أعداد سنوية | أعداد سابقة | عن المجلة | إتصل بنا
العدد السنوي - الألم
السنة 2013
يوسف كنموذج للألم
«يُوسُفُ، غُصْنُ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ»، هكذا قال عنه أبوه (تك49: 22)، «وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ (الكرام) لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ» (يو15: 2).  لذلك «مَرَّرَتْهُ وَرَمَتْهُ وَاضْطَهَدَتْهُ أَرْبَابُ السِّهَامِ» (تك49: 23).  كان هذا هو طابع حياة وآلام يوسف التي اختلفت كثيرًا عن حياة يعقوب أبيه، والتي كانت معظمها زرعًا وحصادًا ومعاملات تأديبية.

آلام الطفولة والصبا

لقد بدأت معاناته مُبكِّرًا، عندما وُلد في حاران عند لابان، وكان في تكوينه رقيقًا وغريبًا عن هذا الجو المُشبَّع بالصراعات والغش والخداع والعبادة الوثنية.  كان صغيرًا وقت الهروب من حاران وهو يسمع عن الغدر من لابان.  تعرَّضت حياته للخطر عندما أتى لابان بحمو الغضب قائلاً ليعقوب: «فِي قُدْرَةِ يَدِي أَنْ أَصْنَعَ بِكُمْ شَرًّا» (تك31: 29)، وهو لا يعرف لماذا؟  وزادت أحزانه عندما ماتت أمه راحيل المحبوبة والجميلة مُبكرًا في عز شبابها، ماتت فجأة وهي تلد أخاه بنيامين (تك35)، ونشأ يتيمًا فاقدًا حنان الأمومة، وهو بعد فتى غض.

كان أبوه يحبه أكثر من سائر بنيه لأنه ابن شيخوخته، وابن راحيل، ولأنه بالحق كان مُتميِّزًا في كل شيء؛ فصنع له قميصًا ملونًا، وكان في عينيه كالأمير، وكان هو التعويض الإلهي له عن الحرمان من عاطفة الأمومة (تك37).  تعلَّم أن يتعايش مع الحرمان، كما تعلَّم أن يفرح ويشكر على التعويضات والمراحم الإلهية.  وجد نفسه مُحاطًا بمشاعر البغضة من إخوته الذين عاملوه باحتقار وازدراء، حتى أولاد الجواري، وهو لا يعلم لماذا!  كان يصطدم بسلوكيات إخوته وأخلاقياتهم الرديئة، وهو حساس ونقي ويخشى الرب منذ صباه، وهذا أضاف إلى آلامه ومعاناته، أنه يعيش وسط الفساد ولا يجد مبادئ البر والعدل في البيت.  كان يعرف ما يليق وما لا يليق بقداسة الله، ولهذا كان مُضطرًا أن يأتي بنميمتهم الرديئة إلى أبيه.  وهذا جعلهم يبغضونه أكثر.  حلُم حُلمين، وكانا بمثابة إعلان من الله أنه سيملك مُلكًا ويتسلط تسلطًا، وأن إخوته سيسجدون له؛ فازدادوا أيضًا بغضًا له من أجل أحلامه ومن أجل كلامه.  وفي كل هذا كان أبوه هو التعويض الرائع الذي رتبته له رحمة الله، ومن خلاله وجد الحب والحنان، والأمن والأمان، والشعور بالقيمة والكرامة، وكان راضيًا وشاكرًا.

