أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - الألم
السنة 2013
لا تسترسل فى كآبتك
«لِمَاذَا أَنْتِ مُنْحَنِيَةٌ يَا نَفْسِي؟ وَلِمَاذَا تَئِنِّينَ فِيَّ؟
تَرَجَّيِ اللهَ، لأَنِّي بَعْدُ أَحْمَدُهُ، خَلاَصَ وَجْهِي وَإِلَهِي» (مز42: 11؛ 43: 5)
في عنوان مزمور 42 ترد كلمة “قصيدة” - وبالعبرية “ماسكل” - وتعني “تأمل” و“فهم”.  وعندما نتأمل في هذا المزمور، نفهم أنه اختبار ليهودي تقي، يُعاني مِن الحرمان مِن التمتع بمحضر الله، إذ كان بعيدًا عن الهيكل، وغلبته مشاعر الحزن والألم، لكنه تحوَّل إلي الله، فوجد فيه علاجًا لحالته.  وفي مزموري 42، 43 يُمكننا أن نكتشف أسباب كآبة النفس، ما يُصاحبها من مشاعر أليمة، وكيفية علاجها:
أولاً: ما هي أسباب الكآبة

يصف لنا الكاتب ثلاثة أسباب:
(1) الذكريات الأليمة: «هَذِهِ أَذْكُرُهَا فَأَسْكُبُ نَفْسِي عَلَيَّ»، وكما جاءت في التفسيرية: “حين أتأمل في نفسي تعاودني هذه الذكري” (مز42: 4)؛ كيف كنتُ أُرافق حشود العابدين المُحتفلين بالعيد، وأقودهم في الحضور إلي بيت الله.  إنه يتذكر أوقات العبادة الجماعية السابقة، والرفقة مع جموع المُعيِّدين، لكنه الآن في جفاف روحي شديد.  ومن هنا نرى أن الاستغراق في المقارنة بين الماضي الجميل، بما فيه من ذكريات حلوة، والحاضر الأليم، بما فيه من حرمان وجدوبة، يسبب الاكتئاب.

(2) ظروف ضاغظة شديدة: «غَمْرٌ يُنَادِي غَمْرًا عِنْدَ صَوْتِ مَيَازِيبِكَ.  كُلُّ تَيَّارَاتِكَ وَلُجَجِكَ طَمَتْ عَلَيَّ» (مز42: 7).  وإن كانت هذه العبارة تنصرف في تطبيقها التام علي آلام ربنا المعبود، لكنها من جهة أخري تُصوّر اختبار الكاتب، ومعه كثيرون مِمِن يجتازون في الضيق.  فقد يسمح الله بأحزان تتوالى على الشخص كما تتوالى مياه الشلالات.
والكاتب يصف حالته: «يَا إِلَهِي، نَفْسِي مُنْحَنِيَةٌ فِيَّ، لِذَلِكَ أَذْكُرُكَ مِنْ أَرْضِ الأُرْدُنِّ وَجِبَالِ حَرْمُونَ، مِنْ جَبَلِ مِصْعَرَ» (مز42: 6).  “الأردن”، المنحدر، يُكلّمنا عن الموت، والمقصود “بجِبَالِ حَرْمُونَ” هنا هو الحرمان من الله، و“جَبَل مِصْعَر” أي “صغير” ونري فيه صورة لصغر النفس!

(3) سهام العدو وتعييره: «أَقُولُ لِلَّهِ صَخْرَتِي: لِمَاذَا نَسِيتَنِي؟ لِمَاذَا أَذْهَبُ حَزِينًا مِنْ مُضَايَقَةِ الْعَدُوِّ؟» (مز42: 9) يُشدّد إبليس هجومه علي النفس المتألمة، لكي يُدخلها في حالة من الظلمة النفسية، فيُصوّر لها أن الله بعيد عنها، لا يشعر بها، وأن مراحمه قد انقطعت، وأنها ربما قد نُسيت منه تمامًا.  والهدف من ذلك أن يَبتلع النفس في يأس وفشل.  أليس لهذا يوصينا الكتاب: «اُصْحُوا وَاسْهَرُوا، لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ.  فَقَاوِمُوهُ، رَاسِخِينَ فِي الإِيمَانِ» (1بط5: 8، 9).

