أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - شخصية المسيح
السنة 2004
الْمَنّ السَّمَاوِي

(خروج 16 ؛ عدد 11)

«الْمَنّ» هو الطعام الذي نزل من السماء بطريقة معجزية لإعالة بني إسرائيل مدة الأربعين سنة في البرية.  والبرية هي المكان الذي فيه نختبر حقيقة ذواتنا، كما نختبر ونتعلم فيه من هو الله لنا ومن نحونا، وفيه نختبر محبة الله وصلاحه وأمانته (تث8).  إن البرية في ذاتها هي القفر الذي لا نجد فيه شيئًا مما تحتاج إليه نفوسنا (مز63: 1)، ولكننا فيه نختبر أيضًا عناية الرب بنا في سيره معنا.

ولقد كان «الْمَنّ» رمزًا جميلاًً للإنسان الكامل، ربنا يسوع المسيح، في اتضاعه العجيب في حياته على الأرض.  وقد أشار الرب نفسه إلى هذه الحقيقة في كلامه مع اليهود الذين تفاخروا بالْمَنّ الذي أكله آباؤهم، فقال لهم:  «الحقَّ الحقَّ أقول لكم: ليس موسى أعطاكم الخبز مِنْ السَّماء، بل أبي يُعطيكم الخبز الحقيقيَّ من السَّماء، لأن خُبز الله هو النَّازل من السَّماء الوَاهبُ حياةٍ للعالم» (يو6: 32،33).

والتغذي بالْمَنّ معناه التأمل في المسيح كالإنسان الكامل المتضع الذي أعلن الآب للعالم، والتفكر في نعمته وصلاحه، وحنوه وعواطفه، ورقته ومحبته، ووداعته وتواضع قلبه، وصبره واحتماله، وطول أناته ومثاله الكامل.

وقد كان «المَنّ» طعام الشعب القديم في البرية، ولكنهم لما دخلوا أرض كنعان، أكلوا من غَلّة الأرض، عندئذ «انقطع الْمَنّ في الغد عند أكلهم من غلة الأرض، ولم يكن بعد لبني إسرائيل مَنُّ» (يش5: 12).  أما بالنسبة لنا نحن المؤمنين بالمسيح يسوع، فإن الأمر بخلاف ذلك، فباعتبار أننا روحيًا سائرون في البرية (1بط2: 11)، وفى الوقت نفسه، نحن - روحيًا أيضًا - في أرض الموعد، أي في دائرة السماويات (أف2: 6)، فإن طعامنا هو ما يرمز إليه الْمَنّ وغلة الأرض معًا: أي المسيح في تواضعه (الْمَنّ)، والمسيح في مجده (غَلَّة الأرض).

وبالتأمل في الأصحاح السادس عشر من سفر الخروج مع الأصحاح الحادي عشر من سفر العدد، نجد الحقائق الآتية عن الْمَنّ:
1- الْمَنّ كلمة عبرية معناها «مَنْ هُوَ؟» لأنه «لما رأى بنو إسرائيل قالوا بعضهم لبعض: مَنْ هُوَ؟ لأنهم لم يعرفوا ما هو.  فقال لهم موسى: هو الخبز الذي أعطاكم الرب لتأكلوا» (خر16: 15).  وهكذا كان الحال مع ربنا يسوع المسيح عندما أتى إلى عالمنا هذا، مُخليًا نفسه من هالة المجد، مُستترًا في الناسوت الذي تهيأ له، وساترًا صورة الله تحت صورة العبد، فكُتِبَ عنه: «كان في العالم، وكُوِّنَ العالم به، ولم يعرفه العالم» (يو1: 10) وأيضًا «لما دخل أورشليم ارتجت المدينة كلها قائلة: مَنْ هُوَ؟» (مت21: 10).

2- «الْمَنّ» ليس من نتاج الأرض ولم ينمُ في البرية، بل نزل من السماء. وهكذا ربنا يسوع المسيح، الذي شهد عنه يوحنا المعمدان أنه «الذي يأتي من فوق... الذي يأتي من السماء... الذي أرسله الله» (يو3: 31،34)، فهو - تبارك اسمه - «الإنسان الثاني الرب من السماء» (1كو15: 47).

