أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - شخصية المسيح
السنة 2004
المسيح رجل النعمة


قال المسيح عن نفسه: «ليس أحد يعرف الابن إلا الآب».  ومن أين لنا نحن المحدودين في الفهم والقاصرين في الإدراك أن نعرف الغير محدود.  لكن، وعلى مبدأ النعمة – التي سنتكلم عنها الآن – وبعمل الروح القدس، نستطيع أن نقترب ونكشف ناحية رجليه، لنرى ولو اليسير من غنى نعمته.

يعلن الكتاب المقدس بعض ألقاب ربنا يسوع المسيح وصفاته.  وعن موضوعنا نستطيع أن نقول عنه إنه ”رجل النعمة“.

وسنتأمل الآن في بعض المشاهد التي تظهر ارتباط النعمة بشخص ربنا يسوع المسيح:

أولاً: ظهور النعمة

في رسالة تيطس يأتي القول: «ظهرت نعمة الله» (تي2: 11).  ومن هذا القول نفهم أن النعمة كانت موجودة أزلاً عند الله لأجلنا.  ولقد سبق وتنبأ عنها الأنبياء قديمًا «الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم» (1بط2: 10).  وكان في قصد الله أن يتعامل بها مع الجنس البشري.  وقد ظهر هذا في وقت استعلان فساد الإنسان وشره الكثير، عندما فسدت الأرض وامتلأت ظلمًا، إذ يأتي القول: «وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب» (تك6: 9).  وهذه أول إشارة للنعمة، ثم تتوالى مشاهد إعلانها لفترات محدودة ولأناس محدودين، إلى أن ظهرت بصورة كاملة في المسيح (2تي1: 9،10).

وأما لماذا تأخّر ظهورها أربعة آلاف سنة، فذلك لسببين:

1- لم يوجد قبل المسيح من هو كفؤ لإظهار نعمة الله، بسبب محدوديتهم وعدم أهليتهم.

2- كان لا بد أن يأتي الناموس أولاً (يو1: 17)، وذلك ليُظهر حقيقة قلب الإنسان وفساده وشره «وأما الناموس فدخل لكي تكثر الخطية».  وعندما أدى الناموس مهمته وأظهر للإنسان خطاياه الكثيرة، وعدم مقدرته على فعل شيء يبرره أمام الله، هنا ظهرت النعمة «حيث كثرت الخطية ازدادت النعمة جدًا» (رو5: 20).

ثانيًا: ملء النعمة

«الكلمة صار جسدًا.. مملوءًا نعمة وحقًا» (يو1: 14). عندما ظهر المسيح ظهرت النعمة. لكنها لم تكن قاصرة أو محدودة، إذ أتى مملوءًا بها.  إنه بحق نبع نعمة لا يجفّ ولا يكف عن الجريان.  ولأنه غير محدود فالنعمة المملوء بها غير محدودة.  إنها نعمة تسد كل احتياج مهما كان نوعه أو حجمه.

ثالثًا: مقرّ النعمة

لقد كان - له المجد - مقرًّا للنعمة «وكانت نعمة الله عليه» (لو2: 40). في لقطات قليلة يتكلم الوحي عن حياة ربنا يسوع قبل بدء خدمته الجهارية. ولكن في هذه الأثناء، كطفل ثم صبي ثم شاب، كان ينمو نموًا طبيعيًا بحسب الطبيعة الإنسانية، لكنه كان يتفوق على الكل في حكمته وفهمه.  لذا انفرد بمحبة الله وتقديره له ورضاه عليه.  وكأن النعمة لم تجد مقرًا لها إلا في ذلك الشخص الفريد.  فكان هو يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس (لو2: 52)، في الوقت الذي يتقدم فيه الكل إلى الأردإ، في الشر والفجور.  فهو اختلف عن الأطفال المرتبطة قلوبهم بالجهالة (أم22: 15) واختلف عن الشباب المرتبطة قلوبهم بشهواتهم الشبابية (2تي2: 22).

رابعًا: خطوات النعمة

جاء المسيح ”لا ليُخدَم بل ليَخدِم“، لذا كان يجول يصنع خيرًا من قرية إلى أخرى، ومن شارع إلى آخر، ومن شخص إلى آخر.  كان يسير ليرفع المعاناة التي سبّبتها الخطية، ويقوم بتوصيل رسالة النعمة للبائسين والمأسورين ومنكسري القلوب.  فئات من الناس يستحي الناس بهم، قادته نعمته إليهم.  فلقد ذهب بالنعمة إلى مريض عند بركة ليس له إنسان، وإلى مجنون في القبور يخاف منه الإنسان، وإلى امرأة نجسة ينفر منها كل إنسان.

والآن لنقف قليلاً أمام بعض الأماكن التي ذهب إليها – له المجد – لنتعرف هناك على بعض مظاهر النعمة.

إلى بيت الفريسي ذهب وهو يعرف دوافع الفريسي من دعوته، لكنه ذهب وجلس لا ليأكل من مائدته بل ليُشبع هناك جوع امرأة خاطئة جذبتها نعمته إليه.  ورغم علمه بنجاستها تركها تقبِّل قدميه وتغسلهما بدموعها.  المشهد الذي قاد الفريسي ليتشكك في كونه نبيًا، إذ كيف يتركها لتلمسه وهى خاطئة؟!  فأي مشهد هذا!  امرأة معروفة في المدينة بشرها وفسادها، تدخل للمملوء نعمة، وتخرج بعدها محمَّلة ببركات النعمة: مغفرة الخطايا.. الخلاص.. السلام.

