أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - الألم
السنة 2013
أرميا المتألم
يُعرف إرميا بأنه “النبي الباكي”.  فلم يبكِ نبيٌّ كما بكى إرميا، وهذا واضح من نبوته ومرثاته.  وبكاؤه لم يكن فقط على ما أصابه، بل بالأكثر بسبب حالة شعب الله التي استوجبت قضاء الرب عليه.
لقد كان العار والسخرية من نصيبه كل يوم.  أهله غادروه، وأهل مدينته أرادوا قتلهُ (إر11: 19-21؛ 12: 6).  ضُرب ووُضع في المقطرة (إر20)، وسُجن (إر37)، وأُلقي به في الوحل الذي غاص فيه (إر38).  خاض المرائر الكثيرة؛ لكن الرب شجعهُ ودعمهُ حتى عبر تلك الآلام.

ويمكننا التأمل في آلام إرميا من خلال النقاط التالية:

أولاً: نوع آلام إرميا

عاش إرميا في جو مشحون بالفساد والشرور الأدبية، حيث تحَّول الشعب عن عبادة الرب، وانغمس في عبادة الأوثان.  هذا كان من الداخل.  أما مِن الخارج فقد رأى إرميا بمنظار النبوة عجلات القضاء الإلهي تقترب من الشعب.  فدفعهُ هذا كله أن يُبلغ رسالة الله للشعب بكل أمانة، فعرَّضهُ ذلك للعداوة والبغضة والاضطهادات من كافة طبقات الشعب.

آلام إرميا إذًا لم تكن لشرور فعلها (1بط4: 15)، بل لأنه كان في صف الله، شاهدًا على شرور الشعب، أمينًا لكلمتهِ، كما كان يوحنا الحبيب في بطمس من أجل كلمة الله ومن أجل شهادة يسوع المسيح (رؤ1: 9).

كان إرميا يحتمل أحزانًا متألِّمًا بالظلم من أجل ضمير نحو الله، متألمًا من أجل البر (1بط2: 19؛ 3: 14).  فليعطنا الرب - إن سمحت مشيئته أن نتألم - أن نمتحن نوعية آلامنا متذكرين المكتوب: «الَّذِينَ يَتَأَلَّمُونَ بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ (كإرميا)، فَلْيَسْتَوْدِعُوا أَنْفُسَهُمْ، كَمَا لِخَالِقٍ أَمِينٍ، فِي عَمَلِ الْخَيْرِ» (1بط4: 19).

ثانيًا: خزفية الإناء (2كو4: 7-18)


كان إرميا بطبيعتهِ رقيق القلب والمشاعر، ونجدهُ - كأيّ مؤمن من المؤمنين - مُعرَّضًا للضعف والخوار؛ لأنه إنسان تحت الآلام مثلنا.  تارة نجدهُ مرنِّمًا ومُسبِّحًا (إر20: 13)، وتارة نراه منحنيًا خائرًا (إر20: 14-18).  ونحن كثيرًا ما نشبه إرميا في هذا؛ فعندما نثق في “إله خلاصنا” نتشجَّع ونتشدَّد، ولكننا نخور عندما تتحول عيوننا عنهُ!
ومن المواقف التي ظهرت فيها خزفية الإناء في إرميا:

1. يفشل تحت ضغط الخدمة: فنسمعه يقول: «وَيْلٌ لِي يَا أُمِّي لأَنَّكِ وَلَدْتِنِي إِنْسَانَ خِصَامٍ وَإِنْسَانَ نِزَاعٍ لِكُلِّ الأَرْضِ» (إر15: 10).

2. تمنى الهروب من حقل الخدمة: إذ قال: «يَا لَيْتَ لِي فِي الْبَرِّيَّةِ مَبِيتَ مُسَافِرِينَ، فَأَتْرُكَ شَعْبِي وَأَنْطَلِقَ مِنْ عِنْدِهِمْ، لأَنَّهُمْ جَمِيعًا زُنَاةٌ، جَمَاعَةُ خَائِنِينَ» (إر9: 2).