آلامه في شبابه المُبكر

في ذات يوم دعاه أبوه ليذهب ويفتقد سلامة إخوته الذين كانوا يرعون عند شكيم.  وكان الطبيعي لهذا الابن المطيع الذي يحب أباه، إزاء كل ما عمله أبوه معه، أن يقول له: هأنذا، على الرغم من مشاعر إخوته البغيضة نحوه.  ذهب ليحقِّق رغبة أبيه مهما كانت الكلفة والتضحية.  انطلق بكل نشاط القلب في طريقه مدفوعًا بالمحبة الشديدة لأبيه، وأيضًا لإخوته، دون أن ينتظر منهم شيئًا.  حمل لهم الطعام، ورسالة الحب والاهتمام.  لم يكن يعلم ما تحمله الأيام له، ولا ما سيصادفه في الطريق، ولا كان يعقوب يعلم أنه سيغادر البيت، ولن يعود إلى هناك مرة أخرى.  لم يعبأ بشيء ولم تكن نفسه ثمينة عنده.  كان يفكر في شيء واحد هو أن يعمل مشيئة أبيه ويحقّق مسرّته.  وصل إلى شكيم، لكنه لم يجد إخوته هناك.  وكان من الممكن أن يعود وقد فعل ما كُلف به، لكنه مضى أبعد من شكيم ووجدهم في دوثان.  فرح إذ رآهم لكي يتمم المهمة على أكمل وجه.  أما هم «فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ مِنْ بَعِيدٍ ...  قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هُوَذَا هَذَا صَاحِبُ الأَحْلاَمِ قَادِمٌ.  فَالآنَ هَلُمَّ نَقْتُلْهُ وَنَطْرَحْهُ فِي إِحْدَى الآبَارِ وَنَقُولُ: وَحْشٌ رَدِيءٌ أَكَلَهُ.  فَنَرَى مَاذَا تَكُونُ أَحْلاَمُهُ» (تك37: 18-20).  حاول رأوبين أن ينقذه من أيدهم فاقترح أن يطرحوه في البئر ولا يسفكوا دمه.  فكان لما جاء إليهم أنهم خلعوا عنه قميصه الملون، وأخذوه وطرحوه في البئر، وكانت فارغة ليس فيها ماء.  ثم جلسوا ليأكلوا طعامًا.  لقد عاملوه بقسوة ووحشية وهو الرقيق.  تحجَّرت عواطفهم وهم يسمعون صوت بكائه وتوسلاته لما استرحمهم ولم يسمعوا له.  كان ثقيلاً على نفسيته أن يحدث ذلك من إخوته وليس من أشرار غرباء في دوثان.  رفعوا عيونهم فرأوا قافلة إسماعيليين مقبلة، ونازلة إلى مصر «فَقَالَ يَهُوذَا لإِخْوَتِهِ: مَا الْفَائِدَةُ أَنْ نَقْتُلَ أَخَانَا وَنُخْفِيَ دَمَهُ؟  تَعَالُوا فَنَبِيعَهُ لِلإِسْمَاعِيلِيِّينَ».  فسحبوا يوسف وأصعدوه من البئر، وباعوه بعشرين من الفضة.  لقد بيع يوسف عبدًا، آذوا بالقيد رجليه، وفي الحديد دخلت نفسه.  تعرَّض لأقسى صور الإيذاء النفسي والجسدي، وحدث كل هذا وهو ابن سبع عشرة سنة.

لقد عصفت به الحياة، وغدر به إخوته، والشمس قد لوَّحته، وفي يوم واحد وجد نفسه وقد حُرم من أبيه، وحُرم من أخيه الصغير بنيامين، وحُرم من القميص الملون علامة التميز والحب من أبيه، وحُرم من البيت، وحُرم من الحرية ومن الكرامة الإنسانية.  لقد أظلمت الدنيا من حوله بالغيم الثقيل، ولم يبق له في الحياة سندًا سوى الله الذي تعلق به كمحط آماله الوحيد.  انحنت نفسه إلى التراب، وانسحق وهو يرى نفسه عبدًا وسط قافلة الإسماعيليين الذين أنزلوه إلى مصر وباعوه هناك.  صار كل هذا عليه وهو لا يعلم لماذا؟  لقد تألم في طريق الطاعة والبر وصُنع الخير.  بدل محبته خاصموه ووضعوا عليه شرًا بدل خير وبغضًا بدل حُبه، وهذا زاد من أحزانه.  إنهم في شرهم وقسوتهم لم يذكروا أن يصنعوا رحمة، بل طردوا إنسانًا مسكينًا وفقيرًا ومنسحق القلب ليميتوه نفسيًا ومعنويًا.  بالتأكيد دموعه لم تجف بطول الرحلة، وصعبت عليه نفسه، لم يجد من يتكلم معه سوى الرب الذي لم يتخلَ عنه بل وقف معه وسنده.  كانت جذوره عميقة وأساساته متينة، لهذا كان يميل وقت الإعصار، إنما غصنٌ لا ينكسر.  استعاد اتزانه بعد الصدمة واستطاع أن يرفع عينيه إلى فوق ليرى أن القدير لم يزل موجودًا ولم يزل محبًا وحكيمًا ويهيمن ويسيطر على الأحداث ويمسك بزمام الأمور، ويهمس في أعماقه قائلاً: “من عندي هذا الأمر”.  وهو بدوره يقول مع المرنم: سلمتُ أمري في يديك، وإنني راضٍ وصابر.  كان يحزّ في نفسه الجحود، وأنه صغير إلى هذا الحد في عيون إخوته، حتى إنهم قيَّموه بعشرين من الفضة، لكنه كان متأكدًا أنه كبير في عيني الرب، وكأنه يردد كلمات الترنيمة: لو كان غيرك سيدي ..  لو كان بي يتحكم ..  من أين كنت سأُرحم ..  فأنت وحدك ترحم ..  لوكان غيرك سيدي ..  لو كنت منه أُقيَّم ..  من أين كنت سأُرفع ..  وبذا المقام أُكرَّم.  كان يفكِّر في مشاعر أبيه وانسحاقه وحزنه عليه، وهذا أضاف إليه حزنًا على حزن، فقد كان يعرف كيف كان يحبه.  دموع أبيه كانت غالية عنده، وتوقَّع أنه سيندم ولن يغفر لنفسه أنه هو الذي أرسله.  ومن جانبه كان سيفتقد الحضن الوحيد الذي كان يحبه بعد موت أمه.  كان متحيرًا ولا يفهم: كيف؟ ولماذا؟ وحتى متى؟  وربما كان يسأل الرب ولا يجد الإجابة، وصمت السماء أمام دموعه وتضرعاته لفترات طويلة كان يضيف إلى وثقه ضيقًا.

