أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2020
الكورونا ... العالم أم المؤمنين؟!
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

لم يحدث في أيامنا ولا في أيام آبائنا، ولا سمعنا في كل التاريخ البشرى (يوئ ١: ٢)، منذ أيام الطوفان، أن حدثت كارثة مروعة مهددة لكل الجنس البشرى، مثل انتشار فيروس كورونا، الذي اُبتليت به البشرية مؤخرًا، والذي نرى فيه التطبيق الحرفي للقول: «فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ (بلا استثناء، ومعًا، وفى نفس الوقت) تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ» (رو ٨: ٢٢).  والكل يؤكد على أن العالم بعد كورونا سيكون مختلفًا عن العالم قبله.  فسيعاد ترتيب العالم من كل النواحي، وسيحدث فيه تغيير جوهري: صحي، واجتماعي، واقتصادي، وسياسي، وحتى عسكري.

 ومع أن الألم والدموع في الحياة، والأحداث المأساوية سببها الرئيسي هو دخول الخطية إلى العالم (تك ٣: ١٧-١٩)، وأن الشيطان هو رئيس هذا العالم (يو ١٤: ٣٠)، وأن له القدرة على صنع الكوارث والزلازل والأوبئة على الأرض، فهو الذي ضرب أيوب بقرح رديء في جسمه (أي ٢: ٧).  لكن لا يزال الله هو الْعَلِيَّ المُتَسَلِّطٌ فِي مَمْلَكَةِ النَّاسِ «وَهُوَ يَفْعَلُ كَمَا يَشَاءُ فِي جُنْدِ السَّمَاءِ وَسُكَّانِ الأَرْضِ، وَلاَ يُوجَدُ مَنْ يَمْنَعُ يَدَهُ أَوْ يَقُولُ لَهُ: مَاذَا تَفْعَلُ؟» (دا ٤: ١٧، ٣٥).  ولا يستطيع الشيطان مهما كان جبروته أن يصنع شيئًا دون سماح من الله.  ولا سيما عندما تكون كارثة يتأثر بها كل المؤمنين على وجه الأرض.  عندما حدثت قديمًا كارثة الجراد على الشعب، قال الرب لهم عنه: «جَيْشِي الْعَظِيمُ الَّذِي أَرْسَلْتُهُ عَلَيْكُمْ» (يؤ ٢: ٢٥)، «مَنْ ذَا الَّذِي يَقُولُ فَيَكُونَ وَالرَّبُّ لَمْ يَأْمُرْ؟  مِنْ فَمِ الْعَلِيِّ أَلاَ تَخْرُجُ الشُّرُورُ وَالْخَيْرُ؟» (مرا ٣: ٣٧، ٣٨). 

معاملات الله مع العالم

لماذا تفتح طاقة من السماء، وتظهر منها رائحة الغضب الإلهي على العالم، مع أننا في زمن صبر المسيح، وفي سنة الرب المقبولة (لو ٤: ١٩)؛ في الزمن الذي لا يزال الله يُظهر فيه «غِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ» (رو ٢: ٤)؟ الكل يعلم أن ما هو حادث ليس هو الدينونة التي يستحقها العالم بسبب خطاياه وفجوره، لأنه لم يأتِ بعد وقت الدينونة، كما أن هذا ليس شكل الدينونة المُرعبة المخيفة التي حددها الله كأجرة الخطية وعقابها، والتي هي نار لا تُطفأ ودود لا يموت.

