أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - شخصية المسيح
السنة 2004
المسيح الخادم التاعب

ما أعظمه وهو المخدوم من الملائكة بقواتها ورياساتها وسلاطينها، ألوف ألوف تخدمه، وربوات ربوات وقوف قدامه (دا7: 10؛ مز68: 17؛ 1مل22: 19؛ رؤ5: 11)، لكنه - له كل المجد – عندما جاء متجسدًا أعلن من البداية تسلحه بنية التعب في الخدمة إذ قال بفمه الكريم: «لأن ابن الإنسان أيضًا لم يأت ليُخدَم بل ليخدِم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مر10: 45)، ولقد عبّر الرسول بطرس عن تعبه في الخدمة الجليلة بقوله: «الذي جال يصنع خيرًا، ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس» (أع10: 38).

لقد وضع الرب يسوع على عاتقه أن يتعب هو لأجل حاجات شعبه لنستريح نحن في الزمان والأبدية.  لقد خدم وما زال يخدم وسيظل يخدم. ما أمجده عندما خدمنا كالوسيط خدمة المصالحة، والتي كانت كلفتها رفعه على صليب اللعنة والعار، فصار لعنة لينقذنا من اللعنة ولننال التبني، وجُعل خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه! هل هو أمر يسير أن يحمل القدوس البار خطايا الأثمة الفجار على خشبة اللعنة والعار محتملاً الخزي والمرار؟!

يا لها من أتعاب رهيبة فيها سُحق بين المطرقة والسندان من الله العادل الديان، ومن الكلاب وأقوياء باشان، لأجل هذا قد جاء - تبارك اسمه - فحصل لنا بأتعاب الصليب صُلحًا وسلامًا أبديًا مع الله وغفرانًا وتبريرًا مجانيًا، اسمعه وهو يقول بروح النبوة «تعبت من صراخي، يبس حلقي، كلت عيناي من انتظار إلهي» (مز69: 2). كم كانت خطايانا سبب تعب له «أتعبتني بآثامك» (إش43: 24)، «لقد أتعبتم الرب بكلامكم» (ملا2: 17)!

والآن: هو يخدمنا بكهنوته إذ يعين ضعفاتنا، ويظهر أمام وجه الله لأجلنا، ليشفع لنا ويرد نفوسنا.

أنت في العرش لأجلي يا شفيعي
  تضمن كل حياتي

فيك كل حاجتي ربي يسوعي
  يا معيني بل ثباتي

ومن العجيب أن لن يكف عن خدمتنا حتى في الأبدية، فهو الذي سيتمنطق ويتكئنا ويتقدم ويخدمنا (لو12: 37). 

دعونا نتأمل في بعض لمحات تعبه في الخدمة وهو ابن الله الذي ظهر في الجسد.  فيذكر لنا البشير يوحنا «إذ كان قد تعب من السفر، جلس هكذا على البئر» (يو4: 6)، وذلك ليلتقي بالسامرية ويخلصها.  إذ هو الراعي الذي يذهب لأجل الضال حتى يجده.

وفى يوحنا7: 53؛ 8: 1 نقرأ «فمضى كل واحد إلى بيته، أما يسوع فمضى إلى جبل الزيتون».  عجبًا وكل العجب!  إذ بعد عناء وتعب التعليم في عيد المظال ولا سيما اليوم الأخير العظيم من العيد حيث نادى بصوت عظيم للعطاش، وحيث أرسل الفريسيون ورؤساء الكهنة خدامًا ليمسكوه. تصور كم المتاعب النفسية والجسدية.  لكن ما أعظمه، ففي الوقت الذي مضى كل واحد إلى بيته ليستريح بعد عناء، ويتناول من الطعام ما لذ وطاب، إذا به له المجد يمضي إلى جبل الزيتون بلا راحة ولا طعام.  لقد كان منهاج حياته «ينبغي أن أعمل.. ما دام نهار» (يو9: 4) وأيضًا «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله» (يو4: 34).