3. لعن يومهُ: فنسمعه يقول: «مَلْعُونٌ الْيَوْمُ الَّذِي وُلِدْتُ فِيهِ!  الْيَوْمُ الَّذِي وَلَدَتْنِي فِيهِ أُمِّي لاَ يَكُنْ مُبَارَكًا!» (إر20: 14-18).

4. الحيرة من نجاح الأشرار: فقد تساءل: «أَبَرُّ أَنْتَ يَا رَبُّ مِنْ أَنْ أُخَاصِمَكَ، لَكِنْ أُكَلِّمُكَ مِنْ جِهَةِ أَحْكَامِكَ: لِمَاذَا تَنْجَحُ طَرِيقُ الأَشْرَارِ؟»  (إر12: 1-4).

أحبائي ...  حتى لو كانت أوانينا خزفية، دعونا نستند إلى كفاية نعمتهِ في مواجهة آلامنا (2كو12: 9، 10).

ثالثًا: تعضيدات في الآلام


معني اسم إرميا “الرب يُعضدهُ ويدعمهُ”.  فمع زيادة المقاومات والاضطهادات التي واجهتهُ، فإن الرب لم يحرمهُ من تعضيدات لتسندهُ في آلامه.  وإليك عزيزي القارئ بعضها:

1. دعوة الرب: قبل مواجهة إرميا للآلام، سبق الرب ودعاه للخدمة في سن مبكرة، في يوم لا ينساه، إذ قال لهُ: «قَبْلَمَا صَوَّرْتُكَ فِي الْبَطْنِ عَرَفْتُكَ، وَقَبْلَمَا خَرَجْتَ مِنَ الرَّحِمِ قَدَّسْتُكَ.  جَعَلْتُكَ نَبِيًّا لِلشُّعُوبِ» (إر1: 5).  وبكل تأكيد تيقَّنَ إرميا من حقيقة دعوتهِ فتشجَّع في ضيقاتهِ، فقال بعدها: «لأَنَّهُ حَقًّا قَدْ أَرْسَلَنِي الرَّبُّ إِلَيْكُمْ لأَتَكَلَّمَ فِي آذَانِكُمْ بِكُلِّ هَذَا الْكَلاَمِ» (إر26: 15).  وكلما أدركَ الخادم حقيقة دعوة الرب له، كان ذلك معوانًا له في آلامه (قارن أع9: 15، 16).

2. مواعيد الرب: أعطى الرب إرميا المواعيد الثمينة لتشجيعه، فقد قال له: «فَيُحَارِبُونَكَ وَلاَ يَقْدِرُونَ عَلَيْكَ، لأَنِّي أَنَا مَعَكَ، يَقُولُ الرَّبُّ، لأُنْقِذَكَ» (إر1: 18، 19؛ 15: 20)، فاستطاع أن يهتف في عمق الآمه: «وَلَكِنَّ الرَّبَّ مَعِي كَجَبَّارٍ قَدِيرٍ.  مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ يَعْثُرُ مُضْطَهِدِّيَّ وَلاَ يَقْدِرُونَ» (إر20: 11)، وهو اختبار داود وبولس أيضًا (مز23: 4؛ 2تي4: 17)، فهل اختبرت تلك المواعيد أيها القارئ العزيز؟

3. كلمة الرب: لقد وجد إرميا فرحًا وتعزية في كلمة الرب، فراح ينشد: «وُجِدَ كَلاَمُكَ فَأَكَلْتُهُ، فَكَانَ كَلاَمُكَ لِي لِلْفَرَحِ وَلِبَهْجَةِ قَلْبِي» (إر15: 16)، فقد كانت الكلمة له سلوانًا وبلسانًا شافيًا، وينبوعًا فائضًا للأفراح، وهذا عين ما اختبرهُ الكثيرون من رجال الله في ظروفهم الصعبة (انظر مز119: 97، 111؛ أي23: 12؛ 2تي4: 13).  صلاتي أن يعطينا الرب معونة لنلهج في كلمتهِ نهارًا وليلاً، فنتشجع في أي ظروفٍ تواجهنا.

