أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2017
ببراهين كثيرة قاطعة
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

لآن نأتي إلى الواقعة الجديرة بأقصى الاهتمام في كل قصة القيامة، ألا وهي الاجتماع الأول للتلاميذ مع الرب المُقام في وسطهم. ومن ناحية الترتيب الزمني تأتي مباشرة بعد عودة التلميذين من عمواس، ومقابلة الآخرين «وَفِيمَا هُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِهَذَا وَقَفَ يَسُوعُ نَفْسُهُ فِي وَسَطِهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ: سَلاَمٌ لَكُمْ!» (لو٢٤: ٣٦).

في الفصل السابق رأينا التلميذين في الطريق، ورأينا كيف «اقْتَرَبَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ نَفْسُهُ وَكَانَ يَمْشِي مَعَهُمَا» (تك٢٤: ١٥). والآن أصبحوا مجتمعين معًا، «ويَسُوعُ نَفْسُهُ فِي وَسَطِهِمْ». وهذا يُمثل جانبين لحياتنا المسيحية؛ فأحيانًا نجد أنفسنا والواحد منا هنا والآخر هناك، أو في طريقنا. وفي مرات أخرى يكون لنا الامتياز أن نجتمع معًا. ولكن في كلتا الحالتين نستطيع أن نعتمد على حضوره الشخصي، أو على “الرَّبّ نَفْسُهُ”. وحينما تصل عروسه أخيرًا إلى نهاية الرحلة المُتعبة في خلال البرية، فلن يُرسل ملاكًا ليستقبلها، كلا «لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَهُ ... سَوْفَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ... وَهَكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ» (١تس٤: ١٦، ١٧).

«وَلَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ أَوَّلُ الأُسْبُوعِ، وَكَانَتِ الأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ التّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ، جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الْوَسْطِ، وَقَالَ لَهُمْ: سلاَمٌ لَكُمْ!» (يو٢٠: ١٩).

ومن الواضح أن الروح القدس قد رتب نقطة في تفاصيل القصة أن يكون الاجتماع الأول للمؤمنين قد حدث في “أَوَّل الأُسْبُوعِ”*، وإلا فلماذا إذًا قد أشار بوضوح إلى ذلك مرة أخرى (قارن مع يوحنا ٢٠: ١).

ويا له من يوم مشهود. لقد بدأ ترتيب جديد للأشياء. فقد نُحيَّ السبت جانبًا، ومن ذلك اليوم فصاعدًا أصبح يوم الأحد - اليوم الثامن، أي يوم الخليقة الجديدة، يوم قيامة ربنا – يأخذ الأسبقية على السبت**؛ إنه “يَوْمِ الرَّبِّ” (رؤ١: ١٠)، والسؤال الذي يخطر علينا في السياق: هل نُعطي التوقير اللازم لهذا اليوم في قلوبنا وحياتنا؟***

دعنا نمضي إلى أبعد ونلاحظ أن خاصة الرب قد تجمعوا معًا أخيرًا «لَمَّا كَانَتْ عَشِيَّةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُوَ أَوَّلُ الأُسْبُوعِ» (يو٢٠: ١٩). وكانوا قبل ذلك مشتتين، وذهبوا كل واحد إلى بيته (يو٢٠: ١٠؛ لو٢٤: ١٣). وحتى في ذلك الوقت «كَانَتِ الأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً حَيْثُ كَانَ التّلاَمِيذُ مُجْتَمِعِينَ لِسَبَبِ الْخَوْفِ مِنَ الْيَهُودِ». ورغم أنه كانت هناك دلائل عديدة على القيامة – ولسنا بحاجة إلى استعادة ظهورات الرب التي تناولناها من قبل – إلا أنهم لم يكونوا قد استراحوا تمامًا على حقيقة القيامة. والحقيقة نحن يمكننا فهم ذلك تمامًا.

