أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2017
شمائل الألطاف ... وشواهد الأمانة
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

وَقَالَ يَعْقُوبُ: يَا إِلَهَ أَبِي إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهَ أَبِي إِسْحَاقَ، الرَّبَّ الَّذِي قَالَ لِيَ: ارْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ وَإِلَى عَشِيرَتِكَ فَأُحْسِنَ إِلَيْكَ. صَغِيرٌ أَنَا عَنْ جَمِيعِ أَلْطَافِكَ وَجَمِيعِ الأَمَانَةِ الَّتِي صَنَعْتَ إِلَى عَبْدِكَ. فَإِنِّي بِعَصَايَ عَبَرْتُ هَذَا الأُرْدُنَّ، وَالْآنَ قَدْ صِرْتُ جَيْشَيْنِ» (تك٣٢: ٩، ١٠)

تمتلئ حياة يعقوب بالأزمات المتوالية، ومع ذلك لا نجده يصلي كثيرًا. لكن في تكوين ٣٢ نسمعه يُصلّي في أزمة من أصعب أزمات حياته. لم يكن مُهددًا بعدوان غاشم من جنس غريب، لكن كان الخوف والخطر الشديد من قِبَل أخيه الوحيد. وليس موضوعنا الحديث عن الأزمة ولا عن الصلاة نفسها، لكن سنتأمل في اعتراف جميل ذكره يعقوب في صلاته، يمكن أن يكون لسان حالنا، ونحن نذكر معاملات الرب في أيام قد مضت في رحلة العمر: «صَغِيرٌ أَنَا عَنْ جَمِيعِ أَلْطَافِكَ وَجَمِيعِ الأَمَانَةِ الَّتِي صَنَعْتَ إِلَى عَبْدِكَ». كلمات يليق أن نُرددها ونُرنمها بامتنان للرب، ونحن نُلقي نظرة على العام الذي انتهى، ونخطو إلى عام جديد قد ابتدأ. لا شك أن قلب يعقوب كان فائضًا بتلك المشاعر تجاه الرب من أجل أفضاله السابقة. ولقد شهد يعقوب للرب شهادة مشابهة، حين بارك يوسف وابنيه، فقال: «اللهُ الّذي رَعاني منذُ وُجودي إلَى هذا اليومِ، المَلاكُ الّذي خَلَّصَني مِنْ كُلِّ شَرٍّ» (تك٤٨: ١٥، ١٦).‬‬

الأَلْطَاف: جمع لطف، واللطف هو التعامل بترفق وحنو ورقة، كمن يحمل طفل غض، ويخشى عليه من أي خطر أو ضرر، فيُحيطه بالعناية الشديدة.

الأَمَانَة: هي الالتزام بالمبادئ والصدق الذي لا يتغير.

وستنحصر تأملاتنا في شمائل هذه “الأَلْطَاف” ودلائل هذه “الأَمَانَة”.

أولاً: شمائل الألطَاف

١. ألطَاف العناية الساهرة

عندما ترك يعقوب بيت أبيه في بئر سبع في كنعان، وخرج في طريقه إلى خاله في حاران، كان عمره حوالي٧٧ سنة. أليس من عناية الرب الشديدة أن يظهر ليعقوب في حلم ليُشجعه، واعدًا إياه بأن يكون معه ويحفظه ويرده لأرض آبائه (تك٢٨: ١٠-١٥). وبالرغم من مشقة سفر مئات الأميال في البرية، عبر جبال ووديان، لكنه اختبر عناية الله الساهرة عليه، سواء في النهار أو في وحشة الليل، سواء في متاهة الصحاري أو أحراش الغابات! ومَن الذي أتى به سالمًا إلى حاران، ومَن الذي أرشده لبيت خاله؟ كان مُمكنًا أن يتعرض لأخطار لا حصر لها، لكن كانت عين الله عليه طوال الطريق. مَن الذي صانه وأعانه في كل أيام خدمته في فدان أرام سوى الرب. وما الذي كان يضمن عودته سالمًا للبيت، سوى عناية الرب. عندما هرب من خاله قال له لابان: «في قُدرَةِ يَدي أنْ أصنَعَ بكُمْ شَرًّا، ولكن إلهُ أبيكُمْ كلَّمَنيَ البارِحَةَ قائلًا: احتَرِزْ مِنْ أنْ تُكلِّمَ يعقوبَ بخَيرٍ أو شَرٍّ» (تك٣١: ٢٩). ونحن ننظر نظرة للعام الماضي ألا نشكر الرب على ألطاف عنايته الساهرة، إذ نذكر المحبة التي تتدفق كل يوم، والعناية التي تترفق كل ليل.