وفى يوحنا 6 نقرأ سبع مرات عن الرب يسوع أنه «النازل من السماء»، وفى ذلك نرى كمال الاتضاع لمن قيل عنه «مع كونه ابنًا تعلَّم الطاعة مما تألم به» (عب5: 8). 

وهو – تبارك اسمه – قَبِل أن ينزل من السماء ليقدِّم نفسه للعالم كالْمَنّ الحقيقي، كان هو «خبز الله» (يو6: 33) أي موضوع فرح ومسرة قلب الآب.  كان موضوع شبعه ولذته منذ الأزل (أم8: 30).  وإننا نجد وصفًا جميلاًً لهذه الحقيقة في مزمور 78 «فأمر السَّحاب من فوق، وفتح مصاريع السَّماوات، وأَمطَرَ عليهم مَنّاً للأكل، وَبُرَّ السَّماء أعطاهم.  أكل الإنسان خُبز الملائكة. أرسل عليهم زادًا للشبع» (مز78: 23-25).  فقبل أن تُفتح أبواب السماء، وقبل أن يُمطِر الله الْمَنّ على شعبه الأرضي، كان الْمَنّ عنده، ولكنه أمر السحاب من فوق، وفتح أبواب السماوات ليُمطر الْمَنّ على الأرض، لكي يُشبع الجياع خبزًا (يو6: 35).

3- وفى خروج 16: 13 نقرأ أن الرب أعطاهم السَّلْوَى في المساء، وفى الصباح أعطاهم الْمَنّ.  والسَّلْوَى تكلّمنا عن المسيح السماوي الذي ذُبح ومات تحت دينونة الله وغضبه، واكتنفته الظلمة الدامسة على الصليب.  إن تمتعنا بالشركة معه، وشبع واكتفاء قلوبنا به، كان يستلزم حتمًا موته على الصليب. فعند كلامه عن نفسه، كالخبز الحقيقي، أشار إلى موته، أي إلى جسده ودمه (يو6: 53-58).  وكان يعني أن التغذي والشبع به، إنما على أساس الإيمان بكفاية موته لأجلنا على الصليب.  والشخص الذي يستفيد من عمل المسيح الكفاري على الصليب، هو الذي في مقدوره أن يتغذى بالمسيح كالْمَنّ.  وأيضًا إن لم يطبِّق المؤمن حكم الموت على نفسه، ويحسب نفسه ميتًا للخطية، لن يستطيع أن يتغذى ويشبع بالمسيح كالْمَنّ السماوي.

4- ارتبط إعطاء الْمَنّ بالمجد «فقال موسى وهارون لجميع بني إسرائيل... في الصباح ترون مجد الرب... وإذ مجد الرب قد ظهر في السحاب» (خر16: 6-10).  ونحن لا نتعجب أن يرِد التعبير «مَجَّدَ الله» أو «يُمَجِّد الله» سبع مرات في إنجيل لوقا، ويرتبط هذا التعبير دائمًا بالرب يسوع المسيح (لو2: 10؛ 5: 25،26؛ 7: 16؛ 13: 13؛ 17: 15؛ 18: 43؛ 23: 47).  مما يدل على أن الله قد تَمَجَّدَ في الإنسان الكامل، هنا على الأرض (يو13: 31؛ 17: 4؛ 2كو4: 6).

5- وكان نزول الْمَنّ لأول مرة في «برية سين»، أي ”برية الشوك“، وهناك «تذمر كل جماعة بني إسرائيل على موسى وهارون في البرية.  وقال لهما بنو إسرائيل... إنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي يُميتا كل هذا الجمهور بالجوع» (خر16: 1-3).

وعندما قَبِلَ رب المجد أن يتنازل ويأتي إلى أرضنا التي لا تُنبت إلا الشوك والحسك، وعايش ظروف البرية، فإنه في مستهل خدمته الجهارية، أُصعد إلى البرية من الروح ليُجرَّب من إبليس، وكان مع الوحوش، وبعدما صام أربعين يومًا وأربعين ليلة، جاع أخيرًا، ولكنه – له المجد – أظهر كمال الطاعة والخضوع، وكمال الاتكال والاستناد على الله أبيه، ولم تخرج من فمه الطاهر كلمة تذمر واحدة، ولا تمنى أن يوجد في ظروف أخرى.  بل إنه رفض أن يتناول الخبز، وأبى أن يأخذ المجد إلا من يد أبيه (مت4: 1-11؛ مر1: 12،13؛ لو4: 1-12).