ومن خلال التقارير الثلاثة التي لدينا عن هذه المقابلة المسائية، نلاحظ أن هناك ثلاث حالات مختلفة للقلب تبدو لنا: غلظة القلب في إنجيل مرقس، ونقص الإيمان في إنجيل لوقا، والفرح في إنجيل يوحنا. أليس الأمر هكذا أيضًا معنا في أيامنا هذه؟ ألسنا نختبر درجات مختلفة بتباين واسع في التمتع بحضوره الحي في وسطنا نحن المجتمعون حوله؟

ولكن لم تكن حالة قلوب بعض خاصته، ولا الأبواب المُغلَّقة لتمنعه عن الدخول. «كَانَتِ الأَبْوَابُ مُغَلَّقَةً ... جَاءَ يَسُوعُ وَوَقَفَ فِي الْوَسْطِ، وَقَالَ لَهُمْ: سلاَمٌ لَكُمْ!» (يو٢٠: ١٩). ويا لها من لحظة! ها هو “رَبُّ السَّلاَمِ” بنفسهِ (٢تس٣: ١٦)، الذي “هُوَ (نفسه) سَلاَمُنَا” (أف٢: ١٤)، وقد دخل إلى وسط البقية الأمينة، وحياهم بهذه التحية التي لا مثيل له، والتي نجدها ما لا يقل عن ثلاث مرات في قصة القيامة (يو٢٠: ١٩، ٢١، ٢٦). ففي مواجهة مشاعرهم القلقة، وأحاسيس قلوبهم المتغيرة، لم تكن هناك تحية أفضل من هذه تصدر من فم الرب.

لقد قال النبي قديمًا للبقية في الأيام السالفة: «رَأَيْتُ طُرُقَهُ وَسَأَشْفِيهِ وَأَقُودُهُ، وَأَرُدُّ تَعْزِيَاتٍ لَهُ وَلِنَائِحِيهِ، خَالِقًا ثَمَرَ الشَّفَتَيْنِ. سَلاَمٌ سَلاَمٌ لِلْبَعِيدِ وَلِلْقَرِيبِ» (إش٥٧: ١٨، ١٩). وأعلن المُرنم: «لأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِشَعْبِهِ وَلأَتْقِيَائِهِ ... الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ الْتَقَيَا. الْبِرُّ وَالسَّلاَمُ تَلاَثَمَا» (مز٨٥: ٨-١٠). وها قد وصلت هذه اللحظة في قصة موت وقيامة المسيح. وقبل أن يتركهم كان قد سبق وقال لهم: «سلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ» (يو١٤: ٣٧). وحقًا لقد «جَزِعُوا وَخَافُوا، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ نَظَرُوا رُوحًا» (لو٢٤: ٣٧)، فرؤيتهم له ظاهرًا وسطهم بطريقة معجزية، كانت أكثر من مفاجأة لهم. وهذا يذكرنا بدهشة الجارية “رَوْدَا” وأولئك المجتمعين للصلاة حينما تحرَّر بطرس من السجن بيد الملاك، أو بدهشة التلاميذ أنفسهم حينما مشى الرب يسوع إليهم على الماء، حتى إنهم صرخوا من الخوف، وقالوا: «إِنَّهُ خَيَالٌ» (أع١٢: ١٢-١٦؛ مت١٤: ٢٤-٢٦).

وكما هدأ مخاوفهم في تلك الليلة بقوله: «تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا»، هكذا هدأهم أيضًا هنا ثانية، ولكن ليس بدون توبيخ. فحقًا نقرأ في مرقس ١٦: ١٤ أنه «وَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ»، ونقرأ أيضًا: «فَقَالَ لَهُمْ: مَا بَالُكُمْ مُضْطَرِبِينَ، وَلِمَاذَا تَخْطُرُ أَفْكَارٌ فِي قُلُوبِكُمْ؟ اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ! جُسُّونِي وَانْظُرُوا، فَإِنَّ الرُّوحَ لَيْسَ لَهُ لَحْمٌ وَعِظَامٌ كَمَا تَرَوْنَ لِي» (لو٢٤: ٣٨، ٣٩).

وكلمات الرب هذه أثارت عدة أسئلة. فالرب قد تشارك مرة معهم «فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ» (عب٢: ١٤)، ولكن «إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لاَ يَقْدِرَانِ أَنْ يَرِثَا مَلَكُوتَ اللهِ، وَلاَ يَرِثُ الْفَسَادُ عَدَمَ الْفَسَادِ» (١كو١٥: ٥٠)، “فاللَحْمٌ وَالعِظَامٌ” تميزان هكذا جسد القيامة، بينما الدم هو الحياة للجسد الطبيعي القابل للفساد الذي ينتمي إلى الخليقة الأولى (تك٢: ٧؛ لا١٧: ١١؛ تث١٢: ٢٣)، ولذلك فالدم لا يُشار إليه هنا في الخليقة الجديدة.

