أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
 
 
عدد يناير السنة 2018
الْمَنّ السَّمَاوِي ... رمز لكلمة الله
تكبير خط المقالة تصغير خط المقالة

تحدثنا فيما سبق عن بعض نقاط التشابه العديدة بين المَن والكلمة المكتوبة، باعتبارها الطعام السماوي لشعب الله، ونواصل تأملاتنا في هذا العدد فنقول:

(٦) المن كان يُجمع يوميًا: «فَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: هَا أَنَا أُمْطِرُ لَكُمْ خُبْزًا مِنَ السَّمَاءِ. فَيَخْرُجُ الشَّعْبُ وَيَلْتَقِطُونَ حَاجَةَ الْيَوْمِ بِيَوْمِهَا» (خر١٦: ٤). لم يكن المن الذي التقطه إسرائيل اليوم ليكفيهم للغد. بل كان لا بد من إمداد يومي جديد. والتطبيق الروحي لذلك في غاية الوضوح؛ أن النفس تحتاج إلى ذات الاهتمام المنظم كالجسد، ولو أهملنا هذا وأخذنا وجباتنا الروحية بدون انتظام، فالنتيجة ستكون حتمًا كارثية. لكن كم منا يخفق في هذه النقطة! ماذا تظن في شخص جلس لغذاء يوم الأحد، وحاول أن يأكل ما يكفيه لباقي الأسبوع؟ إلا أنها تحديدًا الطريقة التي يتبعها جموع الشعب مع طعامهم الروحي. المرة الوحيدة التي يحصلون فيها على طعام روحي كافٍ هو يوم الأحد، ويعتبرونه كافيًا لهم لباقي الأسبوع! هل من عجب إذًا إن وجدنا مسيحيين كثيرين ضعفاء ومرضى! آه، دعونا نواجه حقيقة أن نفوسنا في احتياج مُلح إلى إمداد يومي من خبز الحياة. ومهما تركنا من أعمال دون تتميم، لنحرص أن نُطعم على المن الروحي بانتظام. اذكر أنه ليس المهم هو كم الوقت الذي نقضيه، بل كم المشاعر القلبية التي نكرسها للرب في ذلك الوقت.

(٧) المن كان يُجمع صباحًا: «وَفِي الصَّبَاحِ كَانَ سَقِيطُ النَّدَى حَوَالَيِ الْمَحَلَّةِ. وَلَمَّا ارْتَفَعَ سَقِيطُ النَّدَى إِذَا عَلَى وَجْهِ الْبَرِّيَّةِ شَيْءٌ دَقِيقٌ مِثْلُ قُشُورٍ» (ع١٣، ١٤). هنا نجد لنا درسًا نحتاج أن نأخذه بجدية لقلوبنا. كان شعب الله القديم يجمع مؤونته اليومية من المن في الصباح الباكر، قبل أن ينشغل فكرهم بأمور أخرى. لقد كُتِبَ هذا «لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا» (رو١٥: ٤). فالكلمة المقدسة يجب ألا يُعطى لها مكانة ثانوية، إن كنا نريد بركة الله علينا. أي تغيير كان سيحدث في حياة الكثيرين من المؤمنين إن ابتدأوا اليوم في محضر الله! كم من ضعفاء ومرضى الآن، كانوا سيُصبحون أقوياء في الرب، وفي شدة قوته، إن هم واظبوا على عادة التغذي، كل صباح، على خبز الحياة! لو تغذت نفوسنا وقت «سَقِيطُ النَّدَى»، لحصلت على القوة، وتحصَّنا للمهام التي تنتظرنا، وتمنطقنا للتجارب التي تواجهنا خلال اليوم!

لا مجال لأي قارئ أن يشكو من انعدام الوقت. ربما لا يكون لديك وقت لدراسة أصحاح كامل دراسة متأنية كل صباح، وحتى هذا يجب مناقشته بجدية. لكن بالتأكيد لديك وقت لتختار بالصلاة عدد واحد من المكتوب، وتكتبه في ورقة، وتحاول أن تحفظه، وتردده خلال دقائق الفراغ خلال يومك، في المواصلات، كما حفظ الكاتب كل الرسالة إلى قديسي أفسس في السيارة، آية آية. بالتأكيد لديك وقت للتأمل في هذا العدد الواحد خلال اليوم، وتتمعن في كل كلمة منفردة. وبعد الانتهاء من أعمال اليوم يمكنك الجلوس - ولو لدقائق معدودة - لتراجع المقاطع الموازية لموضوع العدد من المراجع التي في الهامش. إن فعلت هذا يوميًا ستتفاجأ وتفرح بالبركات التي لا تُحصى التي ستتمتع بها نفسك «اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ» (مت٦: ٣٣).

(٨) الحصول على المن بالعمل: يذكرنا جمع المن بكلام الرب: «اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ» (يو٦: ٢٧). بالطبع هم لم يعملوا ليأتوا به من السماء: بل عملهم هو جمعه عندما أُمطِر عليهم من هناك. وهنا نجد أن عليهم العمل بمثابرة. فلا يمكنهم حفظه، ولا يمكنهم تخزينه للمستقبل: بل كان عليهم العمل كل يوم لجمعه طازجًا. كان يجب أن يخرجوا باكرًا، لأنه «إِذَا حَمِيَتِ الشَّمْسُ كَانَ يَذُوبُ» (خر١٦: ٢١). وهنا نجد ضرورة المثابرة من جانبنا.

يا ليتنا نعي ذلك جيدًا، يا إخوتي الأحباء. لم ينزل المن في أفواههم، بل حول خيامهم. وكان عليهم بالجد والكد والمثابرة لجمعه. هل نعي ضرورة المثابرة في فهم الأمور الروحية؟ هل نفهم أن طابع كلمة الله، رغم كونها واضحة من وجهة، إلا أنها في الواقع توظف كمالها فقط لأولئك الذين يسعون إليها بقلب مخلص. يقول الحكيم: «إِنْ دَعَوْتَ الْمَعْرِفَةَ، وَرَفَعْتَ صَوْتَكَ إِلَى الْفَهْمِ، إِنْ طَلَبْتَهَا كَالْفِضَّةِ، وَبَحَثْتَ عَنْهَا كَالْكُنُوزِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُ مَخَافَةَ الرَّبِّ، وَتَجِدُ مَعْرِفَةَ اللهِ». ثم يضيف: «لأَنَّ الرَّبَّ يُعْطِي حِكْمَةً. مِنْ فَمِهِ الْمَعْرِفَةُ وَالْفَهْمُ» (أم٢: ٣-٦). لكن الرب يُعطي الحكمة والمعرفة والفهم بحسب قوانين حكومته المقدسة.

إن العمل هنا إذًا ضروري للغاية، ليس لأنه مهم في ذاته، وليس لأن مجهودات الإنسان وحدها يمكنها أن تُحصِّل له ما يهبه الله وحده له، لكن الله لا يزال يتوقع منا تلك المثابرة التي تعلن تقديرنا للكنز الذي هو كلمته. فهو لا يصادق على إهمال أو كسل النفس، ولا على الإيمان الميت، بل على الإيمان العامل مع الله. فلكي يُجمع “عُمِر المَنّ” لا بد من بذل مجهود كبير، لأن المن كان «شَيْءٌ دَقِيقٌ» (خر١٦: ١٤).

(٩) المن يجمع بالانحناء: فهو لم ينمو على الأشجار، بل كان يسقط على الأرض. وفي خروج ١٦: ٣ يُذكر «وَفِي الصَّبَاحِ كَانَ سَقِيطُ النَّدَى حَوَالَيِ الْمَحَلَّةِ»، ولكن في سفر العدد ١١: ٩ نلاحظ أن الْمَنّ كان يسقط ليلاً على النَّدَى حتى لا يُلامس الأرض «ومتى نزل النَّدَى على المحلَّة ليلاًً كان ينزل الْمَنّ معه» (عد١١: ٩). وكان على الإسرائيليين أن يركعوا على ركبهم لكي يحصلوا عليه. يا للتميز! ويا لدقة الرمز! إن المثابرة مطلوبة من جانبنا لكي نُخصص لأنفسنا من الكلمة ما تحتاجه نفوسنا. لكن هناك ما هو أكثر أهمية من المثابرة؛ لا بد أن يكون هناك اعتماد على الله؛ كاتب الكلمة. لا بد من الطلب منه. ينبغي أن نركع على ركبنا ونصرخ: «اكْشِفْ عَنْ عَيْنَيَّ فَأَرَى عَجَائِبَ مِنْ شَرِيعَتِكَ» (مز١١٩: ١٨).

(١٠) البعض جمع أكثر، والبعض أقل: «فَفَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ هكَذَا، وَالْتَقَطُوا بَيْنَ مُكَثِّرٍ وَمُقَلِّل» (ع١٧). كم يشبه ذلك ما نراه من حولنا اليوم! يحدد بعض المؤمنين أنفسهم بالمزامير والأناجيل، وقلما تطرقوا إلى أي جزء آخر من الكتاب المقدس. آخرون يدرسون رسائل الكنيسة، ويتجاهلون الأجزاء النبوية. هناك قلة قليلة ممن يدرسون العهد القديم، وكذلك الجديد، ويستخلصون البهجة الثمينة اللامحدودة من الرموز البديعة الموجودة في كل صفحة تقريبًا. فحتى بالنسبة للمَّن الروحي، كلمة الله، هناك مَن “يلتقط أكثر ومن يلتقط أقل”.

(١١) ما جُمع لا بد أن يُستعمل: «لاَ يُبْقِي أَحَدٌ مِنْهُ إِلَى الصَّبَاحِ» (ع١٩). الحق الإلهي ليس للتخزين، بل ينبغي أن يتحول للمنفعة الحاضرة. علينا أن نستخدم ما يعطيه الله لنا. علينا أن نسلك نحن أولًا بحسب الحق الذي تعلمناه وأدركناه، ثم نوصي به الآخرين. وكما يتيح لنا الرب فرصًا فمن امتيازنا المُفرح أن ننقل ما أعطاه لنا للآخرين. بهذه الطريقة تصير الشركة المسيحية مفيدة جدًا؛ عندما نقضي ساعة، أو حتى دقائق معدودة، مع مؤمن نناقش معًا أمور الله، بدلًا من أمور العالم.

(١٢) المن مبهم للإنسان الطبيعي: «فَلَمَّا رَأَى بَنُو إِسْرَائِيلَ قَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنْ هُوَ؟ لأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مَا هُوَ» (ع١٥). كان ثمة شيء في هذا المن لم يستطع الإسرائيليون فهمه. إنه مختلف تمامًا عن أى شيء آخر سبق ورأوه. لم تكن لديهم معرفة به. إن كلمة “مَنّ” تعني «مَنْ هُوَ؟ لأَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مَا هُوَ». هكذا أيضًا الحال مع ما يرمز المَن إليه. الذي لم يخلص لا يمكنه فهم المكتوب: «وَلكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيًّا» (١كورنثوس٢: ١٤).

(١٣) احتقر اللفيف المن: «وَاللَّفِيفُ الَّذِي فِي وَسَطِهِمِ اشْتَهَى شَهْوَةً. فَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ أَيْضًا وَبَكَوْا وَقَالُوا: مَنْ يُطْعِمُنَا لَحْمًا؟ قَدْ تَذَكَّرْنَا السَّمَكَ الَّذِي كُنَّا نَأْكُلُهُ فِي مِصْرَ مَجَّانًا، وَالْقِثَّاءَ وَالْبَطِّيخَ وَالْكُرَّاثَ وَالْبَصَلَ وَالثُّومَ. وَالآنَ قَدْ يَبِسَتْ أَنْفُسُنَا. لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ أَنَّ أَعْيُنَنَا إِلَى هذَا الْمَنِّ!» (عدد١١: ٤-٦). لم يكن إسرائيل وحده حينما خرجوا من مصر. بل صحبهم “اللَّفِيفُ” الذين، بلا شك، أُعجبوا جدًا بقدرة الرب التي ظهرت في الضربات التي أنزلها يهوه على المصريين، وتدخله لصالح إسرائيل، لكنهم لم يكونوا يعرفوا الله شخصيًا. هكذا اليوم أيضًا؛ فالزوان ينمو جنبًا إلى جنب مع الحنطة. هناك “لَّفيف” في المسيحية، وهؤلاء مثل أسلافهم القدماء، يحتقرون المن. هم لا يستسيغون الأمور الروحية. ربما يمتلكون الكتاب المقدس، وربما من أفخر الأنواع المُذهبة وبأغلى تغليف؛ لكن محتواه بالنسبة لهم جاف وبلا طعم.

(١٤) حُفظ المن في التابوت: «وَقَالَ مُوسَى لِهَارُونَ: خُذْ قِسْطًا وَاحِدًا وَاجْعَلْ فِيهِ مِلْءَ الْعُمِرِ مَنًّا، وَضَعْهُ أَمَامَ الرَّبِّ لِلْحِفْظِ فِي أَجْيَالِكُمْ» (ع٣٣). تذكُر رسالة العبرانيين أن “القِسْط” كان “ذهبيٌ” (عب٩: ٤). إن هذا عجيب حقًا. لم يكن للمَنّ أن يُحفَظ في خيام الإسرائيليين ليوم واحد؛ إلا أننا نجده محفوظًا هنا لمدة أربعين سنة في خيمة الشهادة. كان لا بد أن يُحفظ لأرض كنعان. وهكذا مع المرموز إليه: كما أنه لا يمكننا التغذي على خبرات الأمس لنشبع احتياج اليوم إلا أن خبراتنا - مِن يوم إلى يوم في البرية - تتراكم لتأتي بثمار غنية مباركة. “القِسْط الذهبي” الذي وُضع فيه المَنّ يُخبرنا عن القيمة الثمينة التي يثمن بها الله المرموز إليه. وحقيقة حفظ المَنّ في التابوت إلى أن وصل كنعان، تُخبرنا كيف حفظ الله المكتوب عبر الدهور.

(١٥) استمرار نزول المَنّ حتى الوصول إلى كنعان: «وَأَكَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْمَنَّ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى جَاءُوا إِلَى أَرْضٍ عَامِرَةٍ. أَكَلُوا الْمَنَّ حَتَّى جَاءُوا إِلَى طَرَفِ أَرْضِ كَنْعَانَ» (ع٣٥). يخبرنا هذا بمصادر الله التي لا تنضب، لشعبه. استمر المَنّ إلى نهاية رحلة البرية. ونشكر الله أن هذا ينطبق على المَنّ الروحي «لأَنَّ كُلَّ جَسَدٍ كَعُشْبٍ، وَكُلَّ مَجْدِ إِنْسَانٍ كَزَهْرِ عُشْبٍ. الْعُشْبُ يَبِسَ وَزَهْرُهُ سَقَطَ، وَأَمَّا كَلِمَةُ الرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى الأَبَدِ. وَهَذِهِ هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي بُشِّرْتُمْ بِهَا» (١بط١: ٢٤، ٢٥). ربما نكون في الأيام الأخيرة، من هذا الدهر، وربما تداهمنا “الأزمنة الصعبة”، لكن لا زال عندنا كلمة الله المباركة. يا ليتنا نُقدّرها أغلى، ونقرأها باهتمام أكثر، وندرسها باجتهاد أوفر؛ فهذا هو السر الكبير للحياة الروحية الصحيحة النشيطة. والتي تتحقق باشتهاء لبن الكلمة العديم الغش الذي ننمو به (١بط٢: ٢). وبالتغذي اليومي على خبز الحياة نحصل على القوة التي نحتاجها. وبسكنى كلمة الله في قلوبنا نُحفظ من أن نخطئ إليه. وبهذه الطريقة يمكننا أن نقول مع إرميا «وُجِدَ كَلاَمُكَ فَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ كَلاَمُكَ لِي لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي، لأَنِّي دُعِيتُ بِاسْمِكَ يَا رَبُّ إِلَهَ الْجُنُودِ» (إر١٥: ١٦).

(يتبع)


آرثر بنك