قَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: مُدَّ يَدَكَ وَأَمْسِكْ بِذَنَبِهَا. فَمَدَّ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ، فَصَارَتْ عَصًا فِي يَدِهِ. لِكَيْ يُصَدِّقُوا أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ لَكَ الرَّبُّ إِلَهُ آبَائِهِمْ، إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ» (خر ٤: ٢-٥).

أول هذه الآيات هي تحويل العصا إلى حَيَّة، ثم تحويلها مرة أخرى إلى عصا.

وفي دراستنا لهذه الأعجوبة، سنتأملها من سبعة أوجه مختلفة، هي بالترتيب: (١) دروسها العملية، (٢) معناها التعليمي، (٣) قيمتها كبرهان، (٤) رسالتها الإنجيلية، (٥) مدلولها التاريخي، (٦) نبوتها التدبيرية، (٧) معناها الرمزي.

ليت الرب يمنحنا أعينًا للنظر وآذانًا للسمع!

لا شك أن أول غرض لله من هذه العلامة هو أن يُعلِّم موسى نفسه درسًا عمليًا لا نجد صعوبة في اكتشافه. فالمعجزة لا بد أن تُنَفَّذُ بالعصا التي في يده. وهذه العصا - أو العكاز كما تأتي في بعض الترجمات – هي دعامته. إنها هي التي تُعينه عندما يمشي، والتي يستند عليها عندما يتعب. إنها تعني بالنسبة له الدفاع في أوقات الخطر. وفي ضوء مزمور ٢٣: ٤ نتعلَّم أن العصا تتحدث عن نعمة الله المُقويَّة والمُريحة والحامية.

وهنا نرى أول درس أراد الله تعليمه لموسى؛ فطالما موسى مستمر بالاتكال على الله، فالكل سوف يسير حسنًا. ولكن دعه يطرح عصاه إلى الأرض، دعه يُنكر نعمة الله، دعه يتخلى عن اتكاله على الله، دعه يُحاول أن يقف بمفرده، سوف يجد نفسه عاجزًا أمام الحيَّة القديمة؛ الشيطان.

هنا نرى الدرس العملي العظيم لموسى، ولنا أيضًا. إن سر النصرة على الشيطان يكمن في استنادنا – في ضعف واضح – على عكازنا: قوة الله.

وهذه العلامة قد أُعطيت وكُتِبَت لتعليم موسى، وأيضًا لتعليمنا نحن، درسًا تعليميًا هامًا. وكما فسر لنا مزمور ٢٣: ٤ الدرس العملي، فإن مزمور ٢: ٩ يُعطي لنا مفتاح الدرس التعليمي (قارن رؤيا ٢: ٢٧). فنحن نعلم أنه خلال المُلك الألفي سوف يحكم الرب الأمم بقضيب (عصا) من حديد. العصا إذًا تُحدثنا عن السلطان السياسي. ولكن ماذا عن طرح العصا إلى الأرض؟ بالتأكيد هذا يُخبرنا عن تفويض الله للسلطان السياسي على الأرض. لكن ماذا كان تاريخ الإنسان في استعمال هذا السلطان؟ الإجابة ما تُخبرنا به الحيَّة. فالحيَّة وُظِّفت في خدمة الشيطان، وهذا ما أثبته آدم عندما أعطاه صانعه سلطانًا على كل ما حوله. وهذا أيضًا ما أثبتته أمة إسرائيل، بعد أن امتلكوا أرض كنعان. كما استمر ذلك طوال فترة أزمنة الأمم.

ولكن الشيء المُعزي هنا هو أن الحيَّة لن تنجح في أكثر من هروب موسى منها. لكن موسى - كَمُمَثِل للرب أمام إسرائيل – مد يده وأمسك بذنبها، لأن الوقت لسحق رأسها لم يكن قد أتى بعد. وهكذا تحوَّلت الحيَّة إلى عصا مرة أخرى. وهذا يُخبرنا عن أن الشيطان ليس له مُطلق الحرية في أن يفعل ما يريد في هذه الفترة على الأرض، ولكنه تحت سيطرة الله تمامًا، فالله يستخدمه لإنجاز مشيئته كما يريد تمامًا. كما أن الله أراد أن يطمئن خادمه بأن العدو، وإن ثار ضده، لكنه لن يستطيع أن يُقاوم مشيئته.

فالآية التي كان من المُحدد أن يُجريها موسى أمام العبرانيين، لا بد وأن تثبت أن الله دعاه وفوَّضه ليكون مُخلِّصهم. والقيمة البرهانية لهذه الآية من السهل ملاحظتها. فرؤية عصا وهي تتحوَّل إلى حيَّة أمام أعين شعب إسرائيل – في حد ذاتها – دليل على أنه قد مُنِحَ قوة غير طبيعة. ورؤيته وهو يُمسك بذنبها لتتحوَّل مرة أخرى إلى عصا، يُثبِت أن موسى لا يقوم بهذه المعجزة بمساعدة من الشيطان. فموسى كان لا بد وأن يُريهم أنه قادر على التعامل مع الحيَّة حسب مشيئته، فيجعل العصا حيَّة، ويجعل الحيَّة عصا!

هنا نجد أنه بإجراء معجزة تفوق تمامًا قدرات الإنسان، ولا يُمكن أن تُجرى بمساعدة إبليس، قد أثبت موسى أنه مُكلَّف مِن قِبَل الله.