وكيف يتأتى له أن يستريح وهو يرى الناس كخراف لا راعي لها، يغطيهم البؤس والشقاء بسبب الخطية وأعمال الشيطان، فها هم المرضى والضعفاء والمفلوجين والبرص والعرج والعمي والعسم، وها هو إبليس الذي له سلطان الموت وقد صاروا له عبيدًا بسبب الخوف من الموت، فكانوا يحتاجون لمن يحررهم وينقلهم من الموت إلى الحياة، ومن الظلمة إلى النور.

كم كان بأحاسيسه الرقيقة يتألم لهذه المشاهد، فكان يحمل أحزانهم ويتحمل أوجاعهم وكان يسعى ليطلب ويخلص ما قد هلك.

هل تأملت قارئي العزيز في ابن الله وهو يقوم عن العشاء ويخلع ثيابه ويتزر بالمنشفة ويصب الماء في مغسل ويغسل أرجل التلاميذ ويمسحها بالمنشفة (يو13) أ ليست هذه خدمة العبيد؟ إنه السيد العظيم «الذي.. أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد» وهو ما يعمله معنا الآن روحيًا، حيث يطهرنا بغسل الماء بالكلمة.

ولشدة ما اندهشت عندما تأملت يومًا من أيام خدمته التاعبة كما ورد في إنجيل الخادم النموذجي (مرقس الأصحاح الأول) ففي ع 16 نراه ماشيًا عند بحر الجليل يعلِّم الجمع، ثم يدعو سمعان فيخبروه عن حماته ومرضها، فيتقدم ويقيمها ماسكًا بيدها، وتتركها الحمى حالاًً وصارت تخدمهم (ع29،30). ثم لما صار المساء إذ غربت الشمس قدموا إليه جميع السقماء والمجانين. وكانت المدينة كلها مجتمعة على الباب، فشفى كثيرين كانوا مرضى بأمراض مختلفة، وأخرج شياطين كثيرة.

هل فكرت عزيزي القارئ في كم ونوعية البشر الذين شفاهم، ومنهم من كان يقع عليه ليلمسه؟  ولا تنسَ كم المجانين الذين تسكنهم الشياطين وحجم المعاناة والتعب في التعامل مع هذه العينات (علمت من أحد إخوتنا الأحباء المتخصصين في الطب النفسي أنه لا بد أن يأخذ فاصلاً بين مريض والذي يليه، يشغل نفسه بأي شيء يبعده عن هذا الجو وإلا صار، كواحد من مرضاه).

وبعد كل التعب والعناء النفسي والجسماني نقرأ في ع 35 وفى الصبح باكرًا جدًا قام وخرج ومضى إلى موضع خلاء وكان يصلي هناك.  ثم بعد ذلك مضى إلى القرى المجاورة ليكرز هناك، فكان يكرز في مجامعهم في كل الجليل ويخرج الشياطين (ع37)، ثم نراه يتحنن على الأبرص ويلمسه فيشفيه (ع40)، وبالرغم من أنه كان يسير في مواضع خالية ليختفي قليلاًً عن الناس إلا أنهم كانوا يأتون إليه من كل ناحية (ع45)، لم يكن له سكرتارية ولا نوتة مواعيد بل كان متاحًا في كل وقت ولأي شخص.  يا له من خادم تاعب لم يكن يرضي نفسه أو يعمل شيئًا لأجل نفسه (رو15)، وكان شعاره الدائم «أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل» (يو5: 17). 

وأرجو أن الفت انتباهك عزيزي القارئ إلى ص 4 من إنجيل مرقس لنرى كمّ التعب في خدمته للجموع وتعليمهم بأمثال وشرحها لهم بصبر واحتمال من الصباح إلى المساء. ثم طلب منه تلاميذه أن يجتازوا وهو معهم إلى العبر ليأخذ قسطًا من الراحة بعد صرف الجمع فتنحى جانبًا ونام على وسادة في مؤخرة السفينة، وما هي إلا لحظات، وبسبب عدم إيمان التلاميذ الذي حرمهم من الهدوء وسط هياج البحر، أيقظوه قائلين: «أما يهمك أننا نهلك؟».  وما أعظمه فبدلاً من أن يوبخ من عكّروا صفو راحته، قام وانتهر الريح التي أزعجتهم وصار هدوء عظيم.  وبعد وصولهم إلى العبر كان أمامه برنامج حافل استمرارًا لأتعاب خدمته الكثيرة، فبمجرد أن رست السفينة استقبله من القبور مجنون كورة الجدريين الذي لم يقدر أحد أن يربطه، بل كان يصيح دائمًا ويجرح نفسه بالحجارة، فخلّصه من جيش الأرواح الشريرة، وصار جالسًا ولابسًا وعاقلاً.  وماذا كان تقدير سكان هذه المنطقة لإحسانه العظيم؟ يا للأسف طلبوا إليه أن يمضي من تخومهم.  وتبع هذا ذهابه مع يايرس رئيس المجمع لإقامة ابنته، وفى الطريق شفى نازفة الدم (مر5)، ثم اتجه بعد ذلك إلى وطنه ودخل المجمع ليعلم هناك، وبالرغم من أنهم بهتوا من تعليمه، لكنهم عثروا به، فكان بلا كرامة في وسطهم (مر6). 