لكن الله - في سياسته مع العالم - أحيانًا يلجأ لوسائل قضائية تُبين غضبه وعدم رضاه، سواء من قبيل تتميم مبدأ الزرع والحصاد، أو العقاب الزمنى للخطية.  وهذا يحدث غالبًا عندما يرى الله أن مكيال شر العالم قد اكتمل، وأنه نضج للدينونة الأرضية، عندئذ يمكن أن يكشف الله لهم كيف يمكن أن يجعل عظماء العالم وحكماءه وعلماءه يقفون عاجزين.  ويُعلن لهم كيف يمكن - لو أراد - أن يذل العالم بأبسط وأتفه الوسائل، التي لا تستطيع مواجهتها كل القوى التي يحتمون فيها، سواء علمية أو مالية أو عسكرية، أو مجتمعة معًا.  حدث هذا في أيام الطوفان عندما «رَأَى الرَّبُّ (هو الذي رأى وحدد) أَنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ» (تك ٦: ٥).  بعدها أنزل الطوفان وأهلك الجميع.  وحدث عندما رأى «أِنَّ صُرَاخَ سَدُومَ وَعَمُورَةَ قَدْ كَثُرَ، وَخَطِيَّتُهُمْ قَدْ عَظُمَتْ جِدًّا» (تك ١٨: ٢٠)، أنه قرر إهلاك سدوم وعمورة بالنار.  وفي كل مرة كان السبب هو الخطية والشر.  ويقينًا أن كل هذا موجود في العالم حاليًا: شر الإنسان وتحديه وتطاوله على الله، ورفضه لكل المبادئ الإلهية.  وها هو الرب يُظهر للعالم عَيِّنَةً من غضبه، في هذه الأيام.  وهو تحذير للعالم، وصوت إنذار قوى واضح، يصل للجميع، لعله يستفيق، وتكون هناك توبة مثلما حدث مع نينوى قديمًا.  وهذا سيفتح الباب لرجوع الكثيرين للرب «خَلِّصُوا الْبَعْضَ بِالْخَوْفِ» (يه ٢٣). 

معاملات الله مع المؤمنين

ما حدث يمثل ضغطًا على المؤمنين أكثر من العالم.  فأن تُغلَق الاجتماعات كلها في كل العالم، وأن يُحرموا من الوجود في حضرة الرب، وتقديم السجود له، وهم يشعرون بالقول: «يَجْلِبَ عَلَيْنَا شَرًّا عَظِيمًا، مَا لَمْ يُجْرَ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ كُلِّهَا كَمَا أُجْرِيَ عَلَى أُورُشَلِيمَ» (دا ٩: ١٢).  فلماذا يقبل الرب أن يحرم نفسه من سجود المؤمنين، الذي يتطلع إليه عندما يلتفون حوله، وهو الشيء الوحيد الذي يفرح به، ويشتم منه رائحة طيبة على وجه الأرض؟  ها الرب كأنه يقول: «لاَ تَعُودُوا تَأْتُونَ بِتَقْدِمَةٍ بَاطِلَةٍ ... لَسْتُ أُطِيقُ الإِثْمَ وَالاعْتِكَافَ.  رُؤُوسُ شُهُورِكُمْ وَأَعْيَادُكُمْ بَغَضَتْهَا نَفْسِي. صَارَتْ عَلَيَّ ثِقْلاً. مَلِلْتُ حَمْلَهَا» (إش ١: ١٣، ١٤).  كما أن المؤمنين حُرموا من ينابيع الفرح في شركتهم بعضهم مع بعض!

وبالتالي فمن الخطأ والخطر أن ننسب الأمر ومُسبباته كلها إلى العالم وفجوره فقط، متجاهلين دور المؤمنين فيما حدث.  فالعالم وُضع في الشرير.  وحتى لو تاب، ستكون توبته مؤقتة لتجنب نتائج الخطية ورفع الغضب.  لكن يقينًا أن دور المؤمنين أكبر، والقصد الإلهي بخصوص جماعة المؤمنين أهم وأسمى جدًا.  ينبغي للمؤمنين أن يسألوا أنفسهم: ماذا يريد الرب أن يقول لنا؟  هل لنا دور في ما حدث؟  الإجابة عن هذه الأسئلة سيجعل المؤمنين لا يقفون موقف المتفرج على الأحداث، منتظرين نهايتها، بل سيحدد كيف يكون تجاوبهم.  دعونا نفكر في بعض المبادئ الإلهية التي قد تساعدنا في ذلك:

(١) المؤمن بركة للعالم: هذا ما قاله الرب لأبرام أبي المؤمنين، وهو مرتبط بمبدأ الاختيار والنعمة المطلقة: «أُبَارِكَكَ ... وَتَكُونَ بَرَكَةً.  وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ» (تك ١٢: ٢، ٣).  وهذا ما حدث مع يوسف؛ فمع أن الرب سمح أن يكون في أسوأ الأماكن، في بيت فوطيفار، ولكن «الرَّبَّ بَارَكَ بَيْتَ الْمِصْرِيِّ بِسَبَبِ يُوسُفَ.  وَكَانَتْ بَرَكَةُ الرَّبِّ عَلَى كُلِّ مَا كَانَ لَهُ فِي الْبَيْتِ وَفِي الْحَقْلِ» (تك ٣٩: ٥). وهذا حدث أيضًا مع الرسول بولس عندما نجَّا الرب جميع الذين في السفينة، وقد كانوا غير مؤمنين، فقد ظهر له ملاك من الرب وقال له: «لاَ تَخَفْ يَا بُولُسُ... هُوَذَا قَدْ وَهَبَكَ اللهُ جَمِيعَ الْمُسَافِرِينَ مَعَكَ» (أع ٢٧: ٢٤).