هذه المعجزة أيضًا تحمل رسالة مُفرحة، ولكن هذا ربما يبدو أكثر صعوبة من المعاني التي رأيناها. العصا طُرحت إلى الأرض، فصارت حيَّة. ويُخبرنا الكتاب «فَهَرَبَ مُوسَى مِنْهَا» (ع ٣). واضح أنه يتحدث هنا عن عجز الإنسان في أن يتعامل مع الشيطان، فالخاطئ موضوع تمامًا تحت قوة إبليس «إِذْ قَدِ اقْتَنَصَهُمْ لإِرَادَتِهِ» (٢تي ٢: ٢٦). هذه كانت حال إسرائيل في هذا الوقت، فقد كانوا موضوعين تحت عبودية قاسية فرضها فرعون والمصريون عليهم، وأكثر من ذلك فقد كانوا غير قادرين أن يُحرّروا أنفسهم منها. ولكن القدرة الإلهية فقط تقدر أن تُحررهم. وهذا بالضبط ما كانت الآية تريد أن تُخبرهم. علاوة على ذلك فقد كانت القوة موجودة في يد المُحرِّر والمُخلِّص موسى، الذي وقف بين الله وإسرائيل، وهو فقط الذي يستطيع أن يُحرِّر ويُخلِّص من الحيَّة، فسلطانه على الحيَّة ظهر عندما مدَّ يده وأمسك بذنبها، فاختفت الحيَّة تمامًا عندما تحوَّلت إلى عصا مرة أخرى.

هنا نرى صورة جميلة عن الرب يسوع، الوسيط الوحيد بين الله والناس (١تي ٢: ٥)، والذي كان موسى رمزًا له، ففيه وحده رجاؤك، فهو فقط يستطيع أن يُخلِّصك من سلطان الحيَّة القديمة إبليس (رؤ١٢: ٩؛ ٢٠: ٢).

دعنا الآن نُفكر في المدلول التاريخي لهذه الآية. فالآية نفسها تتكون من ٣ أشياء: عصا في يد موسى، العصا تُلقى على الأرض وتُصبح حيَّة، الحيَّة تتحوَّل ثانية إلى عصا. هذه الثلاثة أشياء تُصوِّر بدقة تاريخ إسرائيل المُبكِّر من دعوة إبراهيم إلى نزول أسلافه إلى مصر. وبني إسرائيل كانوا في يد الله أثناء تولي يوسف الحكم على مصر. ولكن بعدما قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف، أُلقي العبرانيين إلى الأرض، مُذلين بعبودية قاسية. وحتى وقت موسى كان ظاهرًا كما لو كانوا تحت رحمة الشيطان تمامًا. ولكن وقت الخلاص قريب، وأراد الله أن يطمئنهم بهذه العلامة، فإنهم لن يبقوا في موضع العبودية طويلاً، ولكنهم سوف يخرجون. وليس هذا فقط، لكن الجزء الثالث من الآية يُرينا أنهم سوف يُرفعون إلى مكان السيادة والسلطان ثانية، وقد تحقق ذلك عندما وصلوا إلى الأرض الموعودة، واستعبدوا الكنعانيين.

حيث تُرينا الآية نبوة عن مقاصد الله المستقبلية، فهي لا تُصوّر لنا فقط تاريخ إسرائيل القديم، ولكنها تتكلَّم بطريقة مُميَّزة عن تاريخهم المستقبلي. فالعصا في اليد تُذكرهم بموضع ومكانة السلطة في كنعان، فهذا نصيب يهوذا حتى يأتي شيلون (تك ٤٩: ١٠)، ولكن بعد رفضهم للمسيح، طُرِحَت العصا إلى الأرض، ولمدة ٢٠ قرنًا من الزمان، أصبح إسرائيل فريسة للحيَّة. ولكن هذا لن يستمر للأبد، فالوقت سوف يجيء حتمًا، عندما يُرفع إسرائيل من التراب، تحت قيادة مَن هو أعظم من موسى، ليُصبِح رأسًا لا ذنبًا (تث ٢٨: ١٣). وهكذا فهذه الآية تُصوِّر لنا ماضي وحاضر ومستقبل أمة إسرائيل.

الأكثر عمقًا وصعوبة هنا هو المغزى الرمزي للآية، فالإشارة الرئيسية هنا هي إلى المسيح نفسه، وإلى قصد التجسد الإلهي. ففي مزمور ١١٠: ٢ يُشار إلى الرب يسوع باعتباره عصا الرب «يُرْسِلُ الرَّبُّ قَضِيبَ عِزِّكَ مِنْ صِهْيَوْنَ. تَسَلَّطْ فِي وَسَطِ أَعْدَائِكَ». والإشارة هنا إلى مُلك المسيح وسلطانه حينما يُستعلّن كاملاً، ولكن هذا ليس موضوعنا، فالإشارة إلى العصا على الأرض تُشير إلى مجيئه بالضعف والاتضاع.

ولكن ثمة اعتراض هنا، فبالتأكيد لا توجد أي إمكانية هنا أن تُصبِح العصا حيَّة. ولكن في تكوين ٣ تُذكَر الحيَّة بالارتباط باللعنة، وعلى الصليب صار المسيح لعنة لأجلنا (غل ٣: ١٣). أَلم يقل الرب لنيقوديموس: «وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَان، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يو ٣: ١٤، ١٥). أما الآن فقد رُفِعَ الرب يسوع (العصا) عن يمين الله، وقريبًا سوف يأتي بالقوة والسلطان.

ويا للروعة وجمال دلالة العلامة الأولى التي أعطاها الرب لموسى.

وللحديث بقية.


آرثر بنك