أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - شخصية المسيح
السنة 2004
معمودية المسيح ومسحته

جاء كثيرون إلي يوحنا المعمدان ليعتمدوا في نهر الأردن معترفين بخطاياهم، وليعلنوا عن استعدادهم لاستقبال المسيا.  لأن يوحنا المعمدان كان مرسلاً أمامه ليعدّ الطريق له.  وكان قوله: «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات».  ولكن جاء إليه المسيح - له المجد - ليعتمد منه، فمنعه يوحنا قائلاً: «أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ», وهنا نرى أفضلية وعظمة المسيح لأنه البار القدوس الذي لم يعرف خطية، ولذلك فهو لم يكن بحاجة إلي توبة مثل بقية التائبين.  ولكنه اعتمد للأسباب التالية:

(1) في معموديته ربط نفسه بالخطاة التائبين والمساكين والمنسحقي الروح والمرتعدين من كلامه.

(2) في معموديته إعلان عن بداية خدمته: حيث نجد في سفر أعمال الرسل أن الشخص الذي كان سيتم اختياره رسولاً ليأخذ خدمة يهوذا الاسخريوطي الخائن, كان ينبغي أن يكون مرافقًا للرب وللتلاميذ منذ معمودية يوحنا حتي صعود الرب «فينبغي أن الرجال الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج، منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنا، يصير واحدًا منهم شاهدًا معنا بقيامته» (أع1: 21,22). 

وأيضًا في كلام الرسول بطرس عن الرب يسوع «هذا هو رب الكل.  أنتم تعلمون الأمر الذي صار في كل اليهودية مبتدئًا من الجليل بعد المعمودية التي كرز بها يوحنا.  يسوع الذي من الناصرة، كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة، الذي جال يصنع خيرًا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه» (أع10: 37, 38).  من هذين الشاهدين الكتابيين نفهم أن الرب بدأ خدمته الجهارية بعد معموديته في نهر الأردن, ونحن نعلم أن نهر الأردن يشق أرض عمانوئيل جغرافيًا إلي شطرين - شرق الأردن وغرب الأردن - وهكذا معمودية المسيح له المجد في الأردن تضع حدًا فاصلاً بين قسمين ظاهرين في حياة الرب؛ أحدهما سنوات صمته وسكونه في الناصرة حتى عمر الثلاثين، وثانيهما سنوات خدمته التي انتهت بصلبه وقيامته.

(3) في معموديته إعلان عن ظهوره لإسرائيل: لأن يوحنا المعمدان يذكر قائلاً: «وأنا لم أكن أعرفه لكن ليظهر لإسرائيل لذلك جئت أعمد بالماء» (يو1: 31).  فكان عمل المعمدان ليس فقط تهيئة الشعب لاسنقبال مسياهم وملكهم بل أيضًا لإظهار هذا المسيا وتعريفهم به.

(4) في معموديته إعلان عن عظمته: فيوحنا المعمدان منعه شاعرًا أمام نور قداسته بخطاياه هو نفسه وأمام عظمته بتصاغره الشديد.  فقال للمسيح له المجد: « أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ».

(5) في معموديته إعلان عن كماله المطلق ورضا الآب وسروره به: لم تكن السماء قد فُتحت قبل ذلك لإنسان علي الأرض، لأنه لم يوجد أحد من البشر ينظر الله إليه بالرضا التام (مز14: 2, 3).  إلي أن وقف أمامه ابنه الوحيد؛ إنسانًا وديعًا مطيعًا قدوسًا وبلا خطية، ففُتحت له السماوات شهادة لكمال شخصه، وإعلانًا عن رضي الآب عنه.  وأتي صوت الآب معلنًا سروره  بابنه «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت»، وهذا ما قيل بإشعياء النبي: «هوذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسه» (إش42: 1).  لقد سُمع صوت الآب متكلماً لابنه الحبيب وهو هنا علي الأرض ثلاث مرات.  المرة الأولي في المعمودية «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت» (مت 17:3).  والمرة الثانية علي جبل التجلي «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا» (مت5:17).  والمرة الثالثة في أورشليم قبل الصليب عندما قال يسوع: «أيها الآب مجد اسمك. فجاء صوت من السماء مجّدت وأمجد أيضًا» (يو28:12).