فجسد القيامة العجيب هنا ليس روحًا، ولكن بالأحرى “جسد روحاني” أو “جسد سماوي”. كان مرئيًا ثم أصبح غير مرئي، يمكن التعرف عليه وتمييزه ثم لا يمكن التعرف عليه أو تمييزه. له القدرة على المرور من الأبواب المُغلّقة ، ولكن قادر على تناول الطعام العادي، رغم أنه بلا شك لا حاجة له لهذا الطعام. وبلا شك ليس هو حتى الآن “الرب المُمجَّد” الذي ظهر لشاول وهو في طريقه إلى دمشق، وللرسول يوحنا في بطمس إذ سقط عند رجليه. ولذلك علينا أن نفعل حسنًا أيضًا أن نتجنب استخدام هذه التفاصيل لكي لا نقفز إلى استنتاجات عن أجسادنا المُمجَّدة، لأنه «لَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلَكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ» (١يو٣: ٢)، فمن المؤكد أنه «كَمَا لَبِسْنَا صُورَةَ التُّرَابِيِّ، سَنَلْبَسُ أَيْضاً صُورَةَ السَّمَاوِيِّ» (١كو١٥: ٤٩).

ويبدو لي أن هناك ما هو أكثر، فما طلبه الرب من تلاميذه إنما يتكلم إلى قلوبنا، وهو طلب ليُقنعهم بحقيقة حضوره «اُنْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ ... جُسُّونِي وَانْظُرُوا ... وَحِينَ قَالَ هَذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ»، وأيضًا «أَرَاهُمْ ... جَنْبَهُ»؛ جَنْبَهُ الذي طُعن بحربة الجندي (لو٢٤: ٣٩، ٤٠؛ يو٢٠: ٢٠). يا لها من طريقة متنازلة ومؤثرة لكي يدفع عنهم شكوكهم! ولكن حتى مع هذا لم يكن ذلك كافيًا «وَبَيْنَمَا هُمْ غَيْرُ مُصَدِّقِين مِنَ الْفَرَحِ، وَمُتَعَجِّبُونَ، قَالَ لَهُمْ: أَعِنْدَكُمْ هَهُنَا طَعَامٌ؟ فَنَاوَلُوهُ جُزْءًا مِنْ سَمَكٍ مَشْوِيٍّ، وَشَيْئًا مِنْ شَهْدِ عَسَلٍ. فَأَخَذَ وَأَكَلَ قُدَّامَهُمْ» (لو٢٤: ٤١-٤٣).

وهكذا كانت هناك ثلاثة “براهين مؤكدة” تناسب حالة قلوب خاصته، وهم مجتمعون معًا، إذ أراهم نفسه كالإنسان يسوع المسيح المُقام من بين الأموات، وهو ما زال يحمل في جسده الجراحات؛ وهذه في ذاتها معجزة. تلك الجراحات باعتباره الشخص الوحيد الذي عَمِل «الصُّلْحَ بِدَمِ صَلِيبِهِ» (كو١: ٢٠). كان أمامهم ليس كروح، بل بالأحرى وقف أمامهم بجسد مادي حقيقي، لكيما يقدروا أن يقنعوا أنفسهم بذلك بكل يقين، حتى إن أحدهم قال بعد عشرات السنين: «اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا ... نُخْبِرُكُمْ بِهِ» (١يو١: ١، ٣).

وأخيرًا «فَأَخَذَ وَأَكَلَ قُدَّامَهُمْ» (لو٢٤: ٤٣). كان إنسانًا حقيقيًا؛ أول إنسان في جسد القيامة، جسد الخليقة الجديدة «بِكْرٌ مِنَ الأَمْوَاتِ» (كو١: ١٨). ومنذ ذلك الحين استطاعوا أن يشهدوا للرب قائلين: «نَحْنُ الَّذِينَ أَكَلْنَا وَشَرِبْنَا مَعَهُ بَعْدَ قِيَامَتِهِ مِنَ الأَمْوَاتِ» (أع١٠: ٤١).