6- كان الْمَنّ كَبِزْرِ الكُزْبَرَة (عد11: 7)، ذكي الرائحة، رمزًا إلى «رائحة المسيح الذكية» (2كو2: 15)، و«لرائحة أدهانك الطيِّبة. اسمُك دُهْنٌ مُهرَاقٌ» (نش1: 3).

كما أن بذرة الكزبرة هي صغيرة مستديرة.  في صغرها تشير إلى تواضعه، وفى استدارتها تشير إلى أنه لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة، فهو الأزلي الأبدي.

7- ويُقال عن الْمَنّ أيضًا إنه «دَقِيقٌ» أو «رَقيقٌ» (Fine) (خر16: 14) وهنا نرى صورة للمسيح في رقته ووداعته وتواضع قلبه.

ويُقال عنه أيضًا إنه «مثل قشور» أو «مستدير» (granular or round) (خر16: 14).  وفى هذا نرى أيضًا رمزًا إلى أن المسيح، مع أنه أخلى نفسه وأخذ صورة عبد، لكنه هو الأزلي الأبدي.  كما أن كلمة «مستديرة» ترمز إلى أن المسيح – له كل المجد – لجميع العالم، وتُرينا أيضًا كم كان المسيح قريبًا من الصغير والكبير، الغني والفقير، المتدين والفاجر، الجميع على السواء أمكنهم أن يصلوا إليه، ليتباركوا فيه.

8- وكان لون الْمَنّ «أبيض» (خر16: 31).  رمزًا إلى حياة ربنا يسوع المسيح الطاهرة «حبيبي أبيض وأحمر» (نش5: 10).  ففي المسيح – له المجد – كمال أدبي فائق لا أثر للعيب فيه، وهو فريد في هذا الكمال وليس له نظير.  فالمولود من العذراء هو «القدوس» (لو1: 35)، وهو الذي في كل حياته «لم يفعل خطية» (1بط2: 22) و«لم يعرف خطية» (2كو5: 21) و«ليس فيه خطية» (1يو3: 5). 

9- وكان الْمَنّ حلو المذاق «طَعْمُهُ كَرِقَاقٍ بعَسَلٍ» (خر16: 31).  هكذا الرب يسوع المسيح، ما أحلاه! وما أشهاه! فهو «جميل... وحلو» (نش1: 16) و«حَلْقُهُ حَلاَوَةٌ وكُلُّهُ مُشتهياتٌ» (نش5: 16) وأيضًا «ثمرته حُلوةٌ لِحلْقِي» (نش2: 3).

ولكن الأكل من الْمَنّ والتمتع بالخبز النازل من السماء يحتاج إلى ذوق سماوي، أما الإنسان الطبيعي فلن يجد في هذا الطعام لذة، فيشتاق إلى طعام مصر، ويميل للرجوع إلى الوراء (عد11: 4،5).  وواضح أننا إذا أردنا التمتع بنصيب كهذا فعلينا أن نفطم قلوبنا عن كل ما في العالم الحاضر الشرير، عن كل شهوة نرغب فيها بحسب الإنسان الطبيعي، أي كأناس أحياء في الجسد (1يو2: 15-17)، وعندئذ نستطيع أن نختبر المكتوب «ذُوقُوا وانظُروا ما أطيب الرب» (مز34: 8)، «إن كنتم قد ذُقتُم أن الرب صالحٌ» (1بط2: 3).

10- وكان الْمَنّ «منظره كمنظر المُقْلِ».  والمُقْل من الأحجار الكريمة (تك2: 12) وهذا يرمز إلى الرب يسوع المسيح المكتوب عنه «الذي إذ تأتون إليه، حجرًا حيًا، مرفوضًا من الناس، ولكن مُختَارٌ من الله كريمُ».