إن وجود مؤمن تقي يخاف الله في أي مكان، يجعل هذا المؤمن بركة للمكان، مهما كان شر الساكنين فيه.

(٢) المؤمن محفوظ تمامًا في حالة معاملات الله القضائية مع العالم: إذا سمح الرب، في سياسته مع العالم، أن يُجرى معهم معاملات قضائية، فإن المؤمنين الذين يعيشون حياة التقوى والأمانة، عندهم من المواعيد والضمانات ما هو كافٍ لحفظهم في وسط هذه الظروف «لاَ تَخَفْ لأَنِّي فَدَيْتُكَ.  دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ.  أَنْتَ لِي.  إِذَا اجْتَزْتَ فِي الْمِيَاهِ فَأَنَا مَعَكَ، وَفِي الأَنْهَارِ فَلاَ تَغْمُرُكَ.  إِذَا مَشَيْتَ فِي النَّارِ فَلاَ تُلْذَعُ، وَاللَّهِيبُ لاَ يُحْرِقُكَ» (إش٤٣: ١، ٢).  ولهم القول: «اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ الْعَلِيِّ، فِي ظِلِّ الْقَدِيرِ يَبِيتُ ... لأَنَّهُ يُنَجِّيكَ ... مِنَ الْوَبَإِ الْخَطِرِ ... لاَ تَخْشَى ... مِنْ وَبَإٍ يَسْلُكُ فِي الدُّجَى ... يَسْقُطُ عَنْ جَانِبِكَ أَلْفٌ، وَرِبْوَاتٌ عَنْ يَمِينِكَ.  إِلَيْكَ لاَ يَقْرُبُ.  إِنَّمَا بِعَيْنَيْكَ تَنْظُرُ وَتَرَى مُجَازَاةَ الأَشْرَارِ» (مز ٩١: ١-٨).

(٣) الرب يصفح عن العالم وعن المؤمنين، في قضائه الزمني، من أجل الأتقياء: هذا مبدأ في قلب الله منذ القديم، إنه يبحث عن شخص تقى بار، يتوافق معه في الفكر، لكي يقف أمامه متضرعًا لأجل المؤمنين في ضعفهم وفشلهم، أو حتى لأجل العالم في فساده، لكي يصفح عن القضاء عليهم.  هذا ما نجده في إرميا ٥: ١ «طُوفُوا فِي شَوَارِعِ أُورُشَلِيمَ وَانْظُرُوا، وَاعْرِفُوا وَفَتِّشُوا فِي سَاحَاتِهَا، هَلْ تَجِدُونَ إِنْسَانًا أَوْ يُوجَدُ عَامِلٌ بِالْعَدْلِ طَالِبُ الْحَقِّ، فَأَصْفَحَ عَنْهَا؟».  وفي حزقيال ٢٢: ٣٠ نقرأ: «طَلَبْتُ مِنْ بَيْنِهِمْ رَجُلاً يَبْنِي جِدَارًا وَيَقِفُ فِي الثَّغْرِ أَمَامِي عَنِ الأَرْضِ لِكَيْلاَ أَخْرِبَهَا، فَلَمْ أَجِدْ».  وأيضًا «فَرَأَى أَنَّهُ لَيْسَ إِنْسَانٌ، وَتَحَيَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ شَفِيعٌ» (إش ٥٩: ١٦).  