«فَفَرِحَ التّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوُا الرَّبَّ» (يو٢٠: ٢٠). لقد أزال الرب الحزن والخوف وصغر النفس وخيبة الأمل. ولقد قدمت جراحاته وقيامته الأساس للسلام الحقيقي الدائم، ولكن رؤيتهم لشخصه أعطتهم الفرح. فالرب بنفسه قد أخبرهم من قبل: «سَأَرَاكُمْ أَيْضاً فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ، وَلاَ يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ» (يو١٦: ٢٢). لقد رأى إبراهيم يومه وفرح، ورأى إشعياء مجده (يو٨: ٥٦؛ ١٢: ٤١)، ولكن هنا ما هو أعظم، فالتلاميذ رأوا يسوع نفسه كالبكر بين إخوته؛ كالرب المُقام في وسط خاصته المحبوبة.

والآن تفترق روايتا هذا الاجتماع غير العادي افتراقًا واسعًا حتى إنه يلزم علينا أن نتتبع كل واحدة منهما على حدة.

وتوجد ثلاثة أمور في رواية لوقا تقف معًا كمركز هذا الاجتماع: الحضور الشخصي للرب، وكلمة الله، ومسؤولية أولئك الذين هم خاصته. وهذه الأمور تحدد محتوى ومسار هذا الاجتماع، كما اجتماعاتنا أيضًا اليوم.

ولقد انشغلنا بالفعل بأول هذه الموضوعات وهو ربنا المُقام “يَسُوعُ نَفْسُهُ فِي وَسَطِهِمْ” (لو٢٤: ٣٦)، وكيف أن أهم اعتبار هو الحضور الشخصي للرب في اجتماعات المؤمنين، وإعطاؤه الاعتبار الأول، وألا يُنحى جانبًا، وألا يحلّ محله أي شخص، أو أي شيء! وهكذا يمكن أن تكون الحالة – من حيث المبدأ ومن حيث الممارسة – طالما لا يوضع أي اعتبار للإنسان أو للجسد، وأن تُمارس الكلمة الثمينة كشيء حقيقي للغاية «لأَنَّهُ حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ» (مت١٨: ٢٠).

لقد أقنع الرب تلاميذه “ببراهين كثيرة قاطعة”، والتي كان من أهمها بالحقيقة؛ هو نفسه. الآن هو شخصيًا حاضرٌ معهم، وقد فتح فمه ليُعلّم خاصته المجتمعين حوله من كلمة الله «وَقَالَ لَهُمْ: هَذَا هُوَ الْكَلاَمُ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ وَأَنَا بَعْدُ مَعَكُمْ: أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ» (لو٢٤: ٤٤). ومن الجدير بالملاحظة هنا الاعتبار العالي الذي يعطيه الرب للكتب المقدسة. وهو الأمر الذي يجب أن نراعيه في أيامنا هذه حيث لا تُعطى لكلمة الله سوى مكانة قليلة. فالرب نفسه، وهو سائر برفقة تلميذي عمواس «ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُبِ» (لو٢٤: ٢٧). وهنا أيضًا يُشير إلى جميع الكتب؛ أي الأقسام الثلاثة الرئيسية التي قسمها اليهود – وما زالوا يفعلون – للعهد القديم. أفلا نقدر أن نتعلَّم من هذا أن ذات هذه الكتب “هِيَ الَّتِي تَشْهَدُ لِلرب” (يو٥: ٣٩).

«وَقَالَ لَهُمْ ... أَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَتِمَّ جَمِيعُ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنِّي فِي نَامُوسِ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ وَالْمَزَامِيرِ» (لو٢٤: ٤٤). وهل كان يمكن أن يكون غير ذلك؟! «وَقَالَ لَهُمْ: هَكَذَا هُوَ مَكْتُوبٌ، وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَأَنْ يُكْرَزَ بِاسْمِهِ بِالتَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الْخَطَايَا لِجَمِيعِ الأُمَمِ، مُبْتَدَأً مِنْ أُورُشَلِيمَ» (لو٢٤: ٤٦، ٤٧). وهكذا تكلَّم الرب لتلاميذه في المرة الأخيرة التي اجتمعوا فيها، وهكذا تكلَّم إلى “الجَمْع الكَثِير” الذي خرج عليه “بِسُيُوفٍ وَعِصِيٍّ”، وإلى بطرس الغيور، ولتلاميذه الذين خاطر بنفسه لأجلهم، قائلاً: «لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضًا هَذَا الْمَكْتُوبُ»، (لو٢٢: ٣٧؛ مت٢٦: ٥٤، ٥٦). وهكذا فإن «مَكْتُوبٌ»، وكذلك «لِكَيْ تُكْمَلَ الْكُتُبُ»، تُميّز كل خدمته المباركة، من التجربة في البرية، إلى موته على الصليب (يو١٩: ٢٤، ٢٨، ٣٦، ٣٧).