ثانيًا: مخاطر حالة الكآبة


تصاحب هذه الحالة مشاعر نفسية سلبية:
(1) صغر النفس: اختبر داود هذه الحالة ووصفها قائلاً: «إِلَى مَتَى يَا رَبُّ تَنْسَانِي كُلَّ النِّسْيَانِ!  إِلَى مَتَى تَحْجُبُ وَجْهَكَ عَنِّي!  إِلَى مَتَى أَجْعَلُ هُمُومًا فِي نَفْسِي وَحُزْنًا فِي قَلْبِي كُلَّ يَوْمٍ!» (مز13: 1، 2).   ربما كتب هذه الكلمات وهو مُطارد من شاول، عندما صغرت نفسه في عينيه جدًا لدرجة أنه قال للملك: «وَرَاءَ مَنْ خَرَجَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ؟ وَرَاءَ مَنْ أَنْتَ مُطَارِدٌ؟ وَرَاءَ كَلْبٍ مَيِّتٍ! وَرَاءَ بُرْغُوثٍ وَاحِدٍ!» (1صم24: 14).  لكن داود لم يستسلم لهذه المشاعر، لكنه شغَّل إيمانه، وتعلَّق برحمة الرب، كالغريق الذي يتعلق بطوق النجاة فنجا «أَمَّا أَنَا فَعَلَى رَحْمَتِكَ تَوَكَّلْتُ.  يَبْتَهِجُ قَلْبِي بِخَلاَصِكَ» (مز13: 5).

(2) انحناء النفس:
وهو اختبار كاتب مزمور 42 «يَا إِلَهِي، نَفْسِي مُنْحَنِيَةٌ فِيَّ» (مز42: 6)، وقد اختبرت حَنَّة التقية - ومعني اسمها “انحناء” - هذه المشاعر الأليمة؛ «فَقَامَتْ حَنَّةُ ... وَهِيَ مُرَّةُ النَّفْسِ.  فَصَلَّتْ إِلَى الرَّبِّ، وَبَكَتْ بُكَاءً».  ولما «عَالِيَ ظَنَّهَا سَكْرَى ... أَجَابَتْ حَنَّةُ: لاَ يَا سَيِّدِي.  إِنِّي امْرَأَةٌ حَزِينَةُ الرُّوحِ وَلَمْ أَشْرَبْ خَمْرًا وَلاَ مُسْكِرًا، بَلْ أَسْكُبُ نَفْسِي أَمَامَ الرَّبِّ» (1صم1: 10-15).  إن انحنت نفوسنا، لنتذكر أن «اَلرَّبُّ عَاضِدٌ كُلَّ السَّاقِطِينَ، وَمُقَوِّمٌ كُلَّ الْمُنْحَنِينَ» (مز145: 14).

(3) الرثاء للنفس: وقد كان لإرميا نصيب وافر منه.  لنسمعه وهو يقول: «أَنَا هُوَ الرَّجُلُ الَّذِي رأَى مَذَلَّةً بِقَضِيبِ سَخَطِهِ.  قَادَنِي وَسَيَّرَنِي فِي الظَّلاَمِ وَلاَ نُورَ.  حَقًّا إِنَّهُ يَعُودُ وَيَرُدُّ عَلَيَّ يَدَهُ الْيَوْمَ كُلَّهُ» (مرا 3: 1-3).  وخطورة هذه الحالة إن الشخص يتصور، خطأً، أنه هو وحده الذي يجتاز هذه الآلام، وأن الله لا يُبالي به، ويصل الأمر إلي فقدان الثقة في الرب؛ «قُلْتُ: بَادَتْ ثِقَتِي وَرَجَائِي مِنَ الرَّبِّ» (مرا 3: 18).  إلا أن إرميا واجه نفسه، وغيَّر من تفكيره، فابتدأ يُعدّد احسانات الرب: «أُرَدِّدُ هَذَا فِي قَلْبِي، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْجُو: إِنَّهُ مِنْ إِحْسَانَاتِ الرَّبِّ أَنَّنَا لَمْ نَفْنَ، لأَنَّ مَرَاحِمَهُ لاَ تَزُولُ.  هِيَ جَدِيدَةٌ فِي كُلِّ صَبَاحٍ.  كَثِيرَةٌ أَمَانَتُكَ» (مرا 3: 21-23).  وكأنَّ الشمس أشرقت عليه مرة أخرى، بعد ليل مظلم طويل.

ثالثًا: كيف تتعامل مع المشاعر السلبية؟
عادة نتعامل معها بواحدة من هذه الطرق:
(1) أن نسكب نفوسنا علي نفوسنا: «هَذِهِ أَذْكُرُهَا فَأَسْكُبُ نَفْسِي عَلَيَّ» (مز42: 4).  وهي حالة أليمة من الانحصار في الأحزان، للحد الذي تُصبح كأنها الطعام الذي تتغذي النفس عليه «صَارَتْ لِي دُمُوعِي خُبْزًا نَهَارًا وَلَيْلاً، إِذْ قِيلَ لِي كُلَّ يَوْمٍ: أَيْنَ إِلَهُكَ» (مز42: 3).  هنا يمتلئ الذهن بالأفكار السلبية، ويشتد الحوار الباطني السلبي.  ولا مخرج إلا بالتحدث مع الرب.

(2) أن نسكب نفوسنا علي الآخرين:
كما قيل عن الأطفال في أيام إرميا إنهم - من شدة الجوع - يذهبون ويسكبون نفوسهم «فِي أَحْضَانِ أُمَّهَاتِهِمْ» (مرا2: 12).  ونتعلَّم من هذا أنه قد نتحول لأحبائنا، ونتكلَّم معهم كثيرًا عن آلامنا وأحزاننا، ثم نتوقف عند هذا الحد، وهذا لن يُريح نفوسنا حقيقة.