اشتراه فوطيفار رئيس الشرط من يد الإسماعليين؛ فكان يخدم في بيت فوطيفار.  لبس رداء العبد والخادم بعد أن كان يلبس القميص الملون.  ولأول مرة في قصته نقرأ هذه العبارة المعزية والتي تكررت عنه أربع مرات: «وَكَانَ الرَّبُّ مَعَ يُوسُفَ فَكَانَ رَجُلاً نَاجِحًا».  لقد شعر أن الرب ليس بعيدًا عنه، وأنه في أمانته لن يتركه ولن ينساه.  تعايش مع الحرمان والذل والظلم، وتقبَّل أموره من يد الرب الذي كان يشرف بنفسه على كل التفاصيل.  كان يخدم بنفسٍ راضية، ولم يرفض الواقع ولا تذمَّر على أعمال العناية المُحبِطة، فكان دائمًا حسن الصورة وحسن المنظر، بشوش الوجه، مبتسمًا، ويحتفظ بسلامه الداخلي. 

هبَّت عليه ريح الشمال وتبعتها ريح الجنوب لتقطر الأطياب.  ووسط الظلام الحالك وتنوّر الدخان، كان هناك مصباح النار الذي ينير المشهد ممثَّلاً في مَعيّة الرب ولطفه ومراحمه كل صباح.  لقد عامله سيده برفق شديد ووكَّله على كل ما كان له، وكانت يد الرب واضحة لتبارك بيت المصري بسبب يوسف. 

تتوالى الأحداث وتتكرر كلمة «وحدث» خمس مرات في قصته لتؤكِّد أن الرب هو صانع الأحداث والمُتحكِّم فيها.  ويتعرَّض يوسف للتجربة في بيت فوطيفار من المرأة الشريرة التي كلمته يومًا فيومًا فلم يسمع لها، ورغم الإلحاح الذي أسقط كثيرين فقد كان يمتلك إرادة حديدية ليرفض وبإصرار أي حوار مع الخطية.  كان يعرف متى يقول نعم ومتى يقول لا.  إنه “المطيع الذي قال لا”.  وكانت حجته هي: «كَيْفَ أَصْنَعُ هَذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى اللهِ؟» (تك39: 9).  ولا شك أن رفض الخطية والرغبات الطبيعية فيه ألم للجسد، لكنه عاش اختبار: «إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ.  قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ» (رو8: 36).  لقد جاءه الشيطان كالأسد، وشدَّد الهجوم عليه ليسحقه، لكنه فشل، ولم يفقد يوسف الثقة في صلاح الله.  فجاءه كالحية عن طريق الإغراء ففشل أيضًا، وكان ثابتًا وصامدًا كالصخر.  أخيرًا جاءه مرة أخرى كالأسد، فاتهمته زورًا امرأة فوطيفار واشتكت عليه، وهو آثر الصمت ولم يفتح فاه ولم يدافع عن نفسه، وترك قضيته في يد الرب الذي يرى في الخفاء ويجازي علانية.  وربما توقع أن الرب سيُظهِر مثل النور بِرّه وحقّه مثل الظهيرة، وأنه حتمًا سيُنصف عبده الذي وقف في صفه وضبط نفسه ولم يتصرف تصرفًا مُهينًا في حق الله، مع أن الله هو الذي سمح له بكل هذه المعاناة، لكنه قط لم يغير موقفه منه وصورته لم تهتز على الإطلاق في عينيه، ومن أجل اعتبارات قداسته تحمَّل كل النتائج، لكن الأكثر إيلامًا أن الله لم يتدخَّل ولم يُبرره في ذلك اليوم، وترك فوطيفار يضعه في بيت السجن ظلمًا.