(6) في معموديته إعلان عن قداسته: نزل الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة واستقر علي الرب يسوع, وبذلك وجد مسكنًا له هنا علي الأرض.  وحينما نرجع إلي الأصحاح الأول من سفر التكوين نجد أن الأرض كانت خربة وخالية, وكان روح الله يرف علي وجه المياه.  وكأنه لا يجد مكانًا له في مثل هذه الأرض الخربة والخالية.  لكن في المسيح - له المجد - وجد مسكنًا وراحة ومستقرًا له وذلك لقداسته المطلقه ولكماله .

في تقديس الكهنة في العهد القديم كان يوضع عليهم الدم أولاً ثم يمسحون بالزيت ثانيًا.  والدم يشير إلي دم المسيح الذي يطهر من كل خطية, والزيت يشير إلي الروح القدس.  وفي هذا رمز للكنيسة – جماعة المؤمنين بالمسيح – فالذين احتموا في الدم واغتسلوا به أولاً؛ يسكن فيهم الروح القدس بعد ذلك «إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس» (أف13:1).  أما رئيس الكهنة  فكان يمسح بدهن المسحة مباشرة قبل وضع الدم (لا12:8)، وفي هذا رمز للرب يسوع المسيح القدوس البار الذي لم يعرف خطية، لذلك عند معموديته فإننا نجد الروح القدس قد نزل عليه واستقر عليه دون الحاجة إلي ذبيحة أو دم.

ولما حل الروح القدس على المسيح له المجد. اتخذ هيئة جسمية مثل حمامة وذلك لدلاله علي طهارته ومحبته ووداعته ولطفه وبساطته. الحمام هو طير السماء الذي يناسب الرب يسوع «الإنسان الثاني. الرب من السماء».  ولكن لما حل الروح القدس علي التلاميذ يوم الخمسين ظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار, وهذا يتناسب مع حالة التلاميذ الذين يحتاجون إلي تنقية باستمرار.

(7) في معموديته إعلان عن استعداده للطاعة حتي الموت: فحينما منعه يوحنا المعمدان قال له الرب: «اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل بر» (مت15:3).  ومعنى هذه العبارة هو الإعلان عن استعداده للموت طاعة لمشيئة الآب.  لأن نهر الأردن هو نهر الموت.  وبالمعمودية نجد إشارة لاستعداده للطاعة الكاملة للآب حتى الموت موت الصليب.

(8) في معموديته إعلان عن مسحه للخدمة: يسمى حلول الروح القدس على المسيح له المجد مسحة بالنظر إلي خدمته «كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة الذي جال يصنع خيرًا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه» (أع38:10).

وفي العهد القديم كان كل من الملك والنبي والكاهن يمسح بالزيت أو الدهن.  فداود مُسح ليكون ملكًا (1صم 13:16)، وهارون مسح للكهنوت (لا12:8) وأليشع بن شافاط مسح نبيًا (1مل16:19).  وكان لنزول الروح القدس على الرب يسوع هذه المعاني السابقة، فهو الملك والنبي والكاهن.  وهذا هو محور نبوات العهد القديم.  لذلك حين سمع أندراوس بشهادة المعمدان قال لأخيه سمعان: «قد وجدنا مسيا الذي تفسيره المسيح»، وأيضًا قال له نثنائيل: «يا معلم أنت ابن الله. أنت ملك إسرائيل» (يو1: 41, 49).

والرب يسوع المسيح حينما كان علي الأرض كالإنسان كان هو النبي الذي تكلم عنه موسي في تثنية18: 15-18.  لذلك بعد أن أشبع الرب الحموع الكثيرة بالخبز والسمك قالوا: «هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلي العالم» (يو14:6).  وقالت له المرأة السامرية: «يا سيد أرى أنك نبي» (يو19:4).

