أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - الألم
السنة 2013
الآلام فى حياة أيوب
«هَا نَحْنُ نُطَّوِبُ الصَّابِرِينَ.  قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ.  لأَنَّ الرَّبَّ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ» (يع5: 11)

اصطدمت بأيوب رياح عاصفة وأمواج عاتية، كشفت عن إنسانيته الهشة، وعن إيمانه الأصيل، فلمعت شخصيته في وادي المحن وعمق التجارب.  لقد كان عبدًا لله، ورجلاً كاملاً مستقيمًا، يتقي الله، ويُحيد عن الشر (أي1: 1، 8؛ 2: 3).

امتُحن أيوب في أولاده وبناته، في ماله ومقتنياته، وكانت بلواه محرقة، وكانت أفكار أصحابه عن تلك البلوى أشد تجاربه، فسبَّبت له آلامًا نفسية رهيبة، وفي عتابه لم يُخْفِ افتخاره بما كان له من بِرّ (أي29؛ 31).  ولنلاحظ أن الامتحان كله أتى من الله الذي سمح للشيطان أن ينفذ ما قصده في أيوب، لكن في حدود لا يمكن أن يتجاوزها، ولما اكتُسحت كل مقتنيات أيوب، ومات أولاده وبناته، قام وخَرَّ على الأرض وسجد، وقال: «عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَعُرْيَانًا أَعُودُ إِلَى هُنَاكَ.  الرَّبُّ أَعْطَى وَالرَّبُّ أَخَذَ، فَلْيَكُنِ اسْمُ الرَّبِّ مُبَارَكًا» (أي1: 21). 

ومرة أخري سمح الرب للشيطان أن يضرب أيوب بقرح رديء من باطن قدمه إلى هامته، فأخذ لنفسه شقفة ليحتك بها وهو جالسٌ في وسط الرماد «فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَنْتَ مُتَمَسِّكٌ بَعْدُ بِكَمَالِكَ؟  بَارِكِ (جَدِّفْ) عَلَى اللهِ وَمُتْ!(Curse God and die)» (أي2: 9).  وطبيعي أن الزوجة تنهار أولاً باعتبارها الإناء الأضعف، فتدهور إيمانها وعبَّرت عن ذلك بعبارتها السابقة، لكن أيوب أجابها قائلا: «تَتَكَلَّمِينَ كَلاَمًا كَإِحْدَى الْجَاهِلاَتِ!  أَ الْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟» (أي2: 10). 

نأتي بعد ذلك إلى دور أصحابه الثلاثة: أليفاز التيماني، وبلدد الشوحي، وصوفر النعماتي؛ وهم رجال متقدّمون في الأيام، وذوو مكانة، وعلى درجة من التقوى، وإن كان هناك فرق بين معاملاتهم الخاطئة وبين صفاتهم الشخصية.  هم نظير أيوب كانوا على الطريق الخاطئ، ربما كانوا أكثر منه خطًا.  هؤلاء الرجال سمعوا بخبر أيوب، وكانوا أوفياء، وذهبوا إلى صديقهم ليرثوا له ويعزوه.  بواعثهم كانت سامية، لكنهم لم ينجحوا في مهمتهم.  لقد انفجروا باكين ومزقوا ثيابهم وجلسوا معه على الأرض، وصمتوا سبعة أيام.  هذا يؤكِّد حقيقة رثائهم، بكوا مع الباكي، بل إن سكوتهم يكشف عن عمق تأثرهم.  وبعد أن أفاقوا من الصدمة أخذوا يفكرون لماذا حلَّ هذا الشر بصديقهم؟  ربما وجدوا الجواب في المبادئ التي تعلَّموها؛ إن الله يُعاقب الفجار، ويُكافئ الأبرار، إذًا لماذا حدث كل هذا لأيوب؟ 

من ناحية أخرى كان هؤلاء الأصحاب في خصومة وجدل مع صديقهم أيوب، والفكر الموحَّد للأصحاب الثلاثة يغلب عليه هذا الاعتقاد: أن كل ألم إنما هو ذو طبيعة عقابية، لا تعليمية إرشادية - بينما الفكر الصحيح هو أن الألم يقوم على أساس عدالة الله دون التغاضي عن محبته ونعمته.  لا شك أنهم كانوا أناسًا يخشون الرب، وأنه كان لديهم قدر ضئيل من النور.  وبعد جولات طويلة من الأحاديث المتبادلة، لم يجدوا إجابة شافية، أو حلاً إلهيًا لأحجية الألم في حياة الرجل التقي أيوب.  وكان تقريره عنهم أنهم معزون مُتعِبون، وأطباء بطالون.

لقد فشل أيوب وأصحابه في الوصول إلى الحل الحقيقي لمشكلة الألم، وأصبحت المشكلة أعمق من أن نجد لها الجواب الصحيح، حتى في معاملات الرب مع بعض المؤمنين في الوقت الحاضر، لا نعلم الآن ما يصنعه الرب ولكننا سنفهم فيما بعد (يو13: 7).  لقد بدأ أيوب الحوار مع أصحابه بعد أن عجز عن ضبط نفسه، فلعن اليوم الذي وُلد فيه، والليلة التي تصوَّر فيها في بطن أمه، وتمنى لو مات طفلاً (أي3).

كان أيوب في حاجة للامتحان، تأصَّلت في أعماق قلبه جذور البِرِّ الذاتي، وتُرى هذه البذور ظاهرة في كلماته: «رُبَّمَا أَخْطَأَ بَنِيَّ وَجَدَّفُوا عَلَى اللهِ فِي قُلُوبِهِمْ» (أي1: 5).  وخلال أصحاح واحد (أصحاح 29)، يُشير إلى نفسه أكثر من 40 مرة، في حين يشير إلى الله 5 مرات فقط.  كان يجب أن يُجرد الله أيوب من ذاته.  رأى الله أن أيوب في حاجة إلى أن يتعلم دروسًا، لا يستطيع أن يتعلَّمها سوى من خلال اجتيازه في الامتحان المُرّ.