٢. ألطَاف الخيرات المتكاثرة:

قال يعقوب: «إِنِّي بِعَصَايَ عَبَرْتُ هَذَا الأُرْدُنَّ، وَالْآنَ قَدْ صِرْتُ جَيْشَيْنِ». مَن الذي أحسن إليه، وغمره بهذا الخير الجزيل سوى الرب. أعطاه الأولاد وأعطاه عبيدًا وإماءً وبقرًا وغنمًا بوفرة. عندما نتأمل في الخير الذي بين أيدينا أليس الرب هو نبع البركات. اشكر الرب من أجل كل ماغمرك به من خير؛ صحتك وأولادك وبيتك وسيارتك وأثاثك ودخلك ... إلخ. وإزاء جوده وخيره الكثير، لنهتف من القلب بشكر عميق «بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ. بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ» (مز١٠٣: ١، ٢).

٣. ألطَاف التعزيات الوافرة:

لم نختبر فقط ألطَاف العناية من اليد التي تقود وتحمي، ولا ألطاف الخير من اليد التي تجود وتغني، لكن لنا ألطاف التعزيات الوافرة. فيده الرحيمة كانت تمسك بأيدينا في أحزاننا، وذراعيه أحاطت بنا حين كنا نذرف الدموع. رغم أن يعقوب لم يصرخ للرب إلا في أزمته، لكن الرب تعطف عليه، واقترب إلى نفسه المنحنية، فاختبر تعزيات الرب في أحداث محزنة بعد ذلك الظرف؛ حين ماتت راحيل، ورفض أن يُسمي الابن الذي ولدته له “بَنْ أُونِي”، أي ابن حزني، بل دعاه “بنيامين”، أي ابن يدي اليمين. كم مرة عزانا الرب، ورفعنا وغمرنا بسلامه العجيب، سواء أثناء اجتيازنا في ضيقة شخصية، أو بسبب فراق أحباء لنا!

ثانيًا: شواهد الأمانة

أنشد موسى للرب قائلاً عنه «إِلهُ أَمَانَةٍ لا جَوْرَ فِيهِ. صِدِّيقٌ وَعَادِلٌ هُوَ» (تث٣٢: ٤). وشهد داود عن أعماله فهتف قائلًا: «أَعْمَالُ يَدَيْهِ أَمَانَةٌ وَحَقٌّ. كُلُّ وَصَايَاهُ أَمِينَةٌ» (مز١١١: ٧). كما أن أرميا خاطبه قائلاً: «كَثِيرَةٌ أَمَانَتُكَ» (مرا٣: ٢٣).

١. أمانة الرب في الوفاء بالمواعيد

نسي يعقوب ما تعهد أن يفعله للرب، لكن الرب في أمانته لم ينسَ ما وعد أن يفعله مع يعقوب. «ونَذَرَ يعقوبُ نَذرًا قائلًا: إنْ كانَ اللهُ مَعي، وحَفِظَني ... وأعطاني خُبزًا لآكُلَ وثيابًا لألبَسَ، ورَجَعتُ بسَلامٍ إلَى بَيتِ أبي، يكونُ الرَّبُّ لي إلهًا ... وكُلُّ ما تُعطيني فإنّي أُعَشِّرُهُ لكَ» (تك٢٨: ٢٠ -٢٢). حفظه الرب بالفعل، لكننا لا نقرأ أنه أعطى العشور للرب مِن كل ما أعطاه، ولم نقرأ أنه بنى مذبحًا ودعا باسم الرب. لكن رغم أنه لم يكن أمينًا في نذره، لكن الرب ظل أمينًا في وعده، وحفظه الرب من الشرور، وأنقذه من يد لابان ومن يد عيسو. يعقوب لم يرجع بوجبتين ولا بثوبين لكنه يقول: «فَإِنِّي بِعَصَايَ عَبَرْتُ هذَا الأُرْدُنَّ، وَالآنَ قَدْ صِرْتُ جَيْشَيْنِ». موكب عظيم يشهد عن جود الرب وأمانته في إتمامه لمواعيده. ألا يستحق الرب أن نأتي في بداية عام جديد ونحمده على أمانته لوعوده، حتى في الأوقات التي لم نكن نحن فيها أمناء معه. نعم، «طُوبَى لِمَنْ إِلَهُ يَعْقُوبَ مُعِينُهُ، وَرَجَاؤُهُ عَلَى الرَّبِّ إِلَهِهِ!» (مز١٤٦: ٥).