وشهد عنه الرسول بولس بالروح القدس قائلاً: «فإذ لنا رئيس كهنة عظيم قد اجتاز السموات يسوع ابن الله فلنتمسك بالإقرار» (عب14:4).  وهو الآن في السماء يقوم بخدمة الكهنوت لجميع المؤمنين إذ يرثي لضعفاتنا ويعين المجربين (عب4:2).

والأناجيل الثلاثة الأولى تقدم لنا الرب في هذه الصفات الثلاث: فإنجيل متي يتكلم عنه كالملك, وإنجيل مرقس يتكلم عنه كالنبي, وإنجيل لوقا يتكلم عنه كالكاهن.

(9) في معموديته إعلان عن شخصه ابن الله وابن الإنسان: للرب يسوع طبيعتان, طبيعة إلهية وطبيعة إنسانية.  والآيات التي تدل علي ذلك كثيرة جدًا في الكتاب المقدس، نذكر منها علي سبيل المثال: «وبالإجماع عظيم هو سر التقوي الله ظهر في الجسد» (1تي16:3).  ولذلك في المعمودية نجد صوت الآب من السماء يعلن عن شيئين:

أولاً: أن المسيح - له المجد - هو ابنه الأزلي الأبدي «هذا هو ابني الحبيب».  وفي هذا إعلان عن لاهوته.

ثانيًا: أن المسيح - له كل المجد - هو الإنسان الكامل.  ونجده في القول «الذي به سررت» أو الذي فيك وجدت سروري.  فالآب وجد كل سروره في الإنسان الكامل الذي عاش حياة الكمال، وفي هذا إعلان عن ناسوته.
وتسجّل معمودية الرب يسوع في نهر الأردن والشهادة السماوية التي تبعت ذلك في الأناجيل الثلاثة الأولي (متي – مرقس – لوقا) وذلك لأنها تتكلم عن ناسوت الرب يسوع ومجيئه طبقًا لنبوات العهد القديم.  أما الأنجيل االرابع وهو إنجيل يوحنا فلا تُذكر فيه المعمودية, لكنه يشير إلي نزول الروح القدس فقط وذلك لأن غرض الإنجيل هو أن يتكلم عن لاهوت ربنا يسوع المسيح وبنوته الإلهية.

يُذكر في إنجيل متي الأصحاح الثالث أنه عندما جاء المسيح له كل المجد ليعتمد منعه يوحنا المعمدان, بينما في إنجيل يوحنا الأصحاح الأول يذكر المعمدان قائلاً: «وأنا لم أكن أعرفه» لذلك يأتي هذا السؤال:  هل كان المعمدان يعرف الرب يسوع قبل المعمودية أم لا؟

الإجابة: كان يوحنا المعمدان يعرف الرب يسوع قبل المعمودية كالشخص العظيم الذي هو أفضل منه، لذلك منعه قائلاً له «أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليَّ», لكن لم يكن يعرفه كابن الله, لكنه عرفه كابن الله بعد المعمودية إذ حل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة وسمع صوت الآب قائلاً: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت».  لذلك يقول المعمدان: «أنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي تري الروح نازلاً ومستقرًّا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله» ( يو1: 33, 34).

(10) في معموديته إعلان عن الله الواحد المثلث الأقانيم: من كلمة الله نعلم أن الله واحد لكنه ثلاثة أقانيم: الآب والابن والروح القدس.  وفي مشهد معمودية الرب يسوع حيث نسمع صوت الآب متكلمًا من السماء ونري الابن, شخص الرب يسوع, معتمدًاُ في نهر الأردن, والروح القدس ينزل عليه بهيئة جسمية مثل حمامة واستقر عليه.

وهذه الحقيقة هامة جدًا وهي من أساسيات الإيمان المسيحي ونقبلها بالإيمان , لذلك أوصي الرب التلاميذ قائلاً: «عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (مت19:28).

في معمودية الرب نرى الروح القدس صار للحظة منظورًا في شكل حمامة، والآب صار مسموعًا، والابن على الأرض ملموسًا ومحسوسًا لأنه تجسد فاشترك في اللحم والدم.

أمين هلال