مس الشيطان ممتلكاته وأولاده، وأما نفسه فلم يسمح له الله أن يمسها، لكن الله سمح بذلك ليُظهر كيف يُهيمن على كل شيء، ويسيطر على كل الأحداث.  يقول الرسول بولس: «لَمْ تُصِبْكُمْ تَجْرِبَةٌ إِلاَّ بَشَرِيَّةٌ.  وَلَكِنَّ اللهَ أَمِينٌ، الَّذِي لاَ يَدَعُكُمْ تُجَرَّبُونَ فَوْقَ مَا تَسْتَطِيعُونَ، بَلْ سَيَجْعَلُ مَعَ التَّجْرِبَةِ أَيْضًا الْمَنْفَذَ، لِتَسْتَطِيعُوا أَنْ تَحْتَمِلُوا» (1كو10: 13).  هذا هو إلهنا الذي بالحكمة يمسك زمام الأمر، وأيضًا كل الخيوط في يده، وهو أمين بطول العمر.

كان أيوب قدّيسًا لله، ولكن كان عليه أن يعرف نفسه، حتى يرفض نفسه بالتمام، ويندم في التراب والرماد.  كان عليه أن يعرف من هو الله، حتى بذلك يُلقي نفسه عليه، ويُبرّره في كل الظروف والأحوال.  وفي اللحظة التي فيها تنكسر النفس في طريق الحكم على الذات، هناك يظهر الله بكل جلال رحمته كالمبرِّر.

وأخيرًا تكلَّم الله مع أيوب، وهو لم يأتِ ليتحاجج مع أيوب، أو ليعطيه جوابًا عن أسئلته، كلا، بل أخرجه إلى الطبيعة الواسعة ليعرف منها كيف يكون الجواب (أي38-41).  فأيوب، وهو يرى خليقة الله التي تحوي السماء والنجوم والبحار والوحوش، هل له القدرة والسلطان على تسييرها وضبطها وفق النظام الدقيق العظيم الذي تسير به؟  لقد أدرك أيوب أن الحياة مفعمة بالأسرار، وأن الإنسان، مهما يبلغ من معرفة وفهم، ستأتي عليه اللحظات التي يقف فيها عاجزًا عن الفهم أمام الجلال الإلهي.  كان على أيوب أن يعرف حجمه الحقيقي أمام الله، وأنه مجرد حفنة من التراب والرماد.

يظهر الله في العاصفة وسط جو مهيب، ويستعرض أمام أيوب بعض الخلائق العجيبة وبعض أسرار الكون- ويسأل أيوب: «أَيْنَ كُنْتَ حِينَ أَسَّسْتُ الأَرْضَ؟  ...  مَنْ وَضَعَ قِيَاسَهَا (حدد أبعادها)؟  ...  أَوْ مَنْ مَدَّ عَلَيْهَا مِطْمَارًا (خيط القياس)؟  عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قَرَّتْ (استقرت)  قَوَاعِدُهَا؟  أَوْ مَنْ وَضَعَ حَجَرَ زَاوِيَتِهَا» (أي38: 4-6).

لم يجد أيوب جوابًا فاستسلم وركع، واعترف من قلبه قائلاً للرب: «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ، وَلاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ أَمْرٌ ...  وَلَكِنِّي قَدْ نَطَقْتُ بِمَا لَمْ أَفْهَمْ.  بِعَجَائِبَ فَوْقِي لَمْ أَعْرِفْهَا ...  بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي.  لِذَلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ» (أي42: 1-6).  وإن كان أيوب وسط مرارة نفسه تفوَّه بكلمات قاسية، لكنه لم يكف عن أن يلقي نفسه على الله، وسرعان ما وجدناه يتأسَّف على ما صدر منه من كلمات.

إن الآلام التي يسمح بها الرب لقديسيه لا بد وأن تعقبها بركة، ولا بد أن تنتهي إلى خير المؤمن متى استودع نفسه بين يدي الله الأمين المحب.  ليتنا نقبل بشكر كل ما يريد الله أن يجيزنا فيه بحكمته الفائقة، لأن هذا يؤول دائمًا إلى بركة نفوسنا، وتقويم حياتنا، وتصحيح مسارنا.  نعم إنه:
بحكمة يعمل
        وذا هو الأفضل

لحُكمِهِ الأمثل
        تواضعي نفسي

لقد سمح الله لعبده أيوب بأن يجتاز سلسلة من التجارب القاسية على الطبيعة البشرية ليُخلِّصه من كل اعتداد بالذات، وليفهم حقيقة ذاته.  وهكذا نرى أيوب التائب أو الراجع إلى الله، بعد أن عرف من هو الإنسان في ذاته، ومن هو الله في محبته وصلاحه.

عاد أيوب إلى ما كان عليه من كرامة، وعادت إليه خيراته مضاعفة، وأُعطيت له عائلة كبيرة قبل أن يموت شيخًا وشبعان أيامًا (أي42: 16).  ونرى مجمل القول في ما ذكره الرسول يعقوب في العهد الجديد: «هَا نَحْنُ نُطَّوِبُ الصَّابِرِينَ.  قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ.  لأَنَّ الرَّبَّ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ» (يع5: 11).


     الله لم يكن ضد أيوب بل معه، لكن أيوب لم يعلم ذلك.
تشارلس ستانلي

    أنا على يقين بأنني لم أنمو في النعمة في أي مكان مثلما حدث على سرير الألم.
تشارلز سبرجين
 

أفرايم فخرى