والرب مستعد أن يصفح - بسبب الأتقياء - عن العالم وشره أيضًا.  هذا ما قاله لإبراهيم عندما كان يتشفع لأجل سدوم ولأجل لوط «فَقَالَ الرَّبُّ: إِنْ وَجَدْتُ فِي سَدُومَ خَمْسِينَ بَارًّا فِي الْمَدِينَةِ، فَإِنِّي أَصْفَحُ عَنِ الْمَكَانِ كُلِّهِ مِنْ أَجْلِهِمْ ... لاَ أُهْلِكُ مِنْ أَجْلِ الْعَشَرَةِ» (تك١٨: ٢٦، ٣٢).  ولأجل إبراهيم أنقذ الرب لوطًا من سدوم (تك١٩: ٢٩).  لكن أحيانًا، عندما يكون هناك حكم إلهي قد صدر، يطلب الله من الأتقياء ألا يصرخ له أحد لأنه لن يسمع (إر ٧: ١٦؛ ١٤: ١١، ١٢؛ ١٥: ١).

(٤) العالم يتأثر ويُضار إذا وقع تأديب على المؤمنين: أحيانًا يقوم الرب بتأديب شعبه، بسبب عدم طاعتهم وبُعدهم عن التقوى.  في هذه الحالة يُضار المحيطين بهم، وليسوا هم المقصودين بهذه المعاملات.  وهذا نراه مرارًا كثيرة في كلمة الله. 

عندما خرجت يد الله التأديبية على نُعمى وهي في بلاد موآب، قالت لكنتاها عُرفه وراعوث: «يَا بِنْتَيَّ ... إِنِّي مَغْمُومَةٌ جِدًّا مِنْ أَجْلِكُمَا لأَنَّ يَدَ الرَّبِّ قَدْ خَرَجَتْ عَلَيَّ» (را ١: ١٣).  هي المقصودة، لكن في طريق ذلك أُضيرت كنتاها إذ فقدت كل منهما رجلها.      

في قصة يونان عندما كادت السفينة تغرق، ويهلك كل من فيها، كان السؤال: «أَخْبِرْنَا بِسَبَبِ مَنْ هذِهِ الْمُصِيبَةُ عَلَيْنَا؟»، فكانت إجابة يونان «إنَّهُ بِسَبَبِي هذَا النَّوْءُ الْعَظِيمُ عَلَيْكُمْ» (يون ١: ٨، ١٢).

بسبب إبراهيم «ضَرَبَ الرَّبُّ فِرْعَوْنَ وَبَيْتَهُ ضَرَبَاتٍ عَظِيمَةً بِسَبَبِ سَارَايَ امْرَأَةِ أَبْرَامَ.  فَدَعَا فِرْعَوْنُ أَبْرَامَ وَقَالَ: مَا هذَا الَّذِي صَنَعْتَ بِي؟» (تك ١٢: ١٧، ١٨). 

 هل يمكن القول إنه أحيانًا كثيرة يكون رضا الله أو غضبه على العالم، تُحدِّده حالة المؤمنين الروحية؟

 ماذا إذًا؟  أين نحن؟  هل هي معاملات إلهية معنا؟  هل بسببنا هذه المصيبة على العالم؟  هل لا نحتاج إلى امتحان النفس في محضر الله؟  ماذا كانت حالتنا قبل الكورونا مباشرة؟  هل ما زال كل منا يعتبر أن السبب الرئيسي هو شر العالم، أم ضعف المؤمنين، أم فشل الإخوة، أم تَسَيَّب الآخرين!  أم يدرك أنه هو المسؤول الأول أمام الله؟ هل نقوم بدورنا - كل في مكانه - بدءً من المسؤولين، نصرخ مع عزرا ونحميا ودانيال (عز ٩: ١-٧؛ نح ٩: ٥-١٠؛ دا ٩: ١٥-١٩)؟

إنها فرصة لن تتكرر، وقد سمح الرب لكل المؤمنين بالتزام بيوتهم لعدة أشهر، للبقاء في نور محضر الله ليكشفنا (مز ١٣٩: ٢٤).  فرصة للتغيير العميق في الحياة، والذي لم يحدث سابقًا بحجة ضيق الوقت.  فرصة للاتضاع والإرادة الخاضعة وعدم الاعتداد بالرأي.  فرصة لتغيير الأفكار وتجديدها حسب المكتوب.

 إن كل ما حدث في الماضي من مشاكل، جعلت الرب يسمح بهذا الذل لنا، سببه الكبرياء البشري واعتداد الإنسان برأيه وعناده.  وهذا ليس غريبًا على أي واحد منا.  ليبدأ كل منا بنفسه، لعل الرب يُخرج من الآكلِ أُكلاً ومن الجافي حلاوة.  إنه أعلى صوت تكلَّم به الرب إلينا، فهل نتجاوب؟!

عصام عزت