(3) أن نسكب نفوسنا قدام الرب: وهذه هي الطريقة الصحيحة وهي «تَوَكَّلُوا عَلَيْهِ فِي كُلِّ حِينٍ يَا قَوْمُ.  اسْكُبُوا قُدَّامَهُ قُلُوبَكُمْ.  اللهُ مَلْجَأٌ لَنَا» (مز62: 8).  هذا ما فعلته حَنَّة التقية، فهي لم تستسلم لأحزانها، ولم تكتفِ بالإفصاح عن آلامها لألقانة زوجها، لكنها اتّجهت مباشرة للرب، وسكبت نفسها قدامه، وماذا كانت النتيجة؟  «مَضَتِ الْمَرْأَةُ فِي طَرِيقِهَا وَأَكَلَتْ، وَلَمْ يَكُنْ وَجْهُهَا بَعْدُ مُغَيَّرًا» (1صم1: 15، 18).

رابعًا: العلاج الصحيح للكآبة
من مزموري 42، 43 نتعلم ثلاثة دروس هامة:
(1) أن ننشغل بمن هو الله لنفوسنا:
o    هو الإله الحي «عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى اللهِ، إِلَى الإِلَهِ الْحَيِّ» (مز42: 2)؛ الوحيد الذي يُروي عطش النفس، ويملأ أعمق احتياجاتها، رغم الجدوبة والجفاف.

o    هو إله حياتي «بِالنَّهَارِ يُوصِي الرَّبُّ رَحْمَتَهُ، وَبِاللَّيْلِ تَسْبِيحُهُ عِنْدِي صَلاَةٌ لإِلَهِ حَيَاتِي» (مز42: 8)؛ هذا يعني إنه يعرفني بالتمام، ويعرف تكويني، لذا أستطيع أن أستودع له كل تفاصيل حياتي، واثقًا أنه يعتني بي.

o    هو إله حصني «لأَنَّكَ أَنْتَ إِلَهُ حِصْنِي» (مز43: 2)، الذي أحتمي به في مواجهة كل اضطرابات الحياة وكل مخاوف الطريق «اِسْمُ الرَّبِّ بُرْجٌ حَصِينٌ، يَرْكُضُ إِلَيْهِ الصِّدِّيقُ وَيَتَمَنَّعُ»، «صَالِحٌ هُوَ الرَّبُّ.  حِصْنٌ فِي يَوْمِ الضَّيق، وَهُوَ يَعْرِفُ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ» (أم18: 10؛ نا 1: 7).

(2) أن ندرك حاجتنا الماسة إلي كلمته:
«أَرْسِلْ نُورَكَ وَحَقَّكَ، هُمَا يَهْدِيَانِنِي» (مز43: 3).  ليس ما يُبدد ظلمة النفس مثل الكلمة، وما تُعلنه عن الله «نَامُوسُ الرَّبِّ كَامِلٌ يَرُدُّ النَّفْسَ (يُحي وينعش).  شَهَادَاتُ الرَّبِّ صَادِقَةٌ تُصَيِّرُ الْجَاهِلَ حَكِيمًا.  وَصَايَا الرَّبِّ مُسْتَقِيمَةٌ تُفَرِّحُ الْقَلْبَ.  أَمْرُ الرَّبِّ طَاهِرٌ يُنِيرُ الْعَيْنَيْنِ» (مز19: 7، 8).  أحبائي لنقرأ كلمة الله، ونفهمها ونردِّدها، ونلهج فيها للقدر الذي به تتجدَّد أذهاننا.

(3) أن لا نفرِّط في الوجود في حضرة الرب:
لاحظ لهفة الكاتب «أَرْسِلْ نُورَكَ وَحَقَّكَ، هُمَا يَهْدِيَانِنِي وَيَأْتِيَانِ بِي إِلَى جَبَلِ قُدْسِكَ وَإِلَى مَسَاكِنِكَ» (مز43: 3).  فلا يوجد مثل محضر الرب، حيث نلتقي به هو شخصيًا، عندئذٍ يفيض القلب بالشكر، وتنطلق الألسنة بالحمد.  والكاتب يتدرج في أشواقه: «فَآتِي إِلَى مَذْبَحِ اللهِ، إِلَى اللهِ بَهْجَةِ فَرَحِي، وَأَحْمَدُكَ بِالْعُودِ يَا اللهُ إِلَهِي»؛ مساكنك، مذبح الله، الله ذاته الذي هو بهجة فرحة (مز43: 3، 4).

إن الرب في صلاحه كافٍ أن يخرج كل نفس حزينة من كآبتها، ويغمرها بسلامه، ويقودها للفرح فيه.  آمين.

فريد زكي