وحيث أن مرقس يكلمنا عن المسيح كالخادم التاعب لذا فنراه مشغولاً بأعمال الرحمة عملاً تلو الآخر متنقلاً من مكان لآخر دون راحة أو تأجيل، لذا يذكر كلمة للوقت نحو 40 مرة كما يذكر 18 معجزة عملها الرب، ويركز على يديه التي صنع بهما الخير والرحمة فيذكر أعمال يديه نحو 14 مرة.  وحتى ختام الإنجيل بعد ارتفاعه عن يمين الله «كان الرب يعمل معهم ويثبت الكلام بالآيات التابعة»؟

مجالات خدمته
ولقد شملت خدمته سداد الاعواز الروحية من كرازة وتعليم، وأيضًا سداد الاعواز الجسدية كإشباع الجموع وشفاء المرضى وإخراج الشياطين.

أماكن خدمته:
لم يتقيد بمكان معين أو ينتظر مجيء النفوس له بل كان هو الذي يذهب إليها:

خدم في القرى «وكان يطوف القرى المحيطة» (مر1: 38؛ 6: 6)، ولك أن تتخيل أحوال القرى منذ ألفي عام.

خدم في المدن «وكان يسوع يطوف المدن كلها والقرى ويعلم في مجامعها» (مت9: 35).

خدم عند البحر (مر1: 16؛ 2: 13؛ 3: 7؛ 4: 1؛ 7: 31).

خدم على الجبل (مر 3: 13)؛ مرقس 9 صعد إلى الجبل وتكلم موسى وإيليا عن خروجه؛  متى 5‚6‚7 (الموعظة على الجبل).

خدم في البيوت (مر1) ذهب لبيت سمعان وشفى حماته من الحمى.  ثم شفى السقماء والمجانين الذين اجتمعوا على الباب.  وفى مرقس 2 دخل بيتًا وكان يخاطب الجموع بالكلمة وهناك شفى المفلوج.  مرقس5 جاء لبيت يايرس وأقام ابنته.

خدم في المجمع (مر1: 21): دخل مجمع كفرناحوم وصار يعلِّم وأخرج شيطانًا، مرقس3: 1 دخل المجمع وشفى ذا اليد اليابسة، مرقس6: 2 علَّم في مجمع ثم وضع يديه على مرضى قليلين وشفاهم.

خدم في مواضع خلاء (مر6: 31) حيث تراكض الجموع الكثيرة فعلمهم وأشبع جوعهم.

خدم في الأسواق (مر6: 56): حيث وضعوا المرضى في الأسواق وطلبوا إليه أن يلمسوا هدب ثوبه، وكل من لمسه شُفي.
والآن ما هي مكفأة خدمته التاعبة التي ختمها بالصليب وبها مجَّد الله أباه تمامًا؟ الإجابة: «لذلك رفعه الله أيضًا، وأعطاه اسمًا فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة.. ويعترف كل لسان أن يسوع هو رب لمجد الله الآب» (في2).

هذا هو المسيح الذي ترك لنا مثالاًً لنتبع خطواته، وهذا حافز لنا أن نتعب لأجل الرب فنكون راسخين غير متزعزعين مكثرين في عمل الرب كل حين عالمين أن تعبنا ليس باطلاً في الرب (1كو15: 58).

وهيب ناشد