٢. أمانة الرب في التقويم والتجديد

من أمانة الرب لصفاته أنه تعامل مع يعقوب بالحق والعدل، وجعله يحصد من نفس نوع الزرع الذي زرعه. خدع أبوه فخدعه لابان، وغيَّر أجرته عشر مرات، لكن من أمانة الرب أيضًا لذاته باعتباره الراعي، فقد عمل على رد نفس يعقوب، وكان يراقبه في تيهانه لكي يسترده، ويُقوِّم سبله المعوجة. الرب كان يعلم نقاط ضعفه، وتعامل معها، لأنه كان يريد أن يُبارك يعقوب. كان عند يعقوب مشكلة في الرأس، ومشكلة في القلب؛ أي في التفكير والمشاعر. كان متكلاً على قوته وذكائه وخططه، والرب خلع حق فخذه ليعيش مستندًا على الرب. وكان قلبه متعلقًا بأشخاص لهم أولوية في حياته، لكن الرب فطمه تدريجيًا؛ فقد كان متعلقًا بأمه، لكن حرم منها لما هرب لحاران. وكان متعلقًا براحيل ثم بيوسف، لكن في كل مرة كان يفطمه عن موضوع تعلقه. كان الرب يدربه على أن يكون هو المشبع لعواطفه. قابله الرب وصارعه حتى طلوع الفجر في مخاضة يبوق، وباركه هناك. ثم أعطاه اسمًا جديدًا بدلاً من “يعقوب” الذي معناه “المتعقب”؛ أسماه “إسرائيل” والذي معناه “يؤتمر بالله” (تك٣٢: ٢٢-٢٩). كيف جعل الله من المتعقب وغير الأمين، شخصًا أمينًا؟ إنها أمانة الله.

ونلاحظ أن حياة يعقوب تغيَّرت تمامًا بعد هذا اللقاء. للرب معاملات عجيبة معنا، قصد بها - في أمانته - أن يقوم سبلنا المُعوجة، حتى يكون الرب أولًا في حياتنا، ولكي يرد نفوسنا إلى المحبة الأولى. ربما لا ندري ونحن على دولاب الفخاري، أنه يُشكِّل ويُجمِّل، كما أننا قد لا نفهم وقتها أن اجتيازنا فرن الفخاري يزيد من صلابتنا وثباتنا، لكن مع الأيام نكتشف أن الرب قَصَدَ أن يُغيّر حياتنا ويُجدّدها، من خلال معاملاته الحكيمة. ليس من أجل شيء فينا، بل من أجل اسمه، من أجل رحمته، ومن أجل أمانته.

٣. أمانة الرب في الاثمار والتعويض:

صحيح أن يعقوب قضى ٢٠ سنة عند لابان، لا نقرأ أنه عمل شيئًا للرب بقدر ما كان مشغولاً بتحقيق آماله وتنفيذ خططه، وزيادة ممتلكاته، لكن الرب في أمانته ليس فقط غيَّره وأعطاه اسمًا جديدًا، لكن أعطاه أيامًا مثمرة وعوضه كثيرًا. نرى في مشاهد غروب حياته أن غيوم يومه العاصف تبددت فتوارى يعقوب الملتوي وظهر إسرائيل الأمين، لأن إيمانه لمع بشكل خاص. كان بصره الجسدي ضعيفًا لكن البصر الروحي كان حادًا. الفطنة والحكمة التي كانت لديه وهو يبارك ابني يوسف فاقت حكمة يوسف الحكيم. يقول الكتاب «وَسَجَدَ عَلَى رَأْسِ عَصَاهُ» (عب١١: ٢١). وما أحلى الحياة التي تُتوَّج بالسجود للرب، والاستناد على مواعيده، وتُختم بالوجود على القمم! أعظم تعويض لنا عن السنوات التي أكلها الكسل والتراخي، أو الركض وراء ما هو أرضي، هو أن يستخدمنا الرب بنعمته، ويقوي شهادتنا لنكون مثمرين لمجده ولبركة من حولنا.

ونحن في بداية عام جديد دعونا نتذكر ألطَافه فنشكر ونحمد، ونتذكر أمانته فيتعظم في أعيننا، ونعلن للرب أشواقنا أن ينتهي زمان الغربة ويأتينا سريعًا، ونكون معه في المجد للأبد، وإن تأنَّى في مجيئه يحفظنا في مشيئته عاملين مرضاته.


أيمن يوسف