وجميع إعلاناته عما هو موضوع أمامه إنما فقط أنشأت فيهم حزنًا وخوفًا. حتى إن بطرس مضى إلى حد التجاسر أن “يَنْتَهِرُهُ” على هذا (مت١٦: ٢٢)، وكل التلاميذ «وَكَانُوا يَتَحَيَّرُونَ. وَفِيمَا هُمْ يَتْبَعُونَ كَانُوا يَخَافُونَ» (مر١٠: ٣٢)، «وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا الْقَوْلَ، وَخَافُوا أَنْ يَسْأَلُوهُ» (مر٩: ٣٢)، «وَأَمَّا هُمْ فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَكَانَ هَذَا الأَمْرُ مُخْفىً عَنْهُمْ، وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا قِيلَ» (لو١٨: ٣٤).

ولكن يا للمفارقة بين هذا وما نجده بعد انسكاب الروح القدس! فنفس هؤلاء التلاميذ أوضحوا مرات ومرات - من الكتب المقدسة - أن “مَا سَبَقَ اللهُ وَأَنْبَأَ بِهِ بِأَفْوَاهِ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ أَنْ يَتَأَلَّمَ الْمَسِيحُ قَدْ تَمَّمَهُ هَكَذَا” (أع٣: ١٨). وباليقين فإن الأساس قد وُضع هنا في هذه الليلة المشهودة حينما الرب نفسه «فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا الْكُتُبَ» (لو٢٤: ٤٥).

وبعد كل هذا فإن المفارقة العظيمة والظاهرة – بين زمن ما قبل، وزمن ما بعد يوم الخمسين – تُلقي ضوءً على التأثير الفريد لسكنى الروح القدس الذي “يُرْشِدُ” التلاميذ – ونحن أيضًا من خلالهم - “إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ” (يو١٦: ١٣). ولذلك فنحن بلا عذر. فليس لنا فقط كل كلمة الله المُكتملة، ولكن أيضًا «مَسْحَةٌ مِنَ الْقُدُّوسِ»، وأيضًا حضور الرب الذي يُعطينا «فَهْمًا فِي كُلِّ شَيْءٍ» (١يو٢: ٢٠؛ ٢تي٢: ٧).

وما أعظم اختبارنا عندما يفتح الرب أذهاننا لكلمته! ولقد تمت لهذه البقية الأمينة التي قاست الأحزان كلمات إشعياء قديمًا: «وَيَسْمَعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الصُّمُّ أَقْوَالَ السِّفْرِ، وَتَنْظُرُ مِنَ الْقَتَامِ وَالظُّلْمَةِ عُيُونُ الْعُمْيِ، وَيَزْدَادُ الْبَائِسُونَ فَرَحًا بِالرَّبِّ، وَيَهْتِفُ مَسَاكِينُ النَّاسِ بِقُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ» (إش٢٩: ١٨، ١٩). ونحن أيضًا مثل “مَسَاكِينُ النَّاسِ”، ولكن «ابْنَ اللهِ قَدْ جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ الْحَقَّ» (١يو٥: ٢٠).

ولكن دعنا لا ننسى أنه يرتبط مع فتح الأذهان زيادة في المسؤولية. لذا فإننا نقرأ قول الرب: «وَأَنْتُمْ شُهُودٌ لِذَلِكَ» (لو٢٤: ٤٨)؛ بهذه الكلمات الخطيرة يُنهي لوقا روايته عن هذا الاجتماع الأول حول الرب المُقام. ويجب أن تختم هذه الكلمات - بمعانيها المُعبرة - كل مرة عندما نكون في حضور الرب وتحت سلطان كلمته أيضًا.

(يتبع)

فريتز فون كيتسل