4. متقو الرب: رغم صعوبة الأيام التي عاشها إرميا، لم يحرمهُ الرب من وجود الأتقياء الأمناء، فقد رافقه صديقه باروخ، وكان هناك الركابيون الأمناء النذيرون (إر35)، وأوجد له الرب منفذًا في ضيقتهِ من خلال إنقاذ عبد ملك الكوشي له (إر38).  وبلا شك كان هؤلاء مصدر تشجيع وتعضيد له.  وهذا ما نجدهُ في العهد الجديد أيضًا، لقد وجد بولس إنعاشًا في زيارة أنيسيفورس له في سجنهِ (2تي1: 16).  ليحفظنا الرب في شركة معًا فنشجع صغار النفوس، ونذكر المقيدين كأننا مقيدون معهم (1تس5: 14؛ عب13: 3).

رابعًا: إرميا المتألم والمسيح رجل الأحزان والأوجاع

من متى16: 14 نجد تشابهًا بين إرميا والمسيح لا سيما في الآلام.  ويمكن عرض بعضها:
1. دموع إرميا ودموع المسيح: لقد بكى إرميا كثيرًا على حال الشعب بسبب القضاء الذي كان سيحل به (إر9: 1)، وهو في هذا يُشبه المسيح الذي بكى على أورشليم العاصية (لو19: 41).

2. كلاهما تعرض للبغضة لبرهِ: أبغض الشعب إرميا لأنه شهد على شرورهِ، تمامًا كما حدث مع المسيح إذ قال لتلاميذه: «لاَ يَقْدِرُ الْعَالَمُ أَنْ يُبْغِضَكُمْ، وَلَكِنَّهُ يُبْغِضُنِي أَنَا، لأَنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّ أَعْمَالَهُ شِرِّيرَةٌ» (يو7: 7).

3. كلاهما احتمل العار: يقول إرميا: «يَا رَبُّ ... اعْرِفِ احْتِمَالِي الْعَارَ لأَجْلِكَ» (إر15: 15)، ويقول المسيح: «لأَنِّي مِنْ أَجْلِكَ احْتَمَلْتُ الْعَارَ» (مز69: 7).

4. كلاهما عاش حياة النذير المنفصل: فقال إرميا: «لَمْ أَجْلِسْ فِي مَحْفَلِ الْمَازِحِينَ مُبْتَهِجًا» (إر15: 17)، وعن المسيح نقرأ هذا أيضًا في المزمور الأول (مز1: 1).

5. كلاهما تعرَّض للمذمة والكلام الموجع: (قارن إرميا 20: 10 مع مزمور69: 12؛ مرقس3: 21؛ يوحنا8: 48).

6. كلاهما شُبّه بالخروف: فقال إرميا: «وَأَنَا كَخَرُوفٍ دَاجِنٍ (أليف) يُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ» (إر11: 19).  وهذا ما قيل عن المسيح أيضًا (إش53: 7؛ أع8: 32).

أخيرًا قارئي العزيز: بعد أن تجولنا مع إرميا في آلامهِ، ورأينا كيف أن الرب شجَّعهُ فيها، وتشرف بأن يكون رمزًا باهتا للمسيح رجل الأوجاع، فهل نتشجع ونشجع المتألمين أيضًا مرنمين:

لَيْـتَني أنْظُرُ دَوْمًا     إلى مَنْ عَـنِّي احتَمَلْ
حتى لا أخورَ يَوْمًا  في سَعْيي ورَا الحَمَلْ
     


فؤاد حكيم