مشهد آخر لنعمة المسيح نراه في مشوار طويل سار فيه ساعات كثيرة حتى تعب من السفر ليلتقي مع امرأة شريرة ونجسة. يقول الكتاب: «كان لا بد له أن يجتاز السامرة»، ليس لجغرافية الأرض اجتاز مرغمًا، بل لسبب النعمة التي لا تعرف الجغرافية. 

والنعمة التي جعلته لا ينتظر حتى تأتي إليه هذه المرأة السامرية كما فعلت المرأة الخاطئة.

والنعمة التي جعلته لا ينتظر حتى يميل النهار بحرارته اللافحة.

والنعمة التي قادت السيد الجالس على الكرسي العالي والمرتفع ليجلس على البئر.

والنعمة التي جعلت الذي لا يكل ولا يعيا يتعب من السفر.

والنعمة التي جعلت المفجر عيونًا في الأودية يعطش ويأخذ مكان المحتاج أمام امرأة نجسة لتعطيه ليشرب.

مشهد ثالث تلمع فيه نعمة المسيح، وهو مشهد لقاء بالمرأة التي أُمسكت في ذات الفعل.

في لقائه بالسامرية جلس على البئر..  وهنا انحنى إلى الأرض
الفريسيون المملوؤون بالشر أمطروها بنظرات الاحتقار..  والمملوء نعمة نظر إلى الأرض ليتفادى إحراجها وجرحها.

رجل الناموس يقول مثل هذه تُرجم..  لكن ماذا يقول رجل النعمة؟

إنه بعد أن صف خطايا المشتكين أمام أعينهم، وابتدأوا في الخروج واحدًا وراء الآخر. ينتصب رجل النعمة ليعلن لها بركاته الثلاثية

  ولا أنا أدينك
      اذهبي  
    لا تخطئي أيضًا.

خامسًا: كلمات النعمة

قال الكتاب عن المسيح «انسكبت النعمة على شفتيك» (مز45: 2).  وعندما نطق بأولى كلماته المدوَّنة بإنجيل النعمة «روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشِّر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة الرب المقبولة» كان الحاضرون يتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه (لو4: 17-23).  لقد لمس الجميع هذه النعمة من أول كلمات نطق بها، بل نقول لقد رأوا النعمة متجسدة أمامهم.

ينطبق عليه القول «كلمات فم الحكيم نعمة» (جا10: 12).  والآن لنقف أمام كلمة واحدة من كلماته الأخيرة، والتي قيلت في أقسى مشاهد حياته له المجد: مشهد آلام الصليب.  لقد سمّر الأثمة يديه اللتين أظهرتا أعمال نعمته، وسمّروا رجليه اللتين حملتاه لتوصيل رسالة النعمة؛ فماذا قال العظيم؟  لم يفرط بشقتيه، ولا سبّ يومه، ولم يطلب من الله أن يأخذ نفسه، ولم يطلب الانتقام من أعدائه؛ لكنه – له المجد – أعلن أسمى وأحلى وأعظم إعلانات النعمة، عندما طلب المغفرة لصالبيه وقاتليه.

سادسًا: غنى النعمة

لقد أتى - له المجد - مملوءًا نعمة، ومن ملئه نحن جميعًا أخذنا ونعمة فوق نعمة (يو1: 16) إنها بحق «فيض النعمة» (رو5: 17).

هذا الفيض يتمثل في الآتي:

في الماضي: النعمة خلّصتنا من خطايانا «بالنعمة أنتم مخلصون» (أف2: 5)

وفى الحاضر: «النعمة التي نحن فيها مقيمون» (رو5: 2)

وأثناء إقامتنا في النعمة نجدها:

  تعلمنا (تي2: 12)   
   وتقوينا في ضعفنا (2تي2: 1)
    وتكفينا مهما تعددت احتياجاتنا (2كو12: 9)

وفى المستقبل: «فالقوا رجاءكم بالتمام على النعمة التي يؤتى بها إليكم عند استعلان يسوع المسيح» (1بط1: 13).
فماذا يعوزنا بعد؟!

إلهنا هو إله كل نعمة، وهو جالس على عرش نعمة، ولنا ثقة أن نتقدم لننال رحمة ونجد نعمة.. فماذا نقول لهذا؟!

سابعًا: عقاب من يزدري بالنعمة

«فكم عقابًا أشر تظنون أنه يحسب مستحقًا من داس ابن الله، وحسب دم العهد الذي قدس به دنسًا، وازدرى بروح النعمة؟» (عب 10: 29).

عزيزي.. يا من تقرأ هذه الكلمات. هل رأيت نعمة المسيح؟  هل تعرفت على رجل النعمة؟  ليتك والآن، قبل أن تترك المجلة من يدك، تلبّي نداء النعمة، وتقبل دعوة النعمة، لترتوي من أنهار نعمة المسيح.  وإلا هل تعلم ماذا ينتظرك من عقاب؟ «مخيف هو الوقوع في يدي الله الحي».  إن رجل النعمة الذي يدعوك الآن وينتظرك أن تأتي إليه، سيتحول فجأة إلى رجل دينونة (أع17: 31)؛ ويومها ماذا ستفعل؟  فليتك تأتي إليه الآن في يوم الخلاص وفي الوقت المقبول.