ولكنه في بيت السجن كان الرب معه وبسط إليه لطفًا، وجعل له نعمة في عيني رئيس بيت السجن، فوكَّله على المساجين.  ظل يخدم في السجن بنفس راضية ويتعايش مع الظروف الصعبة.

آلامه في أحلى سنوات شبابه

المدة طالت والضغوط زادت، لم يجد إجابة من الرب تسعفه وتطمئنه، وصمت السماء كان سببًا في مزيد من حيرته.  ساءت به الأحوال وزادت أحزانه، طال انتظاره وخابت توقعاته وآماله.  لبس ثياب السجن، وأكل طعام السجن، وعايش المساجين وهو البريء.  الشيء الذي خفَّف عنه أنه كان يواجه التجارب بضمير هادئ ومستريح أنه لم يفعل خطية وأنه في المشيئة الإلهية.  ظل يخدم المساجين ويخفِّف عنهم رغم أحزانه.  كان معه ساقي ملك مصر وخبازه اللذان أذنبا إلى سيدهما ملك مصر، وحلم كلاهما حُلمًا في ليلة واحدة.  رآهما مغتمين فسألهما عن السبب.  قالا له: «حَلُمْنَا حُلْمًا وَلَيْسَ مَنْ يُعَبِّرُهُ».  وبتلقائية تامة قال لهما: «أَ لَيْسَتْ للهِ التَّعَابِيرُ؟  قُصَّا عَلَيَّ».  لم يفقد الثقة في الله ولا في الأحلام، مع أن تجربته كانت مفشلة للغاية في هذا الشأن.  فسََّر الحلم للساقي وبشَّره بالأخبار السارة أنه بعد ثلاثة أيام سيرفع فرعون رأسه ويرده إلى مقامه ليعطي الكأس في يد فرعون.  وبتلقائية، عشم فيه أن يذكره لفرعون ليخرجه من الحبس، ولم يكن هذا أمرًا عسيرًا أو مُكلفًا.  لم يذكر شيئًا عن إخوته ولا عن امرأة فوطيفار، بل كل ما قاله أنه سُرق من أرض العبرانيين، وأنه في مصر لم يفعل شيئًا حتى وضعوه في السجن.  وعده الساقي بالوفاء لكنه بالأسف لم يفعل، ولم يذكره بل نسيه (تك40).

ظن في ضعفه الإنساني، بعد أن مضت عليه إحدى عشرة سنة، أن الرب قد تركه والسيد قد نسيه، فلجأ إلى المعونة البشرية، وكان بالحقيقة مظلومًا ومهجورًا، لكنه تعلم أنه لا نفع يُرجى من عون إنسان، وأنه باطلٌ هو خلاص الإنسان.  حَلَّ به الإحباط، وانتُزع كل رجاء في النجاة.  لكنه عاد ينتظر المواقيت الإلهية، مُسلِّمًا نفسه بين يدي الرب الحانيتين، واثقًا أن الأمور دائمًا بين يديه.  كان يصرخ من الذل، وكانت الإجابة مزيدًا من الذل إلى وقت مجيء كلمته.  

 وحدث من بعد سنتين من الزمان، أي بعد أن صار له ثلاث عشرة سنة في الذل والحرمان، أن الرب أشرف بنفسه على الأحداث وحرَّك الأمور لصالح يوسف، وكان ذلك من خلال حُلم فرعون.  والساقي الذي نسيه بعد يومين تذكَّره بعد سنتين.  أسرعوا به من السجن ليعتلي العرش، وتبدأ سنوات الرفعة والمجد والإكرام الإلهي على غير توقّع، ويظهر أن الله حقيقة حيّة، وأنه يرى ويجازي، وأنه يعمل الكل حسنًا في وقته، ويجعل كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبونه.  وفي النهاية استطاع أن يقول: «اللهَ أَنْسَانِي كُلَّ تَعَبِي وَكُلَّ بَيْتِ أَبِي»، بل إن «اللهَ جَعَلَنِي مُثْمِرًا فِي أَرْضِ مَذَلَّتِي» (تك51:41، 52).  

محب نصيف