أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2020
رسالة رجاء في زمن الوباء
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

جاءت فترة هذا الوباء لتكشف كل مستور، ولتبيِّن ما كان كل إنسان يضع رجاءه فيه؛ فمن وضع رجاءه على صحته، أصبح يخشى المرض.  ومن وضع رجاءه على الثروة، أصبح يخشى نقصانها.  ومن وضع رجاءه على الوظيفة، أصبح مهددًا بفقدها.  ومن وضع رجاءه على المركز، أصبح مُعرَّضًا أن يُحرم منه.  ومن وضع رجاءه في ممتلكاته، أصبح غير قادر على التمتع بها.

لكن نشكر الرب، لأن للمؤمن رجاء قال عنه بولس «لأَنَّنَا لِهذَا نَتْعَبُ وَنُعَيَّرُ، لأَنَّنَا قَدْ أَلْقَيْنَا رَجَاءَنَا عَلَى اللهِ الْحَيِّ، الَّذِي هُوَ مُخَلِّصُ جَمِيعِ النَّاسِ، وَلاَ سِيَّمَا الْمُؤْمِنِينَ» (١تي ٤: ١٠). 

وفترة الوباء هذه يُميّزها أيضًا مخاوف كثيرة، أحد أهم أسبابها هو غياب اليقينية، فلا شيء يقيني: متى سيُمكن إيقاف انتشار الوباء؟!  ومتى سيمكن للناس التنقل من بلد الى بلد دون خوف؟!  ومتى سينصلح الاقتصاد العالمي؟!  لا أحد يعرف شيئًا، ولا يمكن التنبؤ بشيء.  وكأن الله أراد في هذه الفترة أن يكتب من جديد بأصابعه، على مكلس حائط العالم، مُعلنًا سلطانه وحكمته وقدرته، ورحمته أيضًا. 

لكن بالنسبة لنا كمؤمنين هناك يقينيات تقدّمها لنا كلمة الله.  وفي رومية ٨: ٢٨–٣٩ نجد خمس يقينيات:

أولاً: يقين السلطان الإلهي: «وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ» (ع ٢٨). نعم، متيقنون “أَنَّ الله يجعَلُ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ”.  إنه – تبارك اسمه – يمزج كل الظروف: الصحة والمرض، السعة والضيق، النجاح والفشل، لكي تؤول - جميعها معًا - لخيرنا.  ولعل حياة يوسف أوضح صورة لهذا المبدأ العظيم: إن الله يعمل دائمًا ما هو لخير شعبه، خيره الروحي هنا في الحياة: النضوج الروحي (يع ١: ٢، ٣)، ثم المكافآت الأبدية ونوال الأكاليل (يع ١: ١٢).  إن إلهنا الذي يحضر جنازة كل عصفور يسقط إلى الأرض، والذي يحصي شعور رؤوسنا جميعها، لن يفلت منه شيء، اذ إنه مُطلَق السلطان.

ثانيًا: يقين القصد الإلهي: «الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ» (ع ٢٨). لا يوجد شيء عشوائي عند الله، بل كل شيء مُخطَّط بدقة، ويشرح الرسول بولس هنا القصد الإلهي في خمس حلقات ذهبية، تمتد من الأزل الي الأبد «لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ، لِيَكُونَ هُوَ بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ.  وَالَّذِينَ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ، فَهؤُلاَءِ دَعَاهُمْ أَيْضًا. وَالَّذِينَ دَعَاهُمْ، فَهؤُلاَءِ بَرَّرَهُمْ أَيْضًا.  وَالَّذِينَ بَرَّرَهُمْ، فَهؤُلاَءِ مَجَّدَهُمْ أَيْضًا» (ع ٢٩، ٣٠).

ما أروع هذا القصد؛ إنه في الأزل اختارنا، وعيَّننا لمركز عظيم جدًا؛ أن نكون مشابهين صورة الابن الحبيب ربنا يسوع.  وهذا سيتم حرفيًا عندما «نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (١يو ٣: ٢). ثم في الزمان دعانا بواسطة الإنجيل، وإذ قبلناه بررنا أيضًا.  ورغم أننا لم نُمجَّد بعد، لكن الرسول بولس يقول لنا «مَجَّدَهُمْ أَيْضًا»، مُعلِّنا يقين المجد وحتميته.  ترى أتوجد قوة يُمكنها إعاقة الله عن إتمام قصده؟!

ثالثًا: يقين العطاء الإلهي: «فَمَاذَا نَقُولُ لِهذَا؟  إِنْ كَانَ اللهُ مَعَنَا، فَمَنْ عَلَيْنَا؟ اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ» (ع ٣١، ٣٢). هذا قمة الإعلان في رسالة رومية أن الله لنا، وفى صفنا؛ والبرهان لهذا: إنه لم يُمسك عنا ابنه، بل بذله لأجلنا!

والسؤال المطروح: هل مِن المُمكن أن الله بعد ما أعطى الأغلى يُمسك عنا ما هو أقل؟!  في أحيان كثيرة لا نفهم لمَ لَم يهبنا الله هذا أو ذاك؟  السبب ان هناك شرطًا؛ «يَهَبُنَا مَعَهُ»، أي أن يكون هذا الشيء أو ذاك، لا يتعارض مع مجد المسيح في حياتنا.  إن أعظم برهان لصلاح الله هو في عطية ابنه الرب يسوع.

رابعًا: يقين الخلاص الإلهي: «مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي اللهِ؟  اَللهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ.  مَنْ هُوَ الَّذِي يَدِينُ؟  اَلْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي مَاتَ، بَلْ بِالْحَرِيِّ قَامَ أَيْضًا، الَّذِي هُوَ أَيْضًا عَنْ يَمِينِ اللهِ، الَّذِي أَيْضًا يَشْفَعُ فِينَا» (رو ٨: ٣٣، ٣٤).

يطرح الرسول أسئلة لا إجابات عنها، إذ يؤكد استحالة فقد المؤمن لخلاصه.  فالمشتكى يشتكي دائمًا.  لكن القاضي قد بررنا في ساحة المحكمة، فلا تنفع الشكاية.  ثم مَن يدين المؤمن، هل المسيح الذي مات وقام، وهو عن يمين الله، بل أيضًا يشفع فينا؟!  حاشا. إذًا خلاص المؤمن أكيد ومضمون.  ويا له من يقين!

خامسًا: يقين الحب الإلهي: «مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟  أَشِدَّةٌ أَمْ ضِيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟  ... فِي هذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا.  فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ، وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ، وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً، وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ، وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رو٨: ٣٥-٣٩).

يا للروعة: لا شيء يفصلنا عن محبة المسيح، ولا شيء يفصلنا عن محبة الله التي في المسيح، وبينهما «يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا».  إذًا أي قوة تحرمنا من هذا الحب الإلهي؟!

شكرًا لإلهنا على اليقينيات الكتابية في زمن المخاوف الإنسانية.

فريد زكي