11- وقد ارتبط نزول الْمَنّ بالسبت (خر16: 22-40).  والكلمة «سبت» كلمة عبرية ومعناها بالعربية «راحة».  ومن الجدير بالملاحظة أن السبت (راحة) جاء ذكره في تكوين 2، قبل دخول الخطية في تكوين 3، ثم لا نعود نقرأ في الكتاب المقدس عن السبت حتى نصل إلى خروج 16، بعد أن تم فداء بني إسرائيل من أرض مصر وبيت العبودية؛ صورة لخلاص الله في المسيح.  وارتبط السبت في هذا الفصل بإعطاء الْمَنّ للشعب.  وهذا في تمام المناسبة مع الْمَنّ السماوي الذي يستطيع أن يهب الراحة الحقيقية لكل من يطيع دعوته الكريمة:  «تعالوا إليّ يا جميع المُتْعَبِين والثَّقيلي الأحمال وأنا أُريحكم، احملُوا نيري عليكم وتعلَّموا منِّي، لأني وديعٌ ومُتواضع القلب، فتجدوا راحةً لنفوسكم» (مت11: 28-30).

12- وتوجد في خروج16: 4 نقطتان فيما يتعلق بجمع الْمَنّ وكيفية استعماله.  فكان الإسرائيليون يخرجون من المحلة «ويلتقطون حاجة اليوم بيومها» (خر16: 4).  وهكذا يجب أن نخرج نحن لهذا الغرض عينه. وطبعًا كان عليهم لكي يجمعوا ويلتقطوا الْمَنّ أن ينحنوا أو يركعوا.  وهذه صورة للسجود والشكر على هذه النعمة الغنية التي لا تقدر للنفس المتجددة؛ نعمة ربنا يسوع المسيح الذي نزل من السماء ليكون طعام شعبه.

وأما النقطة الثانية فهي أن الْمَنّ لا يمكن أن يُخزن لاستعماله في المستقبل « يلتقطون صباحًا فصباحًا كل واحدٍ على حَسَبِ أُكلِه» (خر16: 21).  وإذا التقط أحد أكثر من حاجته كان يفسد وينتن إلا ما كان يُجمع لأجل السبت (خر16: 19-24).

وهكذا معنا الآن، فنحن علينا أن نلتقط من الْمَنّ السماوي يوميًا.  وطعام اليوم لا يكفي للغد، إذ يجب أن نتغذى بالمسيح باستمرار، يومًا بعد يوم، وساعة بعد الأخرى، ولا يمكننا أن نأخذ منه أكثر من حاجتنا الوقتية، وهذا يقودنا إلى الاستناد المستمر عليه والشخوص دائمًا إليه «كما أرسلني الآب الحيُّ، وأنا حيٌّ بالآب، فَمَنْ يأكُلني فهو يَحيَا بي» (يو6: 57).

أما عندما كان الإنسان يحفظ الْمَنّ لنفسه، فكانت علامات الفساد تدب فيه. وذلك يشير إلى أن حقائق المسيحية لا تُحفظ في الذهن.  فالذي فهمناه وتعلمناه، نحن مسئولون أن نسير بموجبه ونحققه عمليًا.  فالحياة المسيحية ليست مجرد حفظ حقائق والتمسك بمعتقدات والمجاهرة بنظريات دينية لاهوتية، بل هي عيشة عملية تظهر في حياتنا.

13- وكان على الشعب أن يلتقطوا الْمَنّ قبل شروق الشمس، لذلك كانوا يبكرون إليه فيجدونه كل صباح «وإذا حَمِيَتِ الشمس كان يذُوب» (خر16: 21).  وحمو الشمس يشير إلى الانشغال بالأعمال اليومية.  فإنه يجب أن يكون المسيح – له كل المجد – غرض قلوبنا الأول، وينبغي أن نبكر إليه قبل كل شيء آخر لئلا تتعلق قلوبنا بسواه «أنا أُحبُّ الذين يُحبُّونني، والذين يُبكِّرُون إليَّ يَجدُونَني» (أم8: 17).

كما أن التقاط الْمَنّ باكرًا يُذّكرنا بالْمَنّ الحقيقي الذي كان لسان حاله: «يُوقِظُ كل صباحٍ، يُوقِظُ لي أُذنا، لأسمع كالمُتعَلِّمين» (إش50: 4)، والذي كان من عادته أن يقوم في الصبح باكرًا جدًا ويخرج ويمضي إلى موضع خلاءٍ ليصلي هناك (مر1: 35).

14- ونلاحظ أن الْمَنّ كان يسقط ليلاًً على النَّدَى حتى لا يُلامس الأرض «ومتى نزل النَّدَى على المحلَّة ليلاًً كان ينزل الْمَنّ معه» (عد11: 9).  والليل هنا يشير إلى فشل الإنسان، وهكذا أيضًا جاء المسيح بعد أن تبرهن فشل الإنسان «ولكن لما جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا من امرأةٍ، مولُودًا تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التَّبنِّ» (غل4: 4،5).

والنَّدَى يشير إلى الرضى والإنعاش الإلهي.  والرب يسوع المسيح كان دائمًا موضع الرضى الإلهي لكماله المطلق كإنسان «أنت ابني الحبيب، بك سُررت» (لو3: 22 قارن قض6: 37). 

15- ومما يدعو للأسف والحزن أن الْمَنّ يمكن أن يُحتقر.  فقد اُحتقر في بداية رحلة الشعب من اللَّفيف الذي في وسطهم (عد11: 4-6 ؛ مز106: 14،15) واللَّفيف هم جمع مختلط ويُقصد بهم أُناس من غير بني إسرائيل خرجوا معهم عند خروجهم من أرض مصر، ربما كانوا من عشرائهم أو ارتبطوا بهم بالمصاهرة أو بالصداقة.

وكما أُحتقر الْمَنّ في بداية الرحلة، هكذا أيضًا أُحتقر في نهاية الرحلة، ولكن في هذه المرة كان الاحتقار شديدًا «وتكلم الشعب على الله وعلى موسى قائلين:  لماذا أصعدتُمانا من مصر لنموت في البرية؟ لأنه لا خبز ولا ماء. وقد كرهت أنفسنا الطعام السخيف» (عد21: 5).

وما أكثر اللَّفيف الآن، في دائرة الاعتراف المسيحي، من المسيحيين الاسميين، المهتمين بأمور هذا العالم وبما نهى الله عن الاهتمام به، والذين لا يفهمون للْمَنّ السماوي معنى، ولا يدركون له قيمة، ولا يقدرون أن يعيشوا عليه، ولا يجدون كفايتهم ولذتهم وشبعهم فيه.

بل إنه كلما قاربت رحلة الكنيسة في البرية على نهايتها، كلما كثر «المعلَّمين الكذبة» من القادة الدينيين واللاهوتيين العصريين الذين «يَدسُّون بدع هلاكٍ» (2بط2: 1) ويتهجمون على شخص الرب يسوع المسيح:  الْمَنّ السماوي، فيشككون في أزليته ولاهوته، وفى حقيقة ميلاده العذراوي، وفى حقيقة موته الكفاري بديلاً عن الخطاة، ويشككون في حقيقة قيامته في الجسد، وينكرون ما لموته تحت الدينونة الإلهية من قيمة كفارية غير محدودة لكل من يؤمن به، وينكرون أنه يجب أن يملك ويُستعلن مجده للعالم الذي أهانه، ليسترد لنفسه اعتباره، ويضع جميع الأعداء تحت قدميه.

16- وأخيرًا نقول إنه كما أن ربنا المبارك يسوع المسيح، كان «خبز الله» من قبل نزوله من السماء، أي أنه موضوع سروره ولذته من الأزل، وكما أنه هو أيضًا الْمَنّ الحقيقي الآن، أي طعام وشبع الحياة الجديدة في المؤمنين به.  فإنه في المجد العتيد سيكون هو نفسه مكافأة الغالبين باعتباره «الْمَنّ المُخْفَى».

والْمَنّ المُخْفَى هو الذي كان في قسط من ذهب وكان موضوعًا داخل التابوت لا تراه إلا عين الله (خر16: 33؛ عب9: 4).  ووعد الرب للغالب في برغامس «سأعطيه (أن يأكل) من الْمَنّ المُخْفَى» (رؤ2: 17)، هو إشارة إلى التمتع بكمالات وفضائل وسجايا الرب يسوع المسيح في حياته هنا على الأرض، كما يراها الله نفسه، وإن اختلف القياس، لأنه سيظل طوال الأبدية «وليس أحدُ يعرف مَنْ هوَ الإبن إلا الآب» (لو10: 22؛ مت11: 27).

فَشَخْصَهُ مَنْ يَعْرِفُ
وحُبَّهُ مَنْ يَصِفُ
  فإنِّهُ سَمَا وفاقْ
فلاسمِهِ